Menu

بمناسبة رحيل حيدر حيدر: صورة الثورة الجزائرية في رواية "وليمة لأعشاب البحر"

رواية وليمة لأعشاب البحر

الشريف الأدرع

لقاء عابر

  منذ مدة قصيرة تداولت وسائل الإعلام العربي والأجنبي خبر وفاة الأديب السوري حيدر حيدر وقد مر الخبر على إعلاميينا وأدبائنا مرور الكرام ولم يحرك أقلام من عرفوه خلال إقامته بعنابة ولا أقلام قراء أدبه القصصي والروائي من الجزائريين؛ خاصة وأن أهم عمل روائي له كان عن الجزائر وثورتها.

  تساءلت مع نفسي عن السبب الذي جعل وفاة حيدر حيدر لا تمثل خبرا بالنسبة للجزائريين والجزائريات؛ وقدرت أن تكون الصورة السلبية التي رسمها للجزائر في روايته الشهيرة "وليمة لأعشاب البحر: نشيد الموت" هي علة ذلك.

  ولأنني أتفق تمام الاتفاق مع مقولة كارل ماركس: "من لم يستطع تمثيل نفسه سيمثله الآخر"، فقد قررت أن أكتب عن رحيل هذا المبدع الذي هاجموه حيا وميتا بسبب مادة محتوى رواياته ومنها تصويره البعيد عن الإيجابية للجزائر وثورتها، معتقدا أن اللوم – إن كان هناك لوم- يوجه للأدباء الجزائريين الذين لم يصوروا بلدهم حسب ما يهوون.

 وبعيدا عن أي شكل من أشكال الاختزال أذكر القراء بأن حيدر حيدر يمثل وجها من وجوه الحداثة في القصة العربية القصيرة. فقد لمست وأنا أقرأ مجموعتيه القصصيتين: "حكايا النورس المهاجر" و "الومض"، وما كان ينشره من قصص قصيرة بمجلة "الآداب" في فترة تدريسه في عنابة، حساسيته الجديدة، وسمة التجديد في إنتاجه القصصي.

 هكذا وجدت إبداعه القصصي حين قرأت له وأنا في السنة الأخيرة من تعليمي التكميلي أو في الأولى ثانوي، وكنت قد بدأت حينها كتابة أولى محاولاتي القصصية. أما تعرفي المباشر على حيدر حيدر فقد تأخر إلى غاية قدومه إلى الجزائر للمرة الثانية سنة 1976.

 جرى ذلك صدفة في إحدى حانات العاصمة الجزائر، فقد دفع بي الجوع والعطش إلى حانة تقع عند بداية الشارع الذي يربط بين شارعي العربي بن مهيدي وشارع مصطفى بن بولعيد، وهو أول شارع يصادفك على اليسار بعد اجتياز ساحة الأمير عبد القادر باتجاه ساحة البريد المركزي. لم أكد آخذ مكاني حتى ناداني الصديق صالح صلوحي الصحافي التونسي طالبا مني الالتحاق بطاولته التي كان يشاركه فيها أحد الأشخاص عرفت بعد تقديمه أنه الأديب حيدر حيدر.

 يجب الاعتراف أنني لم أكن مرتاحا للقاء الصدفة هذا خاصة أن ما بجيبي من المال لم يكن يسيرا، وليس من عادتي أن أكون متطفلا على مجالس ضيوف الجزائر من الأشقاء. لم يطل بي المقام كثيرا واستأذنتهما في الذهاب، فلحق بي صالح صلوحي يريد مني إقراضه بعض المال ليدعو حيدر حيدر للغذاء. أخبرته أنني قد صرفت الآن نصف ميزانيتي، وما تبقى منها يكفي لنتغذى معا بمطعم من مطاعم شارع طنجة الشعبية. اعتبر صلوحي دعوتي إنقاذا للموقف، لكن اكتفاء حيدر بتذوق ما طلب من عدس وسمك حز في نفسي، فلعنت الصدفة غير المواتية التي جمعتني وإياه ولم يطب خاطري إلا حين علمت من صلوحي مدى إكبار حيدر حيدر لكرمي اللامحدود الذي أبديته، واستطابته لأكل المطعم الشعبي الذي كان أطيب من أكل فندق إقامته. وإذا كان قد اكتفى بالقليل مما قدم له فذلك يعود لأسباب طبية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى زاد إحساسي بالراحة بعد أن عرفت أن النقود التي سمحت لصلوحي بدعوة حيدر للشرب هي نقود كتبي التي أعرتها له قبل أيام وباعها لمكتبة سي عبد المجيد للكتب القديمة بشارع عبان رمضان.

