لعل أبرز التغيرات التي طرأت على الضفة الغربية وقطاع غزة، هي تلك التغيرات المرتبطة بتركيبتها السكانية والاجتماعية، نتيجة اخضاعها لسلسة من الإجراءات والقوانين والممارسات، التي فرضها المحتل، والتي تحكمت في مسارها العملية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فيهما، وضمن معطيات الشروط الإسرائيلية، وعليه، فإن خضوع المنطقتين للاحتلال الإسرائيلي، كان له انعكاساته، الفورية منها واللاحقة، وعلى مختلف المجالات، والمتعلقة بالتركيبة السكانية، وسوق العمل، وأنماط التشغيل، والأوضاع الصحية، والخدمات التعليمية، وبشكل أكثر تحديداً، انعكست على مستوى توزيع الدخل في الضفة والقطاع، نظراً لما أحدثه الاحتلال من انهيار في البنى الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية .
يقول ماركس: "عندما نتفحص بلداً معيناً من زاوية الاقتصاد السياسي، نبدأ بدراسة سكانه، وانقسام هؤلاء السكان إلى طبقات، وتوزعهم في المدن والريف، فالسكان هم الأساس ومادة العمل الاجتماعي الإنتاجي برمته، مع ذلك، إذا تفحصنا هذه الطريقة عن كثب، فالسكان هم فكرة مجردة إذا أهملنا مثلاً الطبقات التي يتكونون منها، وهذه الطبقات هي بدورها كلمة جوفاء إذا تجاهلنا العناصر التي ترتكز إليها، مثل العمل المأجور والرأسمال...الخ".
إن المدخل الطبيعي لدراسة أي مجتمع من المجتمعات هو النظر في مرآة " الحالة السكانية "، "فالبعد السكاني يختص بكل ما يؤثر في قدرة أفراد المجتمع على التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، من زاوية البشر أنفسهم، من النواحي الكمية والنوعية والتركيب السكاني، الذي يشمل التكوين الداخلي أو العلاقات النسبية فيما بينهم من زوايا التقسيم النوعي، والتوزيع العمري، والتوزيع المكاني أو الجغرافي"، وهي عناصر أو أبعاد تشكل في مجموعها "الدائرة السكانية" التي تتداخل مع بقية الدوائر الاجتماعية وتصب جميعها في بوتقة واحدة هي ذاك المجتمع نفسه، لكن أهمية الحالة السكانية تكمن في أنها أحد أهم المؤشرات التي تكشف بوضوح المشاكل الرئيسية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مجتمعنا.
بلغ مجموع أبناء شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة عشية الانتفاضة الأولى 9/12/1987 وبداية عام 1988 حوالي (633) ألف نسمة موزعين على أربعة عشر تجمعاً سكنياً ما بين مدينة وقرية، إضافة إلى 8 مخيمات للاجئين، الذين يمثلون حوالي (70%) من مجموع سكان القطاع.
وقد طرأت تحولات على الخارطة الديمغرافية للقطاع تنطوي على خصائص تبرز ذلك التمايز الفلسطيني من الناحيتين القانونية والوطنية، وحسب التقديرات فإن (230) ألفاً من هؤلاء اللاجئين يقيمون خارج مخيمات القطاع الثمانية، ولهذه الأرقام دلالات عميقة المغزى، فهي تعني أن عدد اللاجئين المقيمين في هذه المخيمات حوالي (200) ألف نسمة بينما يتوزع العدد الأكبر من اللاجئين على مختلف أنحاء القطاع، إلى جانب أبنائه الأصليين إذا جاز التعبير، أي أن هنالك حجماً هائلاً من التوحد في العلاقات الاجتماعية بين السكان، يصعب معه فرز اللاجئ عن المواطن، بل ويمكن إيجاد مئات الأمثلة التي توضح التشابه في الأحوال الاجتماعية المتدنية بين المواطنين واللاجئين، دون أية فروق، إذ ان التوحّد في البؤس والفقر والمعاناة هو أمر مشترك بين اللاجئين في المخيمات وبين المواطنين في الأحياء الشعبية مثل، الشجاعية والزيتون والتفاح وفي رفح وخانيونس ناهيك عن الفقر المدقع في أوساط سكان القرى (بيت حانون وبيت لاهيا والنزلة وجباليا وخزاعة وعبسان وبني سهيلا)، هذا التشابه في المعاناة لم يعد يتيح إمكانية الفرز بين المواطن واللاجئ، رغم صحة الحديث عن تمايز المخيم على صعيد بروز دوره الوطني وخصوصيته النضالية.
