Menu

محكمة العدل: لماذا جنوب أفريقيا وليس دولة عربية؟

خاص - بوابة الهدف

 

 

كتب حاتم استانبولي*

انعقدت جلسة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي للنظر بالدعوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل دولة الاحتلال الإحلالي لِ فلسطين .

بعد خمسة وتسعون يوماً وما يقارب ل ١٠٠ ألف شهيد وجريح والآلاف من المفقودين من مواطني غزة الفلسطينيين وبعد خمسة عشرة عاماً من الحصار البري والبحري والجوي تَخَلَلَها جولات من الاعتداءات العدوانية الإسرائيلية استخدمت خلالها سياسة منهجية لتدمير (جز العشب حسب المصطلحات العسكرية) القدرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هي قدرات لإبقاء غزة ومواطنيها في غرفة الإنعاش تحت رقابة دقيقة مكثفة براً وبحراً وجواً.

رغم كل هذا الهول من التعذيب والتدمير والقتل والضغط والمراقبة والملاحقة والتعذيب المباشر والغير مباشر كان الفلسطينيون وخاصة مواطنو غزة يواجهونها بِإمكانياتهم المتواضعة يستيقظون كل صباح يذهب أطفالهم إلى المدارس والجامعات ورجالهم إلى أعمالهم ونسائهم تمارسن أمومِيَتَهُنَ وإنسانِيَتَهُنَ ليأمِنَ لأطفالِهِنَ وأُسَرِهِنَ الحد الأدنى من ظروف نفسية ورعاية أسرية استمر الفلسطينيون وخاصة أهل غزة صمودهم وتصديهم لآلة القتل اليومي العدواني الإسرائيلية.

لكن هذا العدوان الهمجي البربري المستمر منذ أكثر من ١٠٠ يوم على غزة كان له شكل وأسلوب وهدف مختلف عن كل الاعتداءات السابقة حيث كان واضحاً منذ اليوم الأول للعدوان أن الهدف الجوهري للعدوان هو إعادة إنتاج جريمة النكبة الفلسطينية عبر التوضيح عن نفسه بالتصريحات والقرارات الحكومية السياسية والعسكرية والاقتصادية والتي هي واضحة ومعلنة عن خططها ضد الشعب الفلسطيني التي طالبته بالخروج من أرضه ووطنه أو سيواجهون التجويع والتعطيش والقتل والتدمير الشامل لإنهاء كل إمكانيات العيش الإنساني الحضاري في قطاع غزة.

 

السؤال الأول:
الذي يفرض نفسه لماذا دولة جنوب أفريقيا قامت بتقديم الدعوى متحدية كل المنظومة السياسية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة؟

 

السؤال الثاني :

لماذا لم تقم دول عربية مثل الأردن أو مصر في تقديم دعوى مماثلة لدولة جنوب أفريقيا وهي في الجوهر عانت من آثار العدوان الدائم على الشعب الفلسطيني الذي كان يخضع للإدارة السياسية والقانونية والاقتصادية لكل من الأردن ومصر؟

 

السؤال الثالث:

لماذا لم تبادر الجامعة العربية في المبادرة بأخذ المبادرة كأداة سياسية جامعة للموقف الرسمي العربي؟

دولة جنوب أفريقيا قدمت هذه الدعوة بناء على عدة أبعاد أهمها أنها دولة ناضل شَعبَها لعقود طويلة من أجل نيل حريته من نظام الفاشي العنصري الذي كان مدعوماً من بريطانيا ودولة إسرائيل التي كانت تقيم أعمق العلاقات مع نظام الفصل العنصري، هذا النظام الذي كان يمارس أبشع الجرائم ضد شعب جنوب أفريقيا بالضبط مثلما تمارس إسرائيل الإحلالية قَمعَها و قتلها و مصادرة الأملاك وهدم البيوت والفصل العنصري.

دولة جنوب أفريقيا تدرك عبر التجربة النضالية لشعبها مدى الظلم الذي يقع على الشعب الفلسطيني ويذكرها بالظلم الذي وقع على شعبها من المنظومة الرسمية الرأسمالية التي كانت تمارس الظلم والسرقة لمقدرات الدولة، إن أهم تجارة كانت تمارