Menu

سنواتُ التطبيعِ العجاف

رضي الموسوي

نشر هذا المقال في العدد 54 من مجلة الهدف الإلكترونية

في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول الماضي مرّت الذكرى الثالثة لاتفاقيّة التطبيع التي وقعتها حكومة البحرين مع العدو الصهيوني، بعد أن وقّعت الإمارات اتفاقيّةً مماثلةً أكثر تفصيلًا، ولحقتها كلٌّ من السودان والمغرب باتفاقيتين فاقعتين تترجمان الحالة التي وصل لها الوضع العربي في أغلب مفاصله. جاءت هذه الاتفاقيات بعد ثلاثين عامًا على توقيع اتفاقية أوسلو في الثالث عشر من سبتمبر/ايلول 1993 بين الكيان الصهيوني ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، لتتشكّل فيما بعد السلطة الفلسطينيّة التي جلّ ما أنجزته "التنسيق الأمني" مع الكيان، يطارد جنوده بموجبها كوادر الفصائل المقاومة للاحتلال وعناصرها. فماذا كانت نتائج اتفاقيات التطبيع الجديدة التي وقّعت بضغط من الإدارة الأمريكيّة بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب؟ وما مستقبل الضغوطات الأمريكية المتصاعدة على دول الخليج على وجه الخصوص؟

يعتقد البعض أن تأريخ الصكوك والاتفاقيات ليس له دلالات، لكن الحقيقة غير ذلك. فالكيان الصهيوني يحرص على ترتيب تحركه وفقًا لما يراه من تواريخ تخدمه وتدفع مشروعه الاستيطاني الكولونيالي إلى الأمام. فالاجتياحُ الصهيوني للبنان في 4 حزيران 1982 يُذكّر بنكسة حزيران 1967 ليعزّز الهزيمة في الذهنية العربيّة، في شقيها؛ الرسمي والأهلي، ويكرس مقولة "الجيش الذي لا يقهر"، فجاء الاجتياح الذي أفضى إلى خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية من بيروت إلى الشتات في أغسطس/آب 1982، ليتم ارتكاب واحدة من أبشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في مخيمي صبرا وشاتيلا، قتل فيها آلاف المدنيين الأطفال والنساء والشيوخ.

أيلول شهر حمل كوارث كبرى وهو نفسه الذي طُبِخت ووقعت فيه اتفاقيات إبراهام بين الكيان ودولتين خليجيتين في العام 2020 هما الإمارات والبحرين وتبعتهما دولتان عربيتان هما السودان والمغرب. لم يكن لهذه الدول أن تتجرأ على ما أقدمت عليه لو أن السلطة الفلسطينية لم توقع اتفاق أوسلو أو أنها قررت إلغاءه باعتباره زاد من معاناة الشعب الفلسطيني وعبّد الطريق لمصادرة الأراضي والممتلكات وهدم البيوت وقتل الشباب خارج القانون وسوقهم إلى الأسر، حيث ينتظرهم جحيم الفاشية الصهيونية هناك.   

تفيد الإحصاءات الفلسطينيّة أن عدد المستوطنين الصهاينة قد تضاعف في الضفة الغربية و القدس منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو، حيث توسعت المستوطنات الإسرائيلية، وزاد عدد المستوطنين من 116 ألفا قبل اتفاق أوسلو إلى أكثر من 726 ألف مستوطنٍ صهيونيّ في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، وتعدّ هذه المستوطنات غير قانونية وفق القانون الدولي كما هو الحال مع البؤر الاستيطانية. وتشير عمليات الرصد التي تقوم بها المؤسسات الفلسطينية أن الفترة التي أعقبت توقيع الاتفاقات الإبراهيمية 2020 قد زادت من انتهاكات الكيان، وأن عام 2022 هو الأسوأ منذ عام 1967، فيما شهد العام الجاري 2023 تصاعدًا في هجمات المستوطنين على الفلسطينيين في مختلف المناطق. ويشير تقرير فلسطيني إلى أن المستوطنين شنّوا 130 اعتداءً في شهر يناير/كانون الثاني، منها أكثر من 20 اعتداءً في ليلة واحدة، بينما نفذ المستوطنون طوال عام 2022 نحو 1200 اعتداء شارك جيش الاحتلال مباشرة في العديد منها. لقد شجعت اتفاقات أبراهام الكيان الصهيوني على مضاعفة الجرائم التي يقوم بها الاحتلال في الأراضي العربية المحتلة، وتكثيف اعتداءاته على سوريا، وانتهاك سيادة أراضيها بدعم وتغطية أمريكية وغربية غير محدود، وصمتٍ وتواطؤٍ رسمي عربي، خصوصًا تلك الدول التي وقعت اتفاقات تطبيعيّة مع الكيان.

