في بيان لافت لها حذرت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" من تنامي ظواهر اجتماعية ونفسية مقلقة، وأكثر خطيرة داخل أنساق المجتمع الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزة، يأتي هذا البيان بعد ما يقارب 18عاماً على حصار قطاع غزة ليقرع جدران الخزان حول ناقوس الخطر الذي يدق بنية المجتمع الفلسطيني في غزة، حيث يحاول هذا البيان وضع "المدماك الأول" لمعالجة ظاهرة الانتحار، وظاهرة الهجرة غير الشرعية، عبر قوارب الموت التي يختار فيها الشباب الفلسطيني الموت بسرعة عجيبة في البحر، بدلاً من الموت على نحو بطيء وقاسٍ على حد تعبير أحد الشبان، وغيرها من الظواهر مثل "عمالة الأطفال".
بحسب بيان الجبهة الشعبية أن تنامي هذه الظواهر تؤدي بالضرورة إلى انكشاف أمني للمجتمع والحاضنة الشعبية للمقاومة، وهذه قراءة وطنية تصب بطبيعة الحال في فهم وإدراك، أن معالجة هذه الظواهر هو جزء لا يتجزأ من حالة الصراع والمواجهة المستمرة مع الاحتلال، حيث الأخير لا شك يسعى جاهداً إلى تفكيك التماسك والتضامن الاجتماعي، والقناعة النفسية بضرورة "التضحية" في سبيل عدالة القضية الفلسطينية، وهذا ما يتطلب أن يؤمن كل فرد بدوره الوطني، والاجتماعي، والنفسي...، وفي هذا السياق يمكن تحليل كلمات " غسان كنفاني " التي قالها على لسان "سعيد" في روايته "عائد إلى حيفا": "يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع الثمن، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم، وأعرف الآن أنني أنا الأخر دفعت ابناً بصورة غريبة، ولكنني دفعته ثمناً، ذلك كان حصتي الأولى، وهذا شيء يصعب شرحه"، تبدو كلمات "سعيد" كأنها تقصد أن ثمن عن ثمن يفرق، حيث الثمن في القصية الفلسطينية أمر لا مفر منهُ.
ركزت الجبهة الشعبية في بيانها على دور الحصار في تنامي هذه الظواهر التي "تنخر" في القيم الوطنية والاجتماعية، ولا شك هنا أن الاحتلال هو "المسبب الأساسي" لمثل هذه الظواهر فيما يخص القضية الفلسطينية تحديداً _ ليس الاحتلال هنا شماعةً_ حيث لا يمكن أن تكون المقاومة والتي تسعى بكل السبل الممكنة لتحرير الشعب الفلسطيني هي "المسبب" إن هذا المنطق قائم على وضع العصا في الدولاب لتفتيت عجلة المقاومة، حيث استخدام المنطق الثاني لتبرير المنطق الأول هو لعبة خبيثة هدفها معاقبة الشباب الفلسطيني المؤمن بالمقاومة تحديداً، وضرب قيمة المقاومة داخل البيئة الحاضنة، ومن يستخدم هذا المنطق يحاول معالجة الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني بظلم آخر.
يعيش الشباب الفلسطيني بطبيعة الحال بين فكي كماشة، فبحسب علماء الاجتماع مثل: دور كايم، وبارسونز، وميرتون... وضعت المجتمعات أهداف بنائية من جهة ووسائل لتحقيق الأهداف تكون مقبولة ومشروعة من جهة أخرى، مثل التعليم، وجمع المال، والعمل...، وفي ظل رفع سقف الأهداف على الرغم من وجود الاحتلال، وأيضاً في ظل رفع سقف الوسائل يعيش الشباب الفلسطيني حالة من الضغوط الاجتماعية، وضغوط النجاح، ويُطلق عليها علماء الاجتماع "مرحلة الأنوميا"، وهذا ما يجعل الشباب يذهب إلى طرق مختلفة لبلوغ هذه الأهداف عبر خمسة طرق للتكيف الاجتماعي، حيث يذهب نوع إلى مبدأ الالتزام بالأهداف والوسائل ويطلق عليهم اسم "الملتزمون"، وهناك من يذهب إلى القبول بالأهداف، ولكن عبر وسائلهم الخاصة ويطلق عليهم اسم "المخترعون" _والمخترعون هم أكثر ما يمارسون الجريمة_ بالإضافة إلى وجود نوع يرفض الوسائل والأهداف ويعرفون باسم "الانسحابيون"، أما "الطقوسيون" يرفضون الأهداف مقابل قبولهم بالوسائل المشروعة، ويبقى النوع الأخير وهم "الثائرون"، حيث يرفضون الأهداف والوسائل، والفرق بينهم وبين الانسحابين في أن لهم أجندتهم الخاصة من أهداف وقيم اجتماعية، والنوع الأخير هنا يطلق على "الجماعات الثورية" أكثر من أي شيء أخر.
