Menu

إطلالة على الفلسفة العربية منذ أصولها اليونانية إلى حضورها في أوربا (الجزء الأول)

أحمد رباص

تمكن جان جوليفيه من إظهار أن الفلسفة العربية تطورت في العالم العربي الإسلامي كحكمة. كلمة "حكيم" هي أحد أسماء الله التسعة والتسعين، والحديث عن "الحكمة" مقبول تماما في مجتمع مسلم مبني على القرآن كنص مقدس. إذا تم تقديم الفلسفة لأول مرة على أنها حكمة، فسيتم قبولها بشكل أفضل ولن تظهر على أنها مستعارة من الوثنية اليونانية. سيشار إلى الفلاسفة اليونانيين باسم "القدماء" وليس الوثنيين.
لم يتردد كثير من الفلاسفة في استخدام كلمة "حكيم" أو كلمة "حكمة" في عناوين كتبهم رغم أنهم كانوا يقصدون بها "الفلسفة". وهذا حال الفارابي في "الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون وأرسطو طاليس"، ونفس حال ابن رشد في الخطاب الحاسم الذي عنوانه "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال".
في كلتا الحالتين، يتحدث الفارابي وابن رشد عن الفلاسفة، لكنهما يقدمانهم على أنهم حكماء لإدراجهم في سلسلة طويلة من الحكماء المعروفين من قبل البشرية: الأنبياء وسحرة الهند وفارس وكذا الفلاسفة اليونانيين. لذلك فإن الفلاسفة هم الجديرون بأن يرثوا حكمة الأنبياء الذين عرفتهم البشرية في الماضي.
انطلاقا من الفقرة الأولى من كتابه، يستبدل، فيلسوف الأندلس، ابن رشد كلمة "حكمة" بكلمة "فلسفة": "الغرض من الكتاب هو أن يفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح شرعا أو محظور أو مأمور به، إما على جهة الندب، وإمَّا من جهة الوجوب.
تجسد الأدب القديم من خلال نزعة إنسانية تمحورت حول "الحكمة الخالدة"، عنوان كتاب ابن مسكويه، ولكن كما لاحظ جوليفيه، جرى تقديم هذه النزعة الإنسانية في شكل مختارات من أقوال القدماء (الفرس، الهندوس، اليونان) دون ترجمتها إلى الشكل البرهاني الذي تميزت به الفلسفة عند كل من الفارابي وابن سينا ​​وابن رشد.
من ناحية أخرى، هناك صورة نمطية تتمثل في تقديم الفلسفة العربية من ناحية كنسخة شاحبة من الفلسفة اليونانية، ومن ناحية أخرى، تقديم الشريعة، القانون الإلهي، كعنصر مميز. هذا ما ذهب إليه إرنست رينان.
من ناحية، في مجال الفكر، لم يكن العرب المسلمون قد أبدعوا أي شيء، ومن ناحية أخرى، كانت لديهم معايير منفصلة، ومحددة للغاية بحيث لا يمكن مقارنتها بالمعايير الأخرى. تقترن تلك الصورة النمطية بفكرة أن الشريعة، محددة للغاية، غير تاريخية، وأن الفلسفة العربية، المقتفية لأثر الفلسفة اليونانية، كانت بمثابة جسر للفلسفة لتنتقل عبره من أثينا إلى جامعة باريس في القرن الثالث عشر الميلادي وإلى جامعة بادوا في القرن الرابع عشر الميلادي.
ومع ذلك، فإن تحليل المتن الفلسفي والفقهي يظهر من جهة أن الفلسفة العربية قد أوجدت نموذجا جديدا للفكر احتل فيه المنطق والطب مكانة كبيرة، ومن جهة أخرى أن الشريعة قد عرفت تراكما فقهيا مميزا موسوما بالطابع التاريخي، من خلال المناقشات الدينامية التي أطلقتها المذاهب الفقهية الأربعة.
باعتبارها تشكلت كقول برهاني وليس كقول موحى به، بحثت الفلسفة العربية عنظ أرسطو، على وجه الخصوص، عن وسائل للتحقق من صحة خطاباتها. وإذا أصبحت مؤولة للنصوص المنزلة التي لها مضمون شرعي واستمدت شرعيتها منها، كما أكد ابن رشد في بداية كتابه "فصل المقال"، فإنها لم تنس أبدا مصدرها: العقل. كما سنشهد جهدا مزدوجا للتوفيق، من ناحية، بين النص المقدس وفلسفة أفلاطون وأرسطو الوثنيتين، ومن ناحية أخرى، بين هاتين الفلسفتين الوثنيتين نفسهما. الحقيقة لا يمكن أن تكون متعددة، بل هي كذلك المداخل المؤدية إليها. لإضفاء الشرعية على دراسة النصوص الوثنية في بيئة إسلامية، كان من الضروري مواءمتها حتى يسقط الاعتراض على تناقض هؤلاء الفلاسفة في ما بينهم وعلى تهافتهم بالتالي. إن موقف إخضاع كل الحقائق لمعيار التماسك أنعش فلاسفة العرب في العصور الوسطى.
كان شعار ابن رشد كالتالي: لا يمكن أن يمتلك المرء كل الحقيقة بمفرده. فقط تعاقب الأجيال والاستمرارية الثابتة بين الثقافات المختلفة هما ما يعطيان صورة عنها. قال بهذا الصدد في "فصل المقال" : "فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدَّمنا من الأمم السالفة نظَراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائِطُ البُرهان، أن ننظُرَ في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها مُوافِقاً للحقِّ قبلناه منهم وسُرِرْنَا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير مُوافق للحقِّ نبَّهنا عليه وحَذِرْنَا منه وعذَرْناهم. فقد تبيَّن من هذا أنّ النَّظَر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم، هو المقصد الذي حثَّنا الشرع عليه...".
هذه الفكرة الإجرائية عن الحقيقة المتواصلة عبر الأجيال والثقافات، سبق وأن عبّر عنها الكندي كتابه عن "الفلسفة الأولى". لم يفرض الكندي في القرن التاسع الميلادي طريقة جديدة للتواصل مع الفكر فحسب، بل فرض أيضا طريقة جديدة للتواصل مع الثقافات الأخرى.
هذا التوجهان مترابطان: تحيل الطريقة الجديدة في التفكير إلى الممارسة الفلسفية، التي هي ممارسة برهانية تنأى بنفسها عن كل من الكلام الموحى به إلى الأنبياء وعن التفسير اللاهوتي الذي يسعى إلى تبسيطه وتوضيحه.
اشرأب عنق الفلسفة الناشئة في الشرق الأوسط خلال القرن التاسع الميلادي نحو الثقافة اليونانية التي يسرت الترجمات المنجزة في "بيت الحكمة"، المؤسس من قبل الخليفة العباسي المأمون عام 832 م، إمكانية اكتشافها.
(يتبع)