  هذه حكاية لقاء عابر في حانة ثم غذاء في مطعم شعبي جمعني بالأديب المرحوم حيدر حيدر بعد خروجه الثاني من بلده سوريا بمعية الصحافي صالح صلوحي الذين كان قد غادر تونس بعد مظاهرات الطلبة. إنها حكاية لقاء تتحدث بنفسها عن الترحال والنفي الإرادي وغير الإرادي الذي طال النخب العربية وعن تقاسم هموم الكتابة والفكر وما يقيم الأود ويروي العطش دون خلفية أو حسابات.

  1.  "صورة الثورة الجزائرية في رواية "وليمة لأعشاب البحر"[1] لحيدر حيدر

 أشرت أعلاه إلى مقولة كارل ماركس حول تمثيل العاجز عن تمثيل نفسه الذي يتولاه الآخر نيابة عنه. ودون أن أحكم على الجزائري بالعجز عن تمثيل نفسه أكتفي في حالة حيدر حيدر بالقول بأنه قد قدم صورة للثورة الجزائية في روايته "وليمة لأعشاب البحر" ليست بالضرورة هي الصورة التي يرغب أن يراها الجزائريون لبلدهم.

   استعار الروائي السوري حيدر حيدر في عملية التصوير عيون مهيار الباهلي، ومهدي جواد، وهما شيوعيان عراقيان، شاركا في حركة مسلحة لقلب نظام الحكم انتهت بالفشل وبموت أو سجن المنفذين. ويكون مهيار ومهدي من الفارين إلى الجزائر وفيها يلتحقان بسلك التعليم. إلى جانب استعارة حيدر حيدر عيون الشيوعيين العراقيين مهيار ومهدي سيستعير عيون امرأتين جزائريتين حرتين أو متحررتين. الأولى مجاهدة تعيش من استقبال المعلمين العرب الشرقيين في بيتها الذي حولته إلى "بانسيون" للسكنى وممارسة الجنس. أما الثانية فليست إلا ابنة الشهيد سي العربي لخضر المسماة آسيا التي كان مهدي يعلمها العربية فنشأت بينهما علاقة عاطفية قوية ما فتئت أن أفضت إلى ممارسات جنسية. هذه هي بالأساس الشخصيات التي صور لنا حيدر حيدر" الثورة الجزائية المغدورة" من منظورها. ويمكن أن نضيف إلى منظور هذه الشخصيات منظور شخصية يزيد ولد الحاج الذي جمع ثروته بالمضاربة أثناء الثورة، ثم تزوج زوجة سي العربي واحتل بيته، وصار من كبار التجار بعد الاستقلال. كما تضمن من جهته سرد لالا فضيلة صورة للثورة الجزائية في كل من مرحلتي الثورة والاستقلال. وكانت إلى حد كبير مصدر أغلب السرد الذي مثل زوجها الشهيد سي العربي وشقيقها المجاهد عمر يحياوي.

  وهذه الصورة التي يرسمها حيدر حيدر للثورة الجزائرية في "وليمة لأعشاب البحر" تتناوب مع صورة "ثورة العراق المجهضة" وتجتمع معها في تيمة الغدر والإجهاض والإحساس بإيقاع الموت، وليس صدفة أن يكون "نشيد الموت" العنوان الفرعي للرواية.

  بعد مضاجعة مهدي الأخيرة لآسيا، وفيما كنا ننتظر مغادرته للبلاد بعد قرار الطرد الذي أصدرته السلطات الأمنية بحقه، يفضل هو الرمي بنفسه في الشاطئ الصخري لبونة.

  وهكذا تنتهي القصة المأساوية للشيوعي مهدي المهزوم، بينما لا يزال أمام آسيا لخضر التي كانت تبحث عن صورة والدها الشهيد في مهدي أن تدرك أن والدها قد استشهد ليحتل بيته ويتزوج زوجته أحد المضاربين، وأن هذا كان بمثابة الضريبة التي كان على العائلة دفعها بعد فقدان الأب والزوج، وأن على آسيا وعلى أختها منار وأخيها رابح أن يدرسوا حتى يستقلوا اقتصاديا عن يزيد كما كانت تردد الأم دائما على مسامعهم. باختصار يمكن اعتبار هذا مسار التحرر لا الأوهام التي رمت بآسيا في أحضان مهدي.