من جهة ثانية، يعيش الشباب الفلسطيني في غزة أمام حالة من الحصار الخانق، والقاتل من قبل الاحتلال، وهذا لعب دوراً في ازدياد حجم البطالة، والعزوف عن الزواج، وغيرها من المشاكل الاجتماعية، أما على الصعيد النفسي أصبحت أمراض مثل: الاكتئاب، وثنائي القطب، والانفصام... أمر لا مفر منه إذا لم يكن هناك وقاية قائمة على خطة وطنية دفاعية في هذا الاتجاه، وفي سياق متصل يعيش الشباب الفلسطيني حالة من الاغتراب/الاستيلاب، بحسب "كارل ماركس"، كنتيجة حتمية لوجود الأنظمة الرأسمالية، وهذا بدوره يؤدي إلى عواقب وخيمة على مستوى المجتمع والعائلة، حيث هنا يحاول جزءاً من الشبان التكيف مع الواقع الاجتماعي، وجزءاً يسعى إلى الهروب من الواقع، وهذا ما يحدث في غزة، وجزءاً آخر يعمل على "الثورة" على الواقع بتحميل الأسباب "للمقاومة" _ لولا المقاومة ما حدث ذلك_ والجزء الأخير يسعى "للثورة"، ولكن على الاحتلال، والجزء الأخير هم الأكثر إدراكاً ووعياً.
يصعب حصر الأسباب والعوامل والدوافع لهذه الظواهر في مادة واحدة، وفي هذا السياق يتطلب الأمر "خطة وطنية فلسطينية من قبل المقاومة أولاً، تتناسب والواقع الفلسطيني للخروج من عنق الزجاجة، وهذا بدوره يتطلب أبحاثاً ودراسات علمية، وعملية من قبل الخبراء تلاءم الحاجة الفلسطينية، بالإضافة إلى إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني التي كسرت فقرات من العامود الفقري للقضية، وأكثر يتطلب الأمر تضافر كل الجهات المعنية والمختصة لتدعيم صمود الشباب الفلسطيني في المشروع الوطني التحرري كما طالبت الجبهة الشعبية في بيانها.
بالعودة إلى غسان كنفاني، حيث نحن اليوم أحوج من نكون إليه، تحديداً في روايته "رجال في الشمس"، فقد قتل كنفاني جميع أبطاله على الحدود عند ذهابهم للبحث عن واقع أفضل، وهذا بدروه ما ينطبق اليوم على "خزان قطاع غزة"، وما أشبه اليوم بأمس، حيث يحاول الشباب الفلسطيني الذهاب في مغامرة يحلم فيها بفردوس أوروبا، بعد أن عاشوا بين سندانيه الفقر، والبطالة، وفقدان الأمل، واليأس، والإحباط... ومطرقة الاحتلال، ويبقى السؤال الذي طرحهُ "غسان كنفاني" ما زال عالقاً حتى اليوم، وما زال يُناسب الواقع الفلسطيني، حيث الاحتلال ما زال موجوداً، وبات واضحاً لا شك فيه أن قرع جدران عن قرع جدران يفرق: "لماذا.. لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟".
يقول "غسان كنفاني" أيضاً: "إنّهم يسرقون رغيفك، ثمّ يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم!"، إن "الوقاحة" هنا يمارسها الاحتلال أولاً، ومن ثم بعض القيادات الفلسطينية ورجالات الأعمال ثانياً، وفي سياق مختلف أعتقد هنا أننا بحاجة لمعالجة مفهوم "القدوة" قبل كل شيء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن تأخذ الشباب الفلسطيني من أحمد سعدات، وعباس السيد، وليلى خالد، وأحمد مناصرة، وتامر الكيلاني... قدوة لهم، وهناك أسماء عالمية يمكن أيضاً الاطلاع عليها، حيث هنا نحتاج إلى الوعي لمثل هذه المفاهيم، عبر إعادة دورها في عقول الشباب، خصوصاً أننا نعيش في طبيعة مرحلة هي مرحلة "تحرر وطني وديمقراطي"، وأن المال هو مفسدة للقضية الفلسطينية، وأكثر أن تبتعد الشباب عن "أثر الاستعراض" الذي يناقشه علماء الاجتماع والمقصود هو عدم البحث عن التقليد الأعمى للدول الغربية، هذا التقليد الذي عملت "وسائل الاتصال الاجتماعي" على تنميته بشكلٍ ملحوظ، عبر المقارنة التي يقوم فيها الشباب بين واقعهم والواقع الغربي، ونقصد بطبيعة الحال بالشباب هنا "الذكور"، حيث "الإناث" لهم واقع مختلف بحسب البنية الشرقية للمجتمع الفلسطيني.