Menu

من غسّان كنفاني إلى ميلان كونديرا: الحياةُ ليست في مكانٍ آخر

تغريد عبد العال

نشر في العدد 52 من مجلة الهدف الإلكترونية

يقولُ غسّان كنفاني: إنّ الحياةَ لا قيمةَ لها قطُّ، إن لم تكن دائمًا واقفةً قبالةَ الموت. ومن هنا يبدو سرُّ فلسفةِ غسّان تجاهَ الحياة بالمواجهةِ وليس الفرار والهرب. ولعلَّ قولًا آخرَ أيضًا يستوقفنا حين يقول غسّان: إنّ كلماتي ليست إلا تعبيرًا صفيقًا عن غياب السلاح. فتبدو اللغةُ في أدبه مكانًا حقيقيًّا يواجه الموت، ويطرح أمامه الأسئلة، كما كان في كلّ رواياته.

ففي أدب الكاتب الفلسطيني المناضل غسّان كنفاني أسئلةٌ راهنةٌ عن الحياة بشكلٍ عام، وعن الوطن بشكلٍ خاص، ولذلك نعدُّهُ كاتبًا معاصرًا. لا يزال أدبه يُقرأ اليوم؛ بسبب تلك الحاجة إلى تحليل الواقع بالاستناد إلى ما طرحه غسّان من أفكارٍ وأسئلة. لذلك نسأل دائمًا: لماذا نعيد قراءة غسان دائمًا؟ وهل نحن بصدد قراءةٍ مختلفةٍ كلّ مرّةٍ لأعماله؟

أقول: إنّنا سنعيدُ قراءته؛ لأنّنا اكتشفنا أن الواقع لم يتغيّر، وأنّ ما تحدّث عنه يحدثُ كلَّ يومٍ أمامنا. فها هم "رجال في الشمس" يرمون أنفسهم مجدّدًا في قوارب الموت. كأنّ الطريق لم تتضح بعدُ أمام الباحثين عن خلاصٍ فرديٍّ في عالمهم الجماعي المثقل بالذاكرة الجماعيّة. فغسّان أطلَّ علينا قبل عقودٍ لينبّههم أنّه ربّما عليهم ألا يكونوا في الخزّان أصلًا، ليتحوّل سؤاله إلى أحد أهم الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا - نحن الفلسطينيين-.

ومن هنا نكتشفُ فنيًّا وأدبيًّا معنى كلمة "المعاصرة"، أنّها تطرح سؤالًا راهنًا وتكتبُ أفكارًا لا ينهي صلاحيّتها الزمن، هي العمقُ الذي تحدّث عنه غسّان حين قال: ليست الأشياء العميقة معقّدة، وليست كل الأشياء البسيطة سهلة، بل إنّ الانحياز الفنيّ هي أن نقول الشيء العميق ببساطة". في زمنٍ يمجّد الابتعاد عن الكلاسيكيّات والخطابات، نجد البعض أحيانًا يعدُّ هذا الأدب الذي سمّاه غسّان "أدب المقاومة" قد أصبح في الماضي، بينما يبرهنُ هذا الأدب كلَّ مرّةٍ أنّه أصبح مرجعًا للفكر والسياسة والرواية والفنّ أيضًا؛ لأنّه كلّ مرّةٍ يجعلنا نفكّر بالهُويّة، وكيف ننقذها في زمن تشويه المعايير الفنيّة والأدبيّة، التي أصبح الغرب، وكأنّه هو المركز المحرّك لهذه المعايير والمهيمن عليها، بينما وجدنا على المقلب الآخر كيف احتفى بغسان لعظمة ما قدّمه من أدب. فلماذا هذه المفارقة التي تجعلنا أحيانًا مستلبين لمعاييرَ غربيةٍ في النظرة للعالم؟

ففي "رجال في الشمس" مرّة أخرى، يوحي غسّان أنّ الخلاص ليس في مكانٍ آخر؛ لأنّ القضيّة واحدة، هي فلسطين، فالصحراء ستبتلعنا إن استسلمنا. بينما على الجهة الأخرى، تحتفي رواية الكاتب التشيكي ميلان كونديرا "الحياة في مكانٍ آخر" بذلك المكان البعيد الذي يحتوي كل الأحلام عن الحياة، وهي تتحدّث عن شاعرٍ يعاني في ظلّ أيديولوجيا الحزب الشيوعي، ويفكّر في الابتعاد عن كلّ شيء. هذه الفلسفة، فلسفة كونديرا، التي تتساءلُ عن معنى أن تكون شاعرًا في ظلّ نظامٍ ديكتاتوريٍّ كما يراه كونديرا، أثّرت على ثقافاتٍ كثيرة، حتى صار الهرب من المكان الخانق هو الحلُّ الفرديُّ للأزمة الوجوديّة، بينما لم يكن غسّان مستلبًا، بل كان ينتقد تلك الأفكار، ولذلك كان قرع الخزان ضروريًّا، ووهم المكان الآخر لم يكن في ذهنه أو قاموسه، بل حذّر منه، حتّى أنّه في رواية "أم سعد" قال تلك الجملة الفارقة التي تؤسّس لمكانين مختلفين داخل المكان نفسه: "خيمة عن خيمة بتفرق".

لذلك وبالنسبة لتلك الروايات الكثيرة التي نقرأها اليوم، التي تكتبُ في العالم العربي، هي رواياتٌ تحاولُ أن تقول ما تعكسه الروايات الغربية: إنّ الجنة في مكانٍ آخر، أكثر حرية وانفتاحًا، ومن هنا نرى غسان الذي قرأ الكثير من روايات الأدب الروسي وروايات فوكنر، وربّما تأثّر قليلًا بأساليبهم، لكنّه لم يكن مجرّد ناقلٍ للأفكار، فقد كان في الأدب صاحب فكرته الأصيلة، كما كان وهو صحفيٌّ ندًّا للإعلاميين الغربيين، فكلنا شاهدنا كيف تحدّث غسان مع الصحفي الأسترالي.

وقد كان غسّان كنفاني نفسه حائرًا لمن يكتب، فكان منشغلًا أيضًا بأسلوبه الفني، وليس فقط بالفكرة النبيلة. فقد تراوحت أعماله بين البساطة أحيانًا والصعوبة نادرًا، كرواية "ما تبقى لكم"، "والأعمى والأطرش"، لكنّه اكتشف أنّه يريد أن يكتب للجماهير منحازًا لتلك البساطة العميقة، فعبّر بلغةٍ بسيطةٍ عن أفكارٍ عميقةٍ جدًّا وكبيرة: كالوطن والحياة والمنفى والموت والخوف، وهذه الأفكار تتداخل لتشكّل فكرةَ الإنسان الذي تحدّث عنها، وهي القضيّة "فلسطين" التي كان يحاربُ من أجلها.

والآن أعودُ إلى المكان الآخر لأتذكّر قصّة غسّان "البومة في غرفةٍ بعيدة"، فعندما طلب الشيخ من البطل أن يخبّئ البنادق تحت شجرة التين، بعد أن دخل اليهود إلى القرية، ورغم الخوف فقد ذهب إلى الشجرة البعيدة، وخبأ البنادق، ولكنّه نظر إلى الشجرة في الأعلى فرأى بومةً خائفةً تنظر إليه. في هذه القصّة أيضًا يجعلنا غسّان ندرك أنّ العمل البطولي يكمنُ في تلك المواجهة الحيّة للخوف وللموت إجمالًا.

لذلك أتخيّل أنّ غسّان يقول لكونديرا اليوم: عزيزي كونديرا الحياة ليست في مكانٍ آخر.