وفي عام 1993 بلغ عدد سكان قطاع غزة (748) ألف نسمة، وبلغ حجم القوى العاملة آنذاك (148000) عامل موزعين على مختلف المهن منهم أكثر من (68) ألف عامل كانوا يعملون في "إسرائيل" عشية اندلاع الانتفاضة، أي أن حجم القوى العاملة يعتبر كبيراً بالنسبة إلى عدد السكان، كما تتميز القوى العاملة بارتفاع نسبة الفئات العمرية الشابة.
والجدير بالذكر أن ما يقارب من (46% - 50%) من مجموع العمال في قطاع غزة، قد عملوا في السوق الإسرائيلي خلال تلك السنوات وما تلاها حتى عام (1993)، حيث بلغت مساهمة دخل هؤلاء العمال في الناتج الإجمالي لقطاع غزة نسبة (55%).
وفي هذا السياق، "نلاحظ أن حوالي (97%) من العاملين في "إسرائيل" لم يكن لديهم بديل أو اقتصاد مساعد، زراعي مثلاً، أو صناعي أو خدماتي، علاوة على ارتفاع الأجور في السوق الإسرائيلي، الأمر الذي خلق نوعاً من الازدهار الاقتصادي الشكلي للطبقة العاملة، بعيداً عن أي ارتباط تنموي حقيقي في الاقتصاد الفلسطيني، وهذا ما كان يهدف إليه الاحتلال الإسرائيلي من حيث ضرب التطور الاقتصادي عموماً، وقطاعي الصناعة والزراعة خصوصاً.
وفي هذا الجانب نشير إلى أن قيادة (م.ت.ف) لم تهتم بتحسين وتطوير القطاعات الإنتاجية، خاصة قطاعي الصناعة والزراعة، إلى جانب ضعف الأجور وتراجع فرص العمل، وتزايد تفاقم الأوضاع الحياتية لفقراء القطاع، الأمر الذي دفعهم إلى العمل في السوق الإسرائيلية، وبالرغم من ذلك ظل عمالنا في الضفة والقطاع – كما كانوا دوماً- الوقود الحقيقي لحركة المقاومة الفلسطينية بعد عام (1967)، إذ قدموا أثناء الانتفاضة (1987-1990) (338) شهيداً وشهيدة وأكثر من (33) ألف جريح بلغ عدد المعتقلين في نفس الفترة (36) ألف معتقل.
توزيع الأراضي كما في عام 1993:
إن أراضي قطاع غزة تنقسم إلى الأراضي التي يملكها الفلسطينيون والأراضي التي اغتصبتها سلطات الاحتلال بالإكراه والمصادرة، الأولى تنقسم إلى نوعين:
1. مناطق البناء أو السكن ومساحتها (50) ألف دونم.
2. المناطق الزراعية والطرق ومساحتها (200) ألف دونم، منها (50) ألف دونم تقريباً تستحوذ عليها العائلات الشبه إقطاعية أو التقليدية والتي لا يتجاوز عددها (30) عائلة، بينما مساحة المخيمات الثمانية لا يتجاوز (5500) دونم. ولا شك أن هذا الوضع يفتقر إلى الكثير من التوازن، ولابد من السعي لإيجاد حل وطني عادل لهذه الإشكالية المعقدة في المستقبل.
