Menu

خيالات الوجع الفلسطيني

حربي محسن عبدالله

زريف الطول، وليس ظريف الطول {يابو الميجنا}، كما يصرّ كاتب الرواية وليد عبد الرحيم، زريف من الزرافة، وليست الظرافة، لطوله الفارع وجسده الضخم. شخصية فدائي فلسطيني صار مضرب مثل بالبطولة ومواجهة الصهاينة، ذلك الزريف، الذي بدأ نضاله منذ بداية الاحتلال البريطاني، وقاوم العصابات الإرهابية الصهيونية. ويقال إنه شارك مع عز الدين القسام والثورات الفلسطينية المتعاقبة حتى وقوع كارثة النكبة.

حتى صار اسمه أغنية وأهزوجة وعتابا وميجنا، شخصية يتدخل في تشكيلها المخيال الشعبي، الذي يمجّد البطولات على طريقته في المحافظة على الفلكلور الشعبي.

رواية "زريف الطول" الصادرة عن دار "دلمون الجديدة" في دمشق، تندمج فيها صور الخيال المجنّح الذي يمجّد البطولات، مع رواية الواقع كما كان قبل وعد بلفور وبعده، ومع أولى الهجرات اليهودية التي غذّتها الصهيونية عبر الوكالة اليهودية.

فالسيطرة على الأراضي الفلسطينية هي جوهر الفلسفة التي انتهجتها الصهيونية العالمية منذ ولادة الفكرة الأولى لتوطين اليهود في فلسطين.

تنسج الذاكرة الفلسطينية بطولات ونضالات شتى حول شخصية "زريف الطول"، حتى صار أشبه بشخصية أسطورية، فتمّ تأليف الأغاني له، وصار لازمة لنمط من الغناء الثوري، والعاطفي.

أصبح نمط "يا زريف الطول، شبيهاً "بالدلعونا والميجنا، وبقية أنماط المواويل والغناء.

صار "زريف الطول" جزءاً من الذاكرة الفلسطينية.

لقد شغلتْ هذه الشخصية الواقعية الخيالية معاً الكاتب منذ طفولته كما يؤكد ويقول: (منذ طفولتي، وانا أسمع لأغانٍ تذكر اسما غامض الملامح، تارة هو عاشق، وأخرى ثائر أو شاعر جوّال، يلفظ الناس اسمه خطأ "ظريف الطول".

بدأتُ السؤال مبكراً: من هو ظريف الطول هذا؟.. لقد أضحى يُشكّل لازمة غنائية، وهو في الوقت عينه لا يُعرف له شكل أو مكان أو تاريخ ميلاد! غنى له وديع الصافي، وفيروز وغيرهما من الكبار، كما يُغنّي له الناس وهم مثلي لا يعرفون عنه شيئاً إلا بعض الشفهيات المتداولة.

لذا فقد قررت البحث عنه منذ زمن، وها أنا ذا في هذه الرواية أنوي الإجابة على هذا السؤال، من هو زريف الطول هذا؟

ما الذي يمثّله؟

كيف ومن أين أتى، وأين غاب...؟!

ينقلنا وليد عبد الرحيم في رحلة طويلة إلى أوائل القرن الماضي، عندما كان اليهود المهاجرون المدفوعون بأوهام "الوكالة اليهودية" ومن ورائها الصهيونية، للخلاص من الأوضاع المزرية، التي يعيشون فيها في أوروبا لتنقلهم السفن إلى شواطئ فلسطين برعاية الاحتلال البريطاني.

كانوا بشراً بائسين تُخلع عنهم ملابسهم، كي يتمّ تعقيمها بالدي دي تي، لتخليصهم من الجرب والقمل.

كانوا من البؤس، بحيث أن هناك من الطيبين من الفلسطينين من كان يقدّم لهم الغذاء والملابس، قبل أن يعي أن وراء بؤس الضحايا جلادين ومجرمين وعصابات يخططون للاستيلاء على فلسطين.

هذه الصورة العالقة بأذهان من نزح مجبراً بعد النكبة.

