Menu

كلمة المؤلّف لكتاب: "كمين غسان كنفاني: كيف تعقب النص تاريخه وأدركه"

د. محمد نعيم فرحات

"عندما يفشل المدافِعون عن قضيّة، علينا

أن نغيّر المدافِعين، لا أن نغيّر القضية"

غسان كنفاني

عندما يلتحم وعي الكاتب على نحو نقديّ عميق في تداوله المركّب للواقع، يُفترض أن يتولّد عن ذلك خطاب أصيل بأثقاله وإدراكه ووعيه. وهكذا يمكن وصف الأمر مع غسان كنفاني، على نحو لم يضمن له مكانة عالية كمبدع فقط، بل كمنتجٍ لوعي يلاقي الضرورة التّاريخية في المكان الملائم بالذات. وعيٍ يدوم ويبقى ويدعو المعنيّين به: سواء معاصرين له أو لاحقين عليه، كي يستأنفوا على طريقتهم ما قاله، ليس لتمجيده عبر تجديده فحسب، وليس للإفصاح عن ندَم الخُطوات التي تكسّرت في الطرقات الخاطئة فقط، عند من تركوا وعيَ الخطاب المتناسب مع ضرورات التّاريخ ومنطقه وراء ظهورهم، بل كضرورة تعيد تشكيل نفسها في الزمن، لم يكن من المفيد ولا من الصواب، تركُها أو تخطّيها أو تجاهلُها أو التحايلُ عليها، طالما كان الوعي الذي قدّمه الخطاب منسجمًا مع جوهر ما هو مطلوب تاريخيًّا.

والعودة هنا لجوهر الخطاب الذي سبق لنصّ كنفاني أن قدّمه في اللحظة عينها التي كانت تتطلّبه وتحتاج إليه، وملاقاته أو استئنافه وتصعيده وتعميقه على يد حاملين جُدد، هي أفعال لازمة لتصويب وعي المعنيّين بفلسطين: فلسطينيّين كانوا أم عربًا أم غير ذلك، كمتطلّب للتعامل مع الضرورة والتّاريخ، التّاريخ الذي ليس من طبيعته أن يكون رحيمًا، وبالذّات مع من يخطئون في اختيار المناسب، وهم يتّجهون نحو تحقيق الغايات الجماعيّة الكبرى والشاقة، التي هي غايات متطلّبة بطبيعتها، ولا تتحمّل التهاون أو الضَّلال أو الأخطاء.

 

***

لقد ظل بمقدور نصّ كنفاني أن يُقدِّمَ على طريقته لكلّ المعنيّين قوّةَ الوعي المناسب وقدرته ومتطلبات الوصول للأهداف الكبرى، ويزوّدهم بطاقة الأمل والوعد والحلم. وعيٍ لم يخذل نفسه وهو يسير إلى قدَره "مستسلمًا لصَواب قلبه" وعقله معًا، بالإذن من محمود درويش، مشروطًا بقوّة الفعل غير القابلة للانكسار، أي بصيغة أخرى، الفعل المحمول على وعي حقيقيّ غير قابل للاستلاب، فعل مستكمل لعتاد الوعي وخياله، مزوَّدًا بشروط الإيمان والتفوّق على كل خيبة متوقَّعة من الذات أوّلًا، كشرط حاسم للنصر على كل الأعداء وشتّى صنوف التحدّيات الخارجيّة.

وبينما سقط الكاتب مسفوكَ الدم "بصورة محرومة من الوصف" كما قال محمود درويش يومًا، إلّا أن صواب الوعي الذي قدّمه لم يسقط، بل ظلّ يتصعّد قدُمًا عبر الزمن، وخصوصًا عندما كانت الفاعليّة الفلسطينيّة السياسية الُمقاوِمة تتراجع أو تُخفق أو تتدهور في تحقيق الاتّساق المناسب مع الجانب البنّاء في ثقافة الجماعة الفلسطينيّة، والاستعدادات الإيجابية التي أظهرتها، واستثمار ذلك في بناء الوعي الفعّال لمواجهة الواقع القائم عن الاحتلال، كما كان عليه الأمر في العقود الثلاثة التي تلَت النكبةَ الفلسطينيّة عام 1948.

ويتعلّق الأمر هنا بخطاب لم يكن مُستولَدًا من هوس نرجسيّ لشخصٍ مُبدع، أو تمخّض عن انفعال فرد طالب الآخرين بِتَمثُّلهِ، بل إنّ مصدر قوّة الوعي الذي قدّمه غسان كنفاني، ككائن مُشتبك بضراوة مع التّاريخ، قد كان في صدقيّته والتزامه ونقديّته ورهافته وجماليّته وصلوحيّته وعموميّته وعمق إدراكه لجوهر التّاريخ، وصولًا إلى تحوّله لدليل يحكم سلوك الكاتب نفسه قبل أيّ شخص آخر، دليل مُجربٌ وصالح ومناسب وفعّال ومُنفتحٌ على أفق تصعيد وتطوير فسيح، كي يسير عليه المعنيّون بحقول التّاريخ وتغيّره، مع ما يتطلَّبه ذلك من شروط.