أما المساحة المتبقية والتي تبلغ (115) ألف دونم، فهي أراضي كانت تحت سيطرة الاحتلال وتتوزع على النحو التالي: أراضي تتبع المستوطنات الصهيونية العشرين وتبلغ مساحتها (32.5) ألف دونم، (1900 دونم) منها لمعسكرات الجيش الإسرائيلي، و(11.6) ألف دونم طرق للجيش والمستوطنات، و(58) ألف دونم مؤجرة لما يسمى بالمجلس الإقليمي، و(10) آلف دونم أحراش (المصدر هنا تقرير بنفنستي).
من ناحية أخرى لابد من الإشارة في هذا المجال إلى ممارسات الاحتلال الصهيوني، فيما يتعلق بمسألة توزيع المياه في القطاع، وهي مرتبطة بالأرض وبالكثافة السكانية في آن واحد، فالاحتلال كان يخصص للمستوطنات في القطاع حوالي (50) مليون متر مكعب من الماء سنوياً، بينما لا يتجاوز نصيب أبناء البلد الفلسطينيين (110) مليون متر مكعب، مع العلم أن عدد المستوطنين لا يتجاوز(4) آلاف نسمة، وهذا يعني بوضوح أن كل مستوطن صهيوني في القطاع كان يحصل يومياً على 27 متر مكعب من مياه غزة، بينما تهبط حصة المواطن الفلسطيني من مياهه إلى نصف متر مكعب يومياً، للزراعة والاستعمال المنزلي وغير ذلك.
حول الوضع الطبقي (1967 - 1993):
استناداً إلى التحليل الطبقي أو العلمي فإن أي مجتمع من المجتمعات لا بد أن يتكون من عدة طبقات، لكن ظروف القطاع وأوضاعه الاجتماعية و الاقتصادية في ظل الاحتلال البغيض جعلت منه حالة اجتماعية متميزة (دون أن تنفي كما قلنا في السابق ملامح الوضع أو التقسيم الطبقي داخله)، فمثلاً كان لتدهور الأوضاع الزراعية بفعل الأوامر العسكرية الإسرائيلية، التي تحول دون أي تطور حقيقي في هذا الجانب، وكذلك بقاء مساحة الأراضي الزراعية ثابتة تقريباً منذ عام (1967) حتى بداية عام (1993) حوالي (200 ألف دونم)، في مقابل النسبة العالية جداً من الزيادة السكانية، هذا الوضع لا نستطيع معه التأكيد على وجود طبقة من الفلاحين بالمعنى الكلاسيكي للطبقة، إذ أن هناك تداخلاً إلى حد كبير بين الفلاحين الأجراء والعمال، وليس من السهل الفصل بينهما، هذا بالطبع لا ينفي الحديث عن عدد قليل من كبار الملاكين القدامى والجدد، يتمتعون بامتيازات طبقية ضمن تحالفهم وتداخلهم في شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية مع كبار التجار (الوسطاء أو السماسرة أو الكومبرادور) كما أسلفنا من قبل، بحيث يشكلون معاً "طبقة" متجانسة المصالح نستطيع أن نطلق عليها "التحالف الطبقي للبورجوازية العليا الزراعية والتجارية" الذي يتطلع دوماً إلى المحافظة على مصالحه وأوضاعه المتميزة. ومن المعروف ان الزعامات التقليدية أو التاريخية في هذا التحالف قد ضعف دورها السياسي بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام (1967).
أما الشرائح الفقيرة من العمال والفلاحين والكادحين، فقد تعرضوا –وما زالوا - لأقسى أنواع الاضطهاد الطبقي الاجتماعي والوطني، لا فرق هنا بين لاجئ أو مواطن. ثم تأتي الطبقة البورجوازية الصغيرة لتشكل في معظم شرائحها (الميسورة أو العليا، الوسطى، الفقيرة) نسيجاً اجتماعياً متنوعاً ومتعدداً ليس على المستوى الاجتماعي فحسب، وإنما أيضاً على المستوى السياسي، حيث توزعت شرائح البرجوازية الصغيرة على كافة الأحزاب والتيارات اليمينية والوطنية والقومية والأممية والدينية في غمار العمل الوطني عموماً، والانتفاضة التي عاشها أبناء شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع ديسمبر 1987.