 إن تأويلنا هذا لا نراه في خاتمة الرواية، ولا نجد له تصديقا في ما سبقها من أحداث وأفعال، بل هو ما استخلصناه من الحركة الداخلية للرواية التي ضمت في الحقيقة حركتين متناقضتين: حركة الوعي الذاتي للشخصيات التي تعيش في عالم وهمي يستبدل الواقع بالأيدولوجيا، والحرية بعبودية الجسد. وعلى هامش هذه الحركة نجد الوعي الشعبي للأم لالا فضيلة التي لا تفهم ما هي الشيوعية، وتذعن إذعانا تاما لفلسفة يزيد، ولكنها إذ تفعل ذلك، تكون قد أدركت بحسها الشعبي حكم الضرورة والواقع.

 وإذا ما أحسننا التأويل فإن الجدلية التي تحكم الجزائر أمة ومجتمعا في العمق كانت غائبة عن مسرح الأحداث ولا تظهر إلا في مواقع جانبية. وهذا التوضع الجانبي لوعي الضرورة، هو نقد للوعي الفردي الذاتي الذي احتل المركز من الرواية. ووجود مثل هذا البناء غير المنتظم وغير الممركز سواء أكان بوعي من الكاتب أو من غير وعي منه " يمكن اعتباره جوهريا لكل محاولة مسرحية (أو روائية- الإضافة منا) ذات طابع مادي" [2]على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير.

  يترتب منطقيا عن تعدد العيون التي تصور الثورة الجزائرية من خلال نظراتها تعدد في التصاميم التي تتخذها هذه الصورة وثراء في تركيبتها من حيث المادة وطريقة عرض هذه المادة.

  ويلعب، مثلا، البعد والقرب من الموضوع الذي تجري عملية عرضه وتمثيله في رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وهو موضوع الثورة الجزائرية، دورا أساسيا في طبع الصورة بالطابع الواقعي أو طبعها على العكس من ذلك، بالطابع المختلق والخيالي.

 يمثل مهدي جواد دور الراوية الأول في الرواية، ويتقاسم دور الراوية الأول مع رفيقه ومواطنه مهيار الباهلي في أجزاء الرواية التي تصور الحركة المسلحة التي قام بها فريق من الشيوعيين العراقيين ضد الحكم. غير أن اضطلاع مهدي بدور الراوية الأول في الأجزاء الخاصة بالثورة الجزائرية، وحضوره القوي فيها لا يعطي لسرده أفضلية ما. فقد كان سرده الخاص بالثورة الجزائرية عبارة عن سرد من الدرجة الثانية يكرر ما رواه رواته الأصليون، وهم: فلة بوعناب، وآسيا وأمها لالا فضيلة. وعليه؛ فإن الكثير من سرد مهدي عن الثورة الجزائرية مصدره هذه الشخصيات.

  وتختلف رواية المنخرط في الثورة عن رواية الذي كان له موقف مضاد منها، ورواية الذي لم يشارك فيها وتحمل وزرها مثله مثل أغلبية أفراد الشعب. وعلى أية حال فإن الروايات تختلف باختلاف المواقع والمواقف والقدرات الإدراكية للفرد. فالأطفال، مثلا، نتيجة صغر أعمارهم قد يكتفون برواية ما عانوه أثناء الثورة من دون التطرق لدور مزعوم فيها. وهذا كله ينعكس على سردهم الذي يتسم غالبا بسمة السذاجة.

 قبل استعراض صور تمثيل الثورة الجزائرية في رواية "وليمة لأعشاب البحر" نود الإشارة إلى الإطار الذي وضعه الراوية العليم الذي يقوم مقام الراوية الذي فوضه الروائي حيدر حيدر بتنظيم ما تحكيه الرواية وما تفعله شخصياته وما تقوله أو تعبر عنه من خلال هذا العمل كبنية سردية دالة.

  ويمثل وصف عنابة ووصف سكانها وحياتهم وسلوكهم إزاء بعضهم البعض الحد الأول لهذا الإطار ونعني به المكان الذي ستوضع فيه أفعال شخصيات الرواية. أما الحد الثاني لهذا الإطار فيتمثل في المدى الزمني الذي تجري فيه أحداثها.

 يستغرق المدى الزمني الذي دارت فيه أحداث الرواية كل فترة الموسم الدراسي، وتشير أغلب القرائن إلى أن السنة المعنية هي سنة 1972. وهي سنة تنتمي إلى فترة الاستقلال وعلاقتها بفترة الثورة تمثل علاقة الفترة اللاحقة بالفترة السابقة أي علاقة المقدمة بالنتيجة.