وفي سياق التجربة الفلسطينيّة المعاصرة، تكاتف الوعيُ الذي قدّمه كنفاني في حينه، مع وعي لفلسطينيّين وعربٍ كبار، وتمخّض عن ذلك قيام أهمّ التحالفات التي جرت بين قُوى الوعي البنّاء وحامليه، يمكن العثور على مفاعيلها في كلّ اللحظات المضيئة واللافتة التي عرفها الحراك السياسي والثقافي المُقاوِم للفلسطينيين وللعرب في العقود الثلاثة التي تلت النكبة عام 1948.

إنّ سعي الفلسطينيّين بالذات للتحرّر والانعتاق كان يتطلّب منهم عمومًا، ومن الفاعِلين السياسيّين فيهم خصوصًا، استلهام وعي هذه الخطابات وتحويله لدليل وقناعة وإيمان وإستراتيجية وسياسات وممارسات وثقافة وتراكمات، سواءٌ أكان جهدهم يرمي للتوافق مع ممكنات السياسة اللئيمة، أم كان يسعى ويتحرك لتجسيم منطق الحقّ والتّاريخ كما يعتقدون به. إلّا إنّ انكسارًا قد حصل لحالة الوعي تلك، وجرى استبدالُها بحالة وعي غير مناسبة في التعامل مع الواقع القائم، انكسار كان له أطراف وفاعِلون وسياقات.

إن ما حصل عند الفلسطينيّين ولهم في ثنايا العقود السبعة الماضية، التي شهدت حالات صعودهم ونزولهم المضنية، في أرجاء تاريخ صعب وشاقٍّ، يظهر مفارقة مُتعِبة، إذ كشفوا عن قدرتهم على بلورة حالة مقاومة حيوية ظهرت من صفوف جماعة نُكبت على نحو استثنائي وخاص، غير أن هذه الحيويّة عانت من اشتغال خطرَين على الأقلّ:

الأوّل: حلفٌ قوي متعدد الأطراف كان يناهضها ويناصبها العداء، وعمل على تخريبها، وهذا ما يفترض منطقيًّا تصاعدها في الفاعلية والمناعة لمنع احتمالات الخراب من تحطيم مسارهم ووعيهم.

والثّاني: نمطُ تفكير فلسطينيّ مأسويّ الطّابَع، مسكون بتشكيلة من الشوائب البِنيويّة التي لم يتخلّص منها برغم الأذى الملموس الذي تسبّبه، الأمر الذي حال دون مراكمة الحيوية التي أظهرها الفلسطينيّون ونمذجتها ومواصلتها وتصعيدها في أطر متينة، ووضعها في مدار مناسب، كضرورة تاريخية يتطلّبها البقاء والتحقّق في التّاريخ. إذ لم يتمأسَس جهدهم في هذا الصدد، في بنيٍة وفي حركةٍ منظّمٍة وراسخٍة، لها صفةُ الدوام وقدرة التعديل الإيجابي لأطروحاتها ومساراتها، لذلك كان الوعي المناسب -عِندَهم- عرضةً للكسر وللدّحر وللتهميش وللتجاوُز.

هنا بالضبط، في هذه المساحة المنهكة وجدانيًّا وتاريخيًّا، أي عندما خرج أغلب الفاعلين التّاريخيّين الفلسطينيّين، عن وعلى، متطلبات الوعي الفعّال، خصوصًا، قبل أن يثمر تحقيق تغيّر جوهريّ في وضعهم، نعثر على جذر الأزمة البنيوية العميقة التي يعيش الفلسطينيّون في كنَفها منذ عقود خلت. لقد كان واقعهم يتطلّب منهم مسارًا مختلفًا عمّا اختاروا أو أُجبِروا عليه لأسباب شتّى، وما جرى عندهم في هذا الصدد يثير الدهشة عند تقييمه من زاوية مصالحهم وعواطفهم ومنطق الضرورة معًا.

