Menu

دفنُ حلِّ الدولتين

حسن شاهين

نشر في العدد 51 من مجلة الهدف الإلكترونية

لم يكن فوزُ اليمين الصهيوني المتطرّف في انتخابات الكنيست الإسرائيلي في نوفمبر، تشرين ثاني 2022، مفاجئًا لأحد؛ لأنّه جاء منسجمًا مع ميل المجتمع الإسرائيلي المتزايد نحو اليمين منذ اغتيال إسحق رابين عام 1995، هذا الميل غير الطبيعي يصعب إيجاد ما يشبهه في الديمقراطيّات الغربيّة، فلم ينتج عنه انتخاب أحزاب اليمين وحسب، فما يطلق عليه معسكر اليسار في إسرائيل اليوم كان يعدّ يمينًا ليبراليًّا في معايير الأمس القريب، في حين بات الليكود (وهو حزب يمين الوسط تقليديًّا) يحمل برنامج اليمين المتشدّد، وأحزاب الصهيونيّة الدينيّة القوميّة، والحريديّة هي من تنافس الليكود لا العمل وباقي اليسار التقليدي الذي تآكل واقترب من التلاشي.

إنْ كانت هناك أسبابٌ اجتماعيّةٌ أسهمت في صعود اليمين خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنّ الأسباب السياسيّة هي الأساس، ومرتبطةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ بمستقبل المشروع الصهيوني في فلسطين بعد اتفاقيات أوسلو.

إنّ جوهر عملية أوسلو كان إيجاد كيانٍ وظيفي فلسطيني – تعبير "وظيفي" سبق أن استخدمه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس - يديرُ حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967. هذا هو الشقُّ المادي العملي لأوسلو، ويحظى بالأولوية بالنسبة لجميع المشتركين فيه. فإسرائيلُ أرادت التخلّص من عبء السكّان الفلسطينيين وقضيّة اللاجئين، وقد تمكّنت من اصطياد العصفورين بحجرٍ واحد، عبر تحويل منظمة التحرير التي كانت في جوهرها منظمة اللاجئين، إلى سلطةٍ على سكان غزة والضفة. وعلى الجانب الأخر تحوّلت القيادة الفلسطينيّة تدريجيًّا بعد هزيمة 1967، من هدف التحرّر الوطني إلى التحقّق الكياني، خاصّةً بعد أيلول الأسود والخروج من لبنان.

بينما مثّلت قضايا الصراع الرئيسيّة بالنسبة لمسار أوسلو شقّ العلاقات العامة، التي يجب الحديث عنها باستمرارٍ لتمرير الشق العملي. كان الأمرُ كذلك بشكلٍ واعٍ للإسرائيليّين وربّما غير واعٍ للقيادة الفلسطينيّة، لكن في محصّلة الأمر تحقّق الشقّ العملي وأصبح واقعًا على الأرض، بينما شقّ العلاقات العامة ممثّلًا بقضايا الحلّ النهائي، مازال كذلك "علاقات عامة" بالنسبة للقيادة الفلسطينية بينما لم يعد موجودًا بالنسبة للإسرائيليين.

كان واضحًا منذ البداية لكل ذي عينين أنّ الأمور ذاهبةٌ في هذا الاتجاه، خاصةً بعد إصرار إسرائيل على ضمّ قضيّة الاستيطان إلى مفاوضات الحلّ النهائي، وهو دليلٌ قويٌّ إلى حد الفجاجة على أنّها غير جديّةٍ بالتوصّل إلى اتّفاقٍ على مبدأ حل الدولتين، وإلا لمهّدت لذلك بإزالة المستوطنات لتكون هناك سلطةٌ فلسطينيّةٌ حقيقيّةٌ يمكن أن تتحوّل إلى دولةٍ فيما بعد. وعلى الجانب الفلسطيني يُقال إنّ ياسر عرفات أقرّ متأخّرًا بخطأ الموافقة على بحث "الاستيطان" في مفاوضات الحل النهائي. هنا يجوز التساؤل أنّه لو كانت مسألة الدولة والاستقلال الوطني لهما الأولوية في التفكير السياسي الفلسطيني؛ هل كانت القيادة الفلسطينية لتقع بمثل هذا الخطأ؟ أم إنّ هاجس الكيانيّة الذي سيطر على تفكيرها، جعلها تقبل بإقامة السلطة مع بقاء المستوطنات، رغم أنّ تفكيكها يجب أن يكون منطلق أي عمليّةٍ سياسيّةٍ تستند بحقٍّ إلى مبدأ حلّ الدولتين؟