 هذا من جهة، ومن جهة أخرى انفتح هذا المدى الزمني على ذكريات الزمن الذي سبقه، زمن الكفاح الوطني المسلح وما عرفه من أحداث مأساوية ما زالت حية في ذاكرة ووعي فلة بوعناب وآسيا ووالدتها وخالها والمجاهدين المتقاعدين الذين يرتادون "أوكار المناضلين السرية"[3] التي صارت بارات.

 وتتناوب ذكريات زمن الكفاح المسلح في الجزائر مع ذكريات زمن الانقلاب المسلح الذي قام به الشيوعيون العراقيون ضد نظام الحكم في بلادهم وما أعقبه من قتل وقمع واعتقال وتعذيب وتشريد ونفي وفرار لم تشهد البلاد مثله في تاريخها.

 وهذا الانقلاب هو الذي جاء بمهدي ومهيار وغيرهما من العراقيين إلى الجزائر، وقد كان لسمعة الثورة الجزائرية ولسياسة التعريب التي انتهجتها دور في اختيار عرب المشرق للجزائر كدار للهجرة. وليس من باب التحامل أن نذكر أن المهاجرين العرب الشرقيين يحملون عن الجزائر تصورات يمكن أن تدرج في باب "شرقنة الاستشراق". فقد "كانوا كثيرين قد خرجوا- وهم غير مصدقين – من تلك الصحراء الحارة والجافة، وفي رؤوسهم الجزائر المتاخمة لباريس التي سمعوا أو قرأوا عنها. باريس الحي اللاتيني والبيكال وأفلام العري واسطوانات الجنس"[4].  ويعترف مهيار أن "المدينة تحولت إلى مصيدة وسوق لأنبياء الشرق والتعريب"[5] أعتقد أنه كان بإمكانه أن يضيف الماركسيين إلى قائمة الذين حولوا المدينة إلى مصيدة وسوق. ألم يصرح عندما التقى مهدي لأول مرة في عنابة عن إرادة تلقيح المغرب بالفكر الماركسي: "ها قد التقينا أخيرا لنطعم المغرب بلوثة الماركسية"[6].

  لست أدري هل سيتعاظم الاستعلاء الذي يوحي به هذا التصريح أم سيتلاشى حين يعرف مهيار وأشياعه أن المناضل الشيوعي الجزائري محمود الأطرش كان من قياديي الحزب الشيوعي الفلسطيني، وشارك من عام 1933 إلى عام 1936 في قيادة الحزب الشيوعي السوري اللبناني، وفي النشاط الرامي إلى التعريب الفعلي للحزب الشيوعي الفلسطيني، وفي تشكيل الحزب الشيوعي العراقي، وفي إعادة بناء الحزب الشيوعي المصري.

 ولعلي لا أكون مخطئا حين أعتبر مثل هذه النظرة الاستعلائية، وإرادة إلغاء الخصوصية التاريخية والاجتماعية للجزائر كانت سبب إخفاق النخب المشرقية الفكرية والسياسية في القراءة الموضوعية لانقلاب هواري بومدين ووصمه بمعاداة الاشتراكية التي كان يتبناها سلفه الرئيس أحمد بن بلة. وكان هذا حكمهم عليه من سنة 1965 إلى سنة 1972 بل إلى غاية تاريخ كتابة الرواية (1974- 1983). وهم بحكمهم غير التاريخي هذا يتناقضون مع حكم القائد الشيوعي الجزائري بشير حاج علي الذي اقتبست الرواية فقرات كاملة من مذكراته حول تعذيبه من طرف نظام بومدين، وكأن الروائي حيدر حيدر لا يعلم أنه في سنة 1972 فتح بومدين حوارا سياسيا مع المعارضة كان من نتائجه نقل بشير حاج علي من السجن إلى الإقامة الجبرية ليطلق سراحه بعد سنتين. ورافق ذلك إعلان الشيوعيين عن دعم نقدي لسياسة بومدين.

 أنا لا أصادر هنا حق الشرقيين وغير الشرقيين في نقد النظام السياسي الجزائري في عهد بومدين أو في عهد الرؤساء الذين أتوا من بعده، وللتاريخ فقط أذكر أنني كنت واحدا من الجزائريين الذين تظاهروا ضد انقلاب العقيد هواري بومدين وعمري لم يكن قد تجاوز في عام 1965، عام الانقلاب اثنا عشرة سنة. لكن ألاحظ فقط بأمانة أن نظرة الاستعلاء، وعملية إسقاط الحالة العراقية على الوضع في الجزائري، وتعميم ما هو خاص وجزئي قد ساهم في تقديم صورة وهمية خاطئة عن الجزائر وثورتها في مرحلتي الكفاح المسلح والاستقلال. ولعل أبرز مثال على لا تاريخية الخطاب والتصوير في الرواية القول أن "الموجة التي حملت بوخروبة وعبيد الله الكلبي" هي موجة واحدة.