كانت باخرة إنجليزية قد أفرغتْ حمولتها البشرية منذ قليل، وكما في كل مرة ها قد انتهى الموظفون الحكوميون من تعقيم وتنظيف القادمين الجدد، الذين سوف ينظمّون في الحال إلى الآخرين بعد تقديم ثياب جديدة لهم، فينتقل بعضهم إلى أماكن عدة في مختلف أنحاء فلسطين، ويبقى منهم القليل ممن سوف يغادرون عما قريب إلى أماكن عدة غير معروفة.

بعضها مناطق قريبة وأخرى بعيدة.. هكذا يوصف لنا الراوي الصورة، التي كانت عليها أوضاع المهاجرين اليهود القادمين من شتى بقاع العالم.

أما على الجانب الفلسطيني فثمة صور متداخلة بين من يقدّم ما يستطيع وبدوافع إنسانية لبشر يحتاجون الرعاية، دون أن يكون واعياً لمؤامرة خبيثة كبرى تُحاك وتستعمل الأبرياء حصان طروادة لاحتلال فلسطين عبر عصابات من القتلة المدربين، وانشاء الكيبوتسات والمعسكرات بدعمٍ بريطاني خفي.

أما بطل الرواية "زريف" فشخصية يمزج الروائي وليد عبد الرحيم فيها الأسطورة والخيال مع الواقع المرّ للنكبة الفلسطينية وآلام وآمال الشعب الفلسطيني.

"أزاحتْ "فضة" الستارة فدخل الضوء مستعجلاً قوياً وكأن الشمس استجمعتْ قوتها، بعد أن كانت تنتظر حيال اللحظة، لتُرسل أشعتها على وجه زريف، فتلاشتْ على الفور صورة "إستر" من مخيلته (وهي يهودية ندمت على مجيئها إلى فلسطين، تعرّف عليها زريف مع صديق يهودي عراقي ندم هو الآخر وحاولا الرجوع إلى العراق فتمّ قتلهما على يدي عصابات الهاغاناه)، قم يا زريف، بادرته الأم عندما كان الصباح يفتتح بنعومة غطائه ليبعث ضوءه على بيوت المدينة الهادئة وشرفاتها وغرفها، باستثناء غرفته ذات السرير الطويل، التي اتّسم فيها إسدال ستائر النوافذ بالاعتيادية، حتى أنّها غطّتْ كامل الأقواس الحجرية، التي نَظّم اصطفافها مهندسون بارعون منذ مئات السنين، ووضعها الحجّارون بعنايةٍ ودراية فبدتْ مصطفّة بألوانها الثلاثة، الأسود والأبيض واللون المحيّر المتّشح بالحُمرة الذي لا يمكن تسميته، حتى صارت في ما بعد تقليداً عمرانياً ميّز صالات وغرف بيوت الأغنياء في حيفا وبعض بيوت الفقراء أيضاً.

كان الزجاج الملوّن داخل الإطارات الخشبية المزركشة، ينتظر بدوره بشغفٍ مترقباً إزاحة الستائر كي يقوم بإرسال انعكاس ضوء الشمس كسائلٍ جففتْ الأيام لزوجته نحو الداخ، فبات قابلاً للّمس بأصابع الساكنين في المنزل".

نقرأ في رواية "زريف الطول"، كيف يلتقي بطلنا ذات خيال، بشيخ أسطوري كنعاني يريه بعين القلب ما فوق أرض فلسطين وما تحتها وما جرى فيها لسبعة آلاف عام.

ثم يرجعه لينام تحت ظل شجرة في جبال "جنين" قادماً من السماء على جناحٍ شعاعي لا أحد يعرف كنهه، أو يستطيع تحديد مصدره.

إنها رواية الوجع الفلسطيني بوعي خمّرته الأيام المرّة والزمن المتكالب والواقع المعقّد ومصالح الدول المتشابكة، ولكنه لن يفقد جناح الخيال ليطير به نحو أحلامه وآماله المشروعة.