قبل أيام تولّى وزير الماليّة وقائد حزب الصهيونيّة الدينيّة يتسلئيل سموتريتش سلطة التخطيط في الضفة الغربيّة، أي إدارة الحياة المدنيّة في الضفة، التي كانت من اختصاص الجيش الإسرائيلي منذ احتلال 1967، فالإدارة المدنيّة الإسرائيليّة في الضفة التي كانت تتبع الجيش باتت من اختصاص الوزير سموتريتش، وهو أمرٌ كان قد اشترطه لدخول الحكومة، وجرى لتمريره تعديل القانون الأساسي داخل الحكومة للسماح بتعيين وزير ثاني داخل وزارة الدفاع، وحددت مهامه بتولي سلطاتٍ معيّنةٍ على الحياة في الضفّة الغربيّة، وهو ما عدّته الباحثتان داليا شيندلين وياعيل باردا احتلالًا مدنيًّا للضفة الغربيّة، في مقالٍ لهما في صحيفة هآرتس، بينما وصفت ثلاث منظّماتٍ حقوقيّةٍ إسرائيليّةٍ هذا التغيير البيروقراطي بأنّه ضمٌّ قانونيٌّ للضفة الغربيّة إلى إسرائيل.

سبق هذا القرار تخصيص 25% من ميزانية وزارة المواصلات الإسرائيليّة لتطوير الطرق ومدّها في الضفة الغربية، وفقَ خطّةٍ سبق أن قدّمتها وزيرة المواصلات الإسرائيليّة ميري لفيف (ليكود). هذه الخطّة من شأنها أن تعزّز نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) في الضفة، بحسب تقرير نشره مركز مدار (أيار، مايو 2023) من إعداد الباحث وليد حبّاس، لا من حيث فصل المواصلات والطرق الفلسطينية عن الإسرائيلية وحسب، بل أيضًا بمعيار سرعة الوصول وسهولته، الأفضل بفارقٍ كبيرٍ بالنسبة للمستوطنين. وفوق ذلك أنّ الإنفاق الإسرائيلي على الطرق في الضفة بما فيها تلك التي يستخدمها الفلسطينيون، وربطها بشبكة الطرق داخل إسرائيل؛ يؤكد واقع السيطرة الإسرائيلية الهيكلية على الحياة في الضفة بشكلٍ مستدامٍ يتعذّر تغييره في المستقبل.

عملت إسرائيل منذ احتلال عام 1967 على فرض وجودٍ إسرائيلي يهودي مدني في الضفة وغزة، وكان التركيزُ بشكلٍ أساسي على الضفة، نظرًا لكونها امتدادًا جغرافيًّا لأراضي وسط فلسطين الطبيعية شمالها، ولأنّها أكبر بأضعافٍ وأقل كثافة سكانيّة من غزة، وفيها مساحاتٌ واسعةٌ من الأراضي القابلة للاستيطان. وتَوَسَع الاستيطان في الضفة تحت ستار شق العلاقات العامة من أوسلو (المفاوضات)، وكان التوسّع من حيث عدد المستوطنين والمستوطنات ومساحتها، وكذلك تطوير مقوّمات الحياة فيها وربطها بالوجود الإسرائيلي المركزي داخل الخط الأخضر. وأخيرًا وصلت إسرائيل إلى فرض السيادة على الضفة تتويجًا لمخطّطٍ طويل، رسمته ونفّذته كلُّ الحكومات الإسرائيليّة التي جاءت بعد 67 على اختلاف ألوانها الحزبيّة وتوجّهاتها الأيديولوجيّة.

إسرائيل أتمّت دفن حلّ الدولتين عمليًّا، بعد أن كان ميّتًا إكلينيكيًّا طوال العقدين الأخيرين، لقد أهالت عليه كل حكوماتها المتعاقبة التراب، حتى ألقت حكومة نتنياهو الرفش الأخير، وأنهت المهمة. هي تدرك أن الاعتراف الدولي بالأمر الواقع مسألة وقت، وقد بدأت مقدماته فعليًّا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ، وإقرار الإدارة الأمريكية السابقة بالتغيير الذي حصل على الأرض ومطالبتها الفلسطينيين بقبوله، وهو موقفٌ لم تتراجع عنه الإدارةُ الجديدة بشكلٍ صريح، فقط أوقفت البروباغندا الفجّة للإدارة السابقة، ولم تخرج مواقف باقي الدول عن حدود التنديد الإعلامي دون اتّخاذ إجراءاتٍ عقابيّةٍ ضدّ إسرائيل أو حتى التلويح بها، بما فيها الدول العربيّة المُطَبِّعة.

"المشروع الصهيوني"، هو من اسمه: مشروع، أي جهدٍ منظّمٍ له غايات وأهداف ويجري وفق تكتيكاتٍ واستراتيجيّات، وهو فوق التباينات والصراعات السياسيّة بين الأحزاب الإسرائيليّة. يجب فهم ذلك، وعدم التعويل على الانقسام في المجتمع الإسرائيلي كثيرًا، هذا الانقسامُ على كلّ شيءٍ تقريبًا، من نمط حياة الأفراد وصولًا إلى طبيعة النظام الديمقراطي الإسرائيلي، ليس فقط على الإصلاحات القضائيّة التي ترغب حكومة نتنياهو بإجرائها، هو انقسامٌ على كل شيءٍ إلا المشروع الوطني الذي بقي طوال أكثر من 100 عام فوق الانقسام السياسي، بل فوق السياسة نفسها.