في السادس والعشرين من تموز، يوليو 2023، احتجز الحرسُ الرئاسي بالنيجر رئيسَ البلاد المنتخب محمد بازوم، وأعلن عزله من منصبه. الخطوة التي عارضها الجيش في بداية الأحداث، ثم قبل بها بحجة حقن الدماء، وحفظ السلم الأهلي.
وكان بازوم قد وصل إلى سدة الحكم عام 2021، في أوّل انتقالٍ ديمقراطي للسلطة في النيجر منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960. بعد الانقلاب مباشرةً قامت فرنسا ومعها الاتّحاد الأوروبي بإيقاف مساعداتٍ بمئات ملايين الدولارات للنيجر، واتخذا موقفًا حازمًا من الانقلاب. في المقابل كان موقف الولايات المتحدة أقلّ حدّة، حيث عرضت الوساطة بين الجيش والرئيس بازوم، وهو ما رفضه الانقلابيون، وكان لافتًا أنها لم تستخدم حتى الآن تعبير "انقلاب" في وصف ما حصل في النيجر، واكتفت باعتباره "إعاقة للديمقراطية"؛ الأمر الذي عزّته صحيفة الواشنطن بوست إلى خشية الإدارة الأمريكية من تأثر علاقاتها الأمنية مع النيجر؛ لأنّ ذلك سيعني حظرًا فوريًّا لجميع المساعدات الأمنيّة، بما فيها تلك المستخدمة في محاربة الجماعات الإسلامية المسلحة النشطة في النيجر وغرب إفريقيا عمومًا، علمًا بأنّ للولايات المتحدة قاعدتين عسكريتين في النيجر تضمان نحو ألف جندي أمريكي.
إفريقيًّا برز موقف الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "ECOWAS"، وهو تجمع إقليمي مكون من 15 دولة. "إكواس" طالب بعودة الرئيس المنتخب فورًا، ملوّحًا بالتدخل العسكري في النيجر وحدّد أكثر من مهلةٍ لذلك، لكنّه لم يفعل شيئًا عند انتهاء مدّة المُهَل، فيما رفضت الجزائر طلبًا فرنسيًّا بفتح أجوائها أمام طائراتٍ حربيّةٍ فرنسيّةٍ ستشارك في عمليّةٍ عسكريّةٍ محتملةٍ في النيجر، بحسب ما نقلت وسائلُ إعلامٍ غربيّة، وهو ما يشير إلى تحفّظ الجزائر التي يربطها مع النيجر شريط حدودي طوله ألف كيلو متر، على الحل العسكري للأزمة.
وحدهما مالي وبوركينا فاسو دعمتا الانقلاب، وإن بشكل غير مباشر، حين ذهبتا برفض تدخل "إيكواس" العسكري إلى حد التهديد بقتال جيشيهما إلى جانب انقلابيي النيجر، ولم يكن موقفهما مفاجئًا، فقد تم الإطاحة بقيادة كلا الدولتين بشكلٍ غير ديمقراطي في 2021 و2022 على التوالي. وكما حال الانقلابيين في النيجر تتخذ قوى الحكم الجديد في مالي وبوركينا فاسو موقفًا معاديًا من فرنسا، ويتمتّعون بعلاقاتٍ جيّدةٍ مع روسيا وذراعها العسكري غير الرسمي، شركة فاغنر التي هناك مؤشّراتٌ قويّةٌ على مشاركتها الفاعلة في دعم الانقلابين الأولين وشبهات حول مشاركتها العملياتيّة في الثالث، وإن استبعد ذلك وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، الذي استبعد أن يكون انقلاب النيجر بتحريض من روسيا أو فاغنر، لكنّه حذّر في الوقت نفسه من أنهما ستحاولان استغلال الفراغ السياسي والاقتصادي الحاصل نتيجة الانقلاب.
تقع النيجر في قلب غرب إفريقيا، ولا يزيد الناتج المحلي لسكانها البالغ عددهم 25 مليونًا عن 15 مليار دولار، وهي بذلك تعدّ دولةً فقيرةً رغم غناها باليورانيوم، حيث تعدّ سابع مصدر له في العالم، ومن أهم مُصدريه إلى أوروبا وفرنسا التي تعتمد على وارداتها من النيجر من العنصر المشع في توليد الطاقة النووية، التي زادت أهميتها بعد تراجع الصادرات الروسية من الغاز إلى أوروبا عقب الحرب الأوكرانية.
النيجر دولةٌ فقيرةٌ وليس لها ثقلٌ إقليميٌّ أو دولي وازن، فما الذي يجعل انقلابًا عسكريًّا فيها يحظى بهذا الاهتمام الدولي، خاصّةً أنّه خامس انقلاب عسكري تشهده البلاد منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960؟
الجواب يكمن بالدرجة الأولى في الظرف التاريخي الذي حصل في ظله الانقلاب، حيث يعيش العالم اليوم تحولات كبرى في مراكز القوة الدولية، فمن جهةٍ هناك صعودٌ لقوى جديدةٍ تتطلّع لمدّ نفوذها إلى أقاليمَ بعيدةٍ عن إقليمها الطبيعي. ومن جهةٍ ثانيةٍ تعمل قوى الغرب التي هيمنت على العالم طوال القرون الأربعة الماضية على لجم هذا الصعود والإبقاء على هيمنتها، وإن بأشكالٍ جديدة، أكثر نعومة، وفيها درجة من الشراكة مع النظم الحاكمة في الدول الوطنية، هذا ناهيك عن المصالح المباشرة لفرنسا على وجه الخصوص ثم الولايات المتحدة بالنيجر، ويكفي أن نذكر أنها حتى الانقلاب الأخير كانت الدولة الوحيدة في منطقة غرب إفريقيا التي ما زالت تربطها علاقات وثيقة بفرنسا، ولن يكون سهلًا ولا مقبولًا بالنسبة للقوّة الاستعماريّة القديمة أن تفقد ثالث حليف لها في أقل من ثلاث سنوات، في منطقة كانت مجالًا تسيطر عليه ثقافيًّا وسياسيًّا بلا منازع، حتى الأمس القريب.
مما تقدم يمكن فهم سبب تشدد الموقف الفرنسي، لكن ذلك ليس كافيًا لفهم تمايزه وتحليله عن موقف الحلفاء الغربيين، سواء داخل الاتحاد الأوروبي كألمانيا وإيطاليا، أو الولايات المتحدة التي كما أسلفنا امتنعت عن وصف ما حصل في النيجر بالانقلاب. إنّ موقف أمريكا يعيد إلى الذاكرة محطّاتٍ تاريخيّةً في علاقتها بإرث حلفائها ومصالحهم، بدءًا من أزمة السويس عام 1956 وليس انتهاء بأزمة النيجر، حين تحينت الفرصة بانتهازية ودهاء، حتى توجِد لنفسها موطئ قدم أولًا، ثم تصبح الطرف المركزي في معادلة الهيمنة على هذه الدولة أو تلك وتترك لحليفها المهيمن السابق بعض الفتات.
ولا يبدو أن الولايات المتحدة تعمل حسابًا كبيرًا للدور الروسي في إفريقيا؛ لأنها تعلم أن روسيا لا تستطيع أن تكون بديلًا للعلاقات الاقتصادية والأمنية مع الغرب، هي فقط تشاغب وتبحث عن صفقات أعمال مع القوى الانقلابية، وظهر ذلك عندما تعهد المجلس العسكري في النيجر للأمريكان بالابتعاد عن الروس. يبقى الخطر الحقيقي بالنسبة للولايات المتحدة من الصين التي تعمل منذ عقدين عبر دبلوماسيتها ومؤسساتها الاقتصادية على مد نفوذها داخل القارة السمراء.
إنّ إفريقيا اليوم هي بؤرة الاشتعال للصراع الدولي، وهي تشكل بيئةً مناسبةً لذلك؛ نظراً لهشاشة أنظمتها السياسيّة، وضعف مناعة مجتمعاتها التي ما زالت تتنازعها التجاذبات الإثنية والقبلية والدينية، ولم تنجح في بناء دولةٍ وطنيّةٍ حديثة.
الظرف الدولي الراهن يجعل احتمالية اندلاع حرب باردة جديدة عالية، وربما تكون هذه الحرب قد بدأت بالفعل كما صرح الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا مؤخّرًا، ومن أهم مؤشراتها صعوبة عودة الاستقرار لأي بلد تندلع فيه أزمةٌ داخلية، فهي تفعل في جسد الدول فعل مرض السكري في جسم الإنسان، حيث يبطئ التئام الجروح حتى السطيحة منها. كذلك الأمر في حال صراح الأقطاب الدولية الذي يعبر عنه مصطلح الحرب الباردة، تصبح عودة الاستقرار إلى بلد تتفجر فيه أزمة حادة أو صراع داخلي عملية صعبة وتأخذ وقتًا طويلًا، فبمجرد حدوث نزاعٍ داخلي في دولةٍ ما سرعان ما تتدخل الأقطاب الدولية لدعم قوى داخلية، في محاولة منها للهيمنة أو لتعطيل استتباب هيمنة الأقطاب الدولية الأخرى داخل هذا البلد، وهو السيناريو الذي شهدناه في البلدان العربيّة التي حصلت فيها انتفاضاتٌ شعبيّة.
ربما من المبكر الخروج بحكم حول إن كان العالم قد دخل بالفعل في حربٍ باردةٍ جديدة، لكن المؤكّد أنّه لو وقعت هذه الحرب ستكون وطأتها ونتائجها، خاصة على شعوب الدول النامية أكثر قسوة من الأخيرة التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، وذلك لتعدد الأطراف الداخلة فيها اليوم، فنحن لسنا أمام قطبين عالميين فقط، بل هناك أقطاب عدة، بعضها متحقق كالصين والولايات المتحدة، وأخرى في الطريق كالهند، ولكل منها تحالفاته، وطموحاته وتطلعاته الدولية. ومن ناحية أخرى، وعلى خلاف الحرب الباردة بين القطبين الاشتراكي والشيوعي، تتراجع القيم والمبادئ العليا والأيديولوجيات الفكرية في صراعات اليوم، وتغيب تقريبًا شعارات كالتحرر الوطني والاشتراكية والعدالة والحرية والاستقلال وغيرها، فليس هناك وضوح لليمين واليسار، كما نرى على سبيل المثال في الحرب الأهلية السودان ية، صراعات من هذا النوع يمكن أن تقود إلى تحلل وتفكك الدول، وإحداث أضرار ربما لا يمكن إصلاحها في المستقبل.