 لقد صور الاستقلال في الرواية في صورة "أوهام الثورة التي انتهت"[7] وبنيله دخل "البلد تحت الزمن العسكري"[8]. وسادت فيه "ألوهية المال"[9] وباختصار فإن" الوطن امتهن بعد الثورة"[10] وكل ما قام به بومدين "حول الجزائر إلى بورديل"[11] وفي النهاية يمكن القول أن "ثورة المليون شهيد اغتالها العسكر والتجار"[12].

يشدد على بلاغة هذه الصور السلبية للاستقلال تراجيدية مصائر الشخصيات التي ارتبطت بالثورة ابتداء بالمناضلة فلة بوعناب التي انتقلت "من مناضلة مفعمة بالحيوية إلى مومس"[13]، ومرورا بلالا فضيلة أرملة الشهيد سي العربي الأخضر التي تزوجت يزيد ولد الحاج الذي جمع ماله من التجارة في السوق السوداء وكان واحدا من الجزائريين الذين وقفوا بعيدا عن الثورة ولم يدفعوا اشتراكاتهم المالية لها أسوة بباقي المواطنين. وها هو بعد الاستقلال يتحول إلى قطب مالي من أقطاب البورجوازية الجزائرية الكومبرادورية المتعاونة مع الخارج. وكل همه نقد سياسة "بومدين الاشتراكي" الذي يراه 'خليفة بن بلة الشيوعي".

 وما يلفت الانتباه حقا أن صفة البورديل التي تنعت بها الجزائر جاء على لسان أمنيين وعلى لسان شخصيات تمثل الجيل الشاب، وهي إلى جانب صفة الغدر التي توصف بها الثورة من أقوى الصفات والصور.

وإذا كان الاستقلال يصور مظاهر الثورة المغدورة؛ فإن حكاية سي العربي وانخراطه في الكفاح من أجل الاستقلال تبرز روح التضحية التي ميزت المجاهدين وصبرهم على التعذيب واستعدادهم للاستشهاد في سبيل حرية الوطن.

وتجمع حكاية عمر يحياوي بين تضحيات المناضل الشرس من أجل الحرية غداة الثورة وحياة الانتقال من امرأة إلى امرأة ومن حانة إلى حانة بعد الاستقلال.

لقد كتب فرانز فانون فصلا رائعا من فصول كتابه "معذبو الأرض" عن شراك الوعي الوطني في فترة ما بعد الاستقلال. نعتقد أن الأفكار الواردة فيه تلخص شراك وعي كل من فلة بوعناب وآسيا الأخضر. كلاهما ترى نفسها حرة، وكلاهما تفتح باب حرية جسدها على مصراعيه. إنهما بعبارة أخرى تؤلهان الجنس.

لا أعتقد أن هذا يعكس وعيا حقيقيا لموضوع الحرية ولو تغلف بغلاف فلسفي وجودي. إن تأليه الجنس هو الوجه الآخر لعبودية الجسد ولا يحتوي على فهم حقيقي لموضوع حرية المرأة.

وحسنا فعلت آسيا وهي تختار استكمال دراستها في جامعة الجزائر، فالتعليم هو الخطوة الأولى على الدرب الطويل لتحرير آسيا من سلطة زوج الأب البورجوازي على المستوى الفردي وهو الوسيلة التي تساهم في تحرر البلاد الاقتصادي على المستوى العام.

هذا ليس خطاب الرواية ولكنه الخطاب المستنتج من صورة الثورة الجزائرية ومصائر شخصياتها دون أن تصرح به.

 

 

 

 

 

 


- حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر، ط6 ، ورد للطباعة والنشر، دمشق 1988.[1]

[2] - Louis Althusser, pour Marx, François Maspero, paris 1980, p143.

- حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر ص56.[3]

- نفسه ص316.[4]

- نفسه ص18.[5]

- نفس المصدر والصفحة.[6]

- حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر ص18.[7]

- نفسه ص22.[8]

- نفسه ص38.[9]

- نفسه ص111.[10]

- حيدر حيدر، وليمة لأعشاب البحر، ص87.[11]

- نفسه ص114.[12]

- نفسه ص100.[13]