Menu

نساء على رصيف الغربة

حسن لمين

سعاد رغاي واحدة من المبدعات المغربيات، عرفت كيف تشق طريقها في عالم السرد، وقد استقطبتها القصة القصيرة لتجد في كتابتها متنفسا لها، ومجالا للبوح. وقد أصدرت باكورتها القصصية سنة 2000 تحت عنوان "نساء على رصيف الغربة"، هذه الباكورة التي اعتبرتها سعاد رغاي مجرد قصاصات استهلكت منها الكثير من الجهد والكثير من الصدق، وفي سنة 2002 أصدرت مجموعة قصصية ثانية وسمتها بعنوان "في قفص الاتهام" ثم مجموعة ثالثة موسومة ب "مواجع أنثى" عام 2008، إضافة إلى أعمال سردية أخرى. وفي هذه القراءة المتواضعة سنحاول الاقتراب من المجموعة القصصية الأولى لنقف بشكل جلي على عالم الكتابة القصصية لديها.

إن أول شيء يمكن قراءته قبل الانغماس في عالم هذه المجموعة القصصية هو العنوان الذي نعتبره عتبة يمكن من خلالها أن نلج عالم النص، على اعتبار أن العناوين لا توضع بشكل اعتباطي بل هي غالبا ما تنطوي على عدة دلالات، وقد تختصر الدلالة العامة للنص، أو تساهم في تحديد بل تبئير الأفكار التي يقوم عليها النص، لذلك دعاها الناقد الفرنسي "جيرار جينيت" بالموازيات النصية، لأن دلالتها تقارب الدلالة العامة للنص، وبذلك تصبح عتبة ضرورية للدخول إليه.

يتكون عنوان المجموعة من أربع كلمات (نساء على رصيف الغربة) وهو عنوان طويل بالمقارنة مع أغلب إن لم نقل كل العناوين التي تحملها المجاميع القصصية الصادرة في المغرب، والتي تقتصر على كلمتين تكون إحداهما معطوفة على الأخرى أو نعتا لها أو مضافة إليها، ويمكن أن نمثل لذلك بالعناوين التالية: "الصابة والجراد" (1) و "الصمت الناطق" (2) و"سلخ الجلد"... هذا على المستوى التركيبي، أما على المستوى الدلالي فإن العنوان لدى سعاد رغاي في هذه المجموعة ينبئنا عند قراءة الكلمة الأولى لأول نظرة (نساء) أن نصوص المجموعة لا شك ستتطرق لتيمة المرأة التي تشكل نصف المجتمع، أما إذا أتممنا قراءة العنوان سندرك بوضوح أن الأمر يتعلق بالنساء او بالمرأة التي تعيش الغربة والضياع، يعني المرأة المهمشة، المرأة التي ضاع حقها، المرأة التي تتعرض للعنف من قبل الرجل، المرأة الغريبة في مجتمعها، المرأة الفاقدة للحنان. وهذا ما نفهمه بوضوح أكثر في العتبة الثانية وهي الإهداء حيث تقول الكاتبة: "إلى كل امرأة جائعة إلى الحنان إلى كل امرأة مجهولة الاسم والعنوان"، والملاحظ أن هذه المرأة هي التيمة الأساس التي ستطغى على الكتابة لدى سعاد رغاي سواء في هذه المجموعة التي هي موضوع قراءتنا أو في نصوص أخرى بعد ذلك.

يتوزع الفضاء النصي لمجموعة (نساء على رصيف الغربة) على خمسة وثلاثين نصا قصصيا قصيرا، ويمكن أن نذكر من بينها هذه العناوين "زمن اللاحب"، "أحلام ضائعة"، "ضعف امرأة"، "الشك"، "جراح الماضي"...، وهي كلها نصوص قصيرة جدا لا تتجاوز ثلاث صفحات على الأكثر، وهذه ميزة أخرى تميزت بها هذه المجموعة، فقصر النصوص بهذا الشكل وكثرتها حيث تجاوزت ثلاثين نصا هو ما لم نعهده في المجاميع القصصية عادة، إذ لا تتجاوز عشرة أو اثني عشر نصا وتكون نصوصا طويلة نسبيا.

في القصة الأولى من المجموعة والتي وسمت ب "زمن اللاحب"، نلتقي بفتاة تائهة وسط مدينة الدار البيضاء الصاخبة، لتجد في طريقها فجأة شابا كانت تحبه ويحبها، غير أنه تركها ليتزوج امرأة أخرى، وهو ما ولد لديها حقيقة مفادها أن الحب قد مات في زمننا هذا، ف" الحب الذي كان ملاذا لنا نلجأ إليه هربا من أحزاننا وعقدنا ومشاكلنا رحل مع البراءة والصدق والوفاء، لم نعد نقوى على عناقه لأننا نخشى هزيمة أنفسنا ومشاعرنا، فهي من جيل أضاع زمانه ومكانه واغتال كل قيمة بما فيها الحب "(صفحة5). هكذا يعلن السارد موت أنبل القيم في حياة الإنسان، فشخصية المرأة هنا نموذج للمرأة التي صدمت في من تحب، واكتشفت أن حبها كان مجرد حلم سرعان ما انتهى أمام الغدر والخيانة. أخذها ذلك الشاب إلى إحدى المقاهي ليتحدثا، غير أنها ما لبثت أن غادرت المكان، وعندما سألها إلى أين؟ أجابت بأسى وكبرياء: "إلى مكاني الأثير إلى أحضان وحدتي، حيث أجلس وأكتب وأنعي موت الحب في زمن اللاحب" (ص60).

وفي قصة "ليالي الخوف" نصادف نموذج المرأة التي فاتها قطار الزواج، إنها امرأة هي تعيش صراعا موظفة تعيش "مشاعر مبهمة تنمو داخلها في غمرة إحساسها القاتم بالوحدة، فيها امرأة تحلم بزوج يشاركها عمرها الباقي، تشعر بفشلها وعمرها الضائع " (ص11). إنها امرأة رغم مهنتها المحترمة ف هي تعيش صراعا نفسيا لأنها لم تجد بعد شريكا في حياتها وهو ما يقض مضجعها ويجعلها بلا قيمة ويضع حدا لحياتها "فماذا يتبقى من حياة امرأة إن لم تحب وتتزوج وتنجب" (ص14).

تلك إذن بعض النماذج التي سنكتفي بذكرها، حيث إن كل نصوص المجموعة تطفح بنفس المعاناة، ونفس المأساة رغم اختلاف أشكالها، إذ أن في هذه المجموعة القصصية نصادف شخصيات نسائية من كل الفئات المجتمعية، فهناك الصحفية والفنانة والكاتبة والعاهرة والمطلقة والمغتصبة... كلهن عانين من ظلم مجتمع قاهر مستبد لا يرحم مما جعلهن غريبات داخله أو على الأصح مرميات على رصيف الغربة كما أحبت الكاتبة أن تقول، وقد تمكنت سعاد رغاي من التقاط صورهن المأساوية وتقديمها إلى القارئ في أسلوب حكائي سلس، ولغة بسيطة ومباشرة بعيدة عن الزخرف اللفظي والتعقيد المعنوي، كما انها لغة شعرية تجعل المتلقي يحس وكأنه أمام محكيات شعرية، أو قصائد نثرية، وهو ما يذكرنا بأسلوب عميدة الكتابة النسائية في المغرب المبدعة «خناثة بنونة» التي سبق وأن تناولنا مسيرتها ومسارها الإبداعي في مقال سابق.

إن السمة أو الميزة الثالثة التي تميز الكتابة عند سعد رغاي هي أن الشخوص في مجموعتها القصصية لا تحما أسماء، فهي كلها مجهولة الاسم لدى القارئ، ولعل المقصود من ذلك هو رغبة الكاتبة في جعل هذه الشخوص والتي غالبيتها من النساء تمثل كل المهمشات وكل الضائعات، وهذا ما نتأكد منه إذا عدنا إلى الإهداء حيث تقول الكاتبة: "إلى كل امرأة مجهولة الاسم والعنوان. شكالي لأن جميعهن يبحثن عن قيم أصيلة في عالم متدهور ومنحط.

أما السرد في هذه النصوص فهو يشتغل بضمير الغائب وضمير المتكلم هذا الأخير الذي يتم توظيفه عند الرغبة في الاعتراف والبوح، وتفريغ ما تختزنه الذات الساردة من هموم ومشاكل عبر حكي تجاربها الفاشلة غالبا.

إن الكاتبة سعاد رغاي بعملها هذا قد وضعت أصبعها على الجرح، إنها تصرخ عبر شخصياتها النسائية وتنادي أن كفاكم عنفا ضد المرأة، كفاكم تهميشا لنصف المجتمع، أعيدوا للمرأة حقوقها وحريتها المهضومة والمغتصبة. وقد حاولت كاتبتنا في هذا العمل الأدبي أن تقترب من خصوصيات المرأة، وهواجسها وأحلامها الدفينة، كما رصدت هشاشة العلاقة الإنسانية التي تربطها بالرجل.

وصفوة القول إن الكتابة لدى سعاد رغاي من خلال هذه المجموعة كتابة ملتزمة، تتخذ من الواقع المعيش منبعا ملهما لها، وتحوله إلى صور ولوحات سردية ذات دلالات وإشارات معبرة.

هوامش

(*) سعاد رغاي. نساء على رصيف الغربة. الطبعة الأولى. سنة 2000. وكل الصفحات المشار إليها في المتن تحيل على هذه الطبعة.

(1) مجموعة قصصية لمحمد غرناط
(2) مجموعة قصصية لخناثة بنونة
(3) مجموعة قصصية لمحمد برادة