***

غير أنه، وبينما كان الفلسطينيّون يعاينون عواقب الانكسار الذي جرى لهم في العقود الثلاثة الأخيرة، كان هناك متغيّر هامٌّ يحصل في بعض ثناياهم، وفي ثنايا القُوى الأصيلة في العروبة الثقافية التي تحيط بهم، وفي تخوم أبعد من ذلك، أي، في محيطهم الاستراتيجي الحميم، الذي يتحركون في ثناياه حكمًا، والذي هو معنيّ ب فلسطين ومشغول بأسئلتها المشرَعة على نحو حاسم، وله دور جوهريّ يؤدّيه في تقرير مصيرها، متغيّر يقوم على رؤية أكثر تكاملًا وحيوية ممّا كان لدى الفلسطينيّين إبّان صعودهم، استند لوعي مختلف، أخذ يعيد تشكيل فلسطين، بمعانيها الخصيبة والفريدة، الممتدة من الأرض حتى السماء، فلسطين، بما هي موضوع وشأن لا يخص الفلسطينيّين وحدهم.

في مجرى هذه العملية، جرى نفض الغبار عن الوعي الفعّال ومقولاته وقدراته، وإعادة استذكاره وإنتاجه في سياقات قوية وعميقة غير قابلة للانتكاس أو الانكسار، والذهاب به بعزم واضح وقدرة ملموسة نحو حقول التّاريخ، لإعادة رسمه على أساس معنى الحقّ وتكليفاته التي لا التباس فيها ولا تِيه.

هنا، كان الوعي الذي بلوره غسان كنفاني نصًا وممارسةً حتى الموت، ودعا إليه كخيارٍ لا بديل له، يجد أُفقَه ومداره المناسبَين مرة أخرى من جديد، على أيدي وارثين تاريخيّين، جدد وقدامى، يتشكلون بقوة على عين التّاريخ، على أساس معنى فلسطين ومتطلباتها، تمكنوا من بلْورة وعيهم وموقفهم، بروحية استأنفت وجددت وتجاوزت التجارب السابقة عليها.

قليلون هم الذين يذهبون لأعالي السماء والزمن والذاكرة المستدامة، وهم يتركون خلفهم علامات لها كل هذه القدرة على أن تبقى وعلى أن تقول. وغسان كنفاني لم يكن واحدًا من هؤلاء فحسب.

***

يبقى بأن هذه الدراسة قد تناولت خطابَ غسان كنفاني، بصفته أحد الخطابات الأساسية التي صعدت من ثنايا الوضع الفلسطينيّ الملتهب بفعل ما سمّاه الفلسطينيّون بالنكبة المترتبة عن إنشاء دولة إسرائيل، على إنقاذ الجماعة الفلسطينيّة عام 1948. لقد كانت النكبة حدثًا سوسيو- تاريخيّ شاملًا مسَّ الواقع والتصورات على نحو مزلزل، وتحوّل الفلسطينيّون بفعلها إلى عِهنٍ منفُوشٍ بالمعنى الزمنيّ للكلمة.

وعلى سبيل ضبط توجُّهاتها ورهاناتها، تعقّبت الدراسة هدفَها من زاوية بِنية الوعي، كما بناها نصّ كنفاني في علاقتها مع التّاريخ الذي صدرت عنه من جهة، وبنية الوعي التي كانت تتحكم في الواقع ومتطلباته من جهة أخرى. وكانت حريصة على تتبع التحوّلات الحاصلة في هذا السياق: نصيًّا وتاريخيًّا. لقد كان سعيها مركّزًا وهي تبحث عن طبيعة العلاقة بين بنية وعي الخطاب وبِنى وعي الواقع.

جدير بالتنويه القول، إن هذ الدراسة تنتمي من الناحية النظرية والمنهجية عمومًا إلى علم اجتماع الثقافة، وحقل العلاقة بين النصّ والتّاريخ، إلّا أنها بحثت بانفتاح وتطلّع، عن كلّ امتداد ممكن من شأنه أن يمتّنها ويعزّزها ويفتحَ أفْقها في كلّ اتّجاه مفيد.

وبحكم العناصر الحاكمة لها موضوعيًّا، فقد تحرّكت الدراسة، وهي تقدم مساهمتها السوسيولوجية في مجال نصي وتاريخي مركّب، وكان عليها أن تتعامل مع عناصر الصيرورة كلها: النصّ والفاعل والواقع والأثر، ودائمًا من خلال المقولة المركزية الناظمة لها: أبنية الوعي.

وهنا من المُهم الإشارة إلى أن كفاءة المقاربة المبنية في تحقيق هدفها، سوف تتحدد بكيفية اشتغالها في الحقل ونموذجها التحليلي قبل أي عامل آخر. ومن باب التفصيل فقد تناول المحور الأول من الدراسة: مقاربة لعلاقة النص بالعالَم ومكوّنات هذه العلاقة وبعض خصوصيات السياق، فيما تناول المحور الثاني البنية الدالّة لخطاب كنفاني ومندرجاتها المختلفة، لتنتهي عند استعراض الوعي الذي قدّمه الخطاب لتاريخه.