شماعة إيران:

منذ التوقيع على اتفاقيات أبراهام، ضاعف الكيان من اختراقاته لمنطقة الخليج العربي وزاد من توتير الأجواء وممارسة عملية الشحن والتحريض بين دول المنطقة، خصوصًا ضد إيران التي تعدّها تل أبيب العدو الأول إضافةً لدول الممانعة، وهي لذلك لا تتردّد في ممارسة انتهاكاتها ضد الدولة السوريّة بحجّة محاربة الوجود الإيراني فيها. لكن الاتفاق الإيراني السعودي برعاية الصين أخرج الكيان من طوره كما فعل الشيء نفسه مع الإدارة الأمريكية التي وجدت في هذا الاتفاق نقطة تحول لصالح بكين المتمددة جغرافيا في أنحاء المعمورة مدعومة بقوة اقتصادية تضاهي قوة الولايات المتحدة وتسير نحو إزاحتها من على عرش الاقتصاد العالمي؛ الأمر الذي فرض على الولايات المتحدة إعادة النظر في قرارها القاضي بتخفيف وجودها في منطقة الخليج لصالح تركيزها شرقًا صوب بحر الصين الجنوبي ومنطقة النمور الآسيويّة.

تشير المعطيات الجديدة إلى تحرّك جدي للولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تم وأده بعد العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، ولقطع الطريق على مشروع "الحزام والطريق" الذي تعمل الصين على إقامته، الذي من شأنه أن يُعجّل بتبوئها قيادة العالم. تم الإعلان عن هذا المشروع على هامش قمة العشرين التي عقدت في مدينة نيودلهي الهندية في النصف الأول من شهر سبتمبر/أيلول الماضي إثر لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الهندي ناريندارا مودي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. يفترض أن يمتد مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا" عبر بحر العرب من الهند والإمارات العربية المتحدة ثم للسعودية و الأردن والكيان الصهيوني ليصل إلى أوروبا، كما يشمل كابلا بحريا وبنية تحتية لنقل الطاقة، حسب صحيفة "فاينانشال تايمز"، ومن ضمن أهداف مشروع الممر إنشاء خطوط للسكك الحديدية وربط الموانئ البحرية.

في حال المضي قدمًا بمشروع الممر الاقتصادي، فإنّ المتضرّر الأكبر ستكون مصر وقناة السويس التي تحقّق إيرادات تبلغ قرابة 10 مليارات دولار سنويًّا وتتحكّم في نسبةٍ مهمّةٍ من الملاحة البحرية العالمية، كما سيتم تهميش كل من سوريا ولبنان ودول عربية أخرى، وسيعزز مكانة الكيان الصهيوني، وسيقسم الوطن العربي أكثر مما هو مقسم في الوقت الراهن. لذلك وصف الرئيس الأمريكي هذا المشروع بـ "التاريخي"، بينما انتشى رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، وهو يلقي خطابه في الدورة الـ 78 للأمم المتحدة رافعًا خارطة الشرق الأوسط خالية من اسم فلسطين والضفة الغربية وقطاع غزة ووضع مكان كل هذه الجغرافيا اسم الكيان، ليقول إنّ دولة الاحتلال "تقترب من توقيع اتفاق سلام مع السعودية (..) وأن الاتفاقات الإبراهيمية تعدّ "نقطة تحول تاريخية"، مشدّدًا على أن توقيع اتفاق مع السعودية سيغير خريطة الشرق الأوسط برمتها وسيخلق شرقًا أوسط جديدًا.. ويمكن تحقيق ذلك بقيادة الرئيس جو بايدن"، حسب زعمه.

مربط الفرس:

إذن، فالشرق الأوسط الجديد الذي بشر به وزير الخارجية الأسبق شيمون بيريز في كتابه الذي حمل نفس الاسم وأصدره بعد مؤتمر مدريد (1991) الذي فرضته واشنطن على الدول العربية إثر اجتياح الجيش العراقي للكويت في اغسطس/آب 1990، وأنتج اتفاقا أوسلو ووادي عربة.. هذا "الشرق الأوسط" يراه نتنياهو قريبًا مع اقتراب التطبيع مع السعودية التي تقود اليوم القاطرة العربية، خصوصًا على الصعيد الاقتصادي والمالي، حيث تعدّ أكبر قوة اقتصادية في المنطقة، فقد بلغ ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي 2022  أكثر من 1.06 مليار دولار أمريكي، وحقق نموًّا بلغ 8.7 بالمئة، وهنا مربط الفرس، حيث يسعى الكيان الصهيوني لتحقيق الاختراق الأكبر المتمثل في التطبيع مع السعودية ليكون بالنسبة لنتنياهو، المهدد بدخول السجن على خلفية تهم فساد، الإنجاز الأكبر، وحتى تكتمل الصورة يصيغ الكيان سيناريو مستقبلي يحلم فيه بالشرق الأوسط الجديد حين يقبض على اقتصاد دول مجلس التعاون الخليجي الذي يبلغ حجمه 2.039 تريليون دولار من أصل 3.35 تريليون دولار هي الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية مجتمعة، ويشكل الاقتصاد الخليجي  قرابة 61 بالمئة من الاقتصاد العربي. قوة الاقتصاد الخليجي يفرض قيادته للاقتصاد العربي، فليس هناك سيولة نقدية لدى الدول العربية الأخرى، بل على العكس من ذلك، تعاني بقية الدول العربية من ثقل الديون العامة على اقتصادياتها ومعيشة مواطنيها الذين ينزاح عشرات الملايين منهم تحت خط الفقر وأغلبهم يلامسون هذا القاع المخيف والخطير الذي ينذر بانفجار لا يبقي ولا يذر.

تحلم الدولة العبرية بقيادة هذا الشرق الجديد بحيث تكون هي المركز والدول العربية جميعها أطراف تخدم الكيان وتستهلك إنتاجه وتدفع له كل ما يريد، هي تخطط للسيطرة على الخليج العربي لتقرر ما تفعل ببقية الدول العربية التي تبحث عن تمويل وودائع توضع في بنوكها المركزية في وقت يعصف فيه الفساد المالي والإداري بمفاصل هذه الدول؛ الأمر الذي قاد إلى انزلاقها نحو هذا الدرك والمعاناة التي يعيشها المواطن العربي.

لكن، صحيح أن هناك استراتيجيات ضاغطة على الدول العربية من أجل السير في التطبيع وتنفيذ صفقة القرن المشينة المتماشية مع الاستراتيجية الصهيونية التي ترنو لتنفيذ قانون الدولة القومية العنصري. يؤكد ذلك رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو حول مفهوم الصهاينة للسلام الذي يريدونه وطبيعة العلاقة التي يسعى إليها مع دول المنطقة، فيقول في كتابه مكان بين الأمم، "إنّ القوة العسكرية الإسرائيلية هي عامل الحسم الحيوي في السلام، ولا بديل منها"، وهذا هو الموقف الثابت الذي تنسجم معه الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي تتعهد باستمرار على التفوّق الصهيوني على مجموع الدول العربية في مختلف المجالات، وأهمها التفوق العسكري الذي يضمن بقاء الاحتلال وتمدده.

الصحيح أيضًا أن هجمة التطبيع التي قادها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو واستمرت مع الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن، هي هجمة منظمة ومنسقة بين الأطراف الموقعة على اتفاقات التطبيع ومع دول لم توقع بعد، إلا أن حركة مقاومة التطبيع ليست هامشية، بل هي مبدئية وقوية وقد حدّت من الآثار السلبية وأسهمت في حصر التطبيع على دولتين خليجيتين، في الوقت الراهن على الأقل، وهذا يضع أمام مناهضي التطبيع الكثير من المهام والعمل المضني تجاه هذه القضية المقدسة. أولى المهام هي بث الوعي ونشره في صفوف الشباب الخليجي وتحصينه من لوثة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد تم تحقيق نجاحات ملموسة في هذا الجانب، حيث يقوم الشباب الخليجي اليوم بدور كبير في مناهضة التطبيع، فشكّل له منصةً ائتلافيةً قوامُها مجموعةٌ من شباب دول مجلس التعاون الخليجي المؤمنين بالقضية الفلسطينية، وبضرورة مواجهة التطبيع والحد من آثاره السلبية وسط الشباب.

لقد كشفت التحركات الأخيرة للتطبيع الكثير من المعلومات والمخططات التي تحاك للمنطقة الخليجية والعربية، أهمها سعي الكيان المحموم استبدال العدو الرئيسي للأمة المتمثل في الكيان الصهيوني بأعداء آخرين لا يجدهم المواطن الخليجي أعداء. فرغم الحملات الإعلامية والتوتر وحملات العلاقات العامة، إلا أن كل ذلك لم يغير من حقيقة واضحة مفادها أن الكيان الصهيوني هو العدو الرئيسي للأمة، وأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية التي يجب تقديم التضحيات الجسام من أجل انتصارها وتحقيق أهداف الأمة في التحرير وكنس الاحتلال من فلسطين وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الديمقراطية المستقلة على كامل التراب الوطني وعاصمتها القدس، وهذا هو الرهان وليس الرهان على اتفاقات لم تأت إلا بالوبال على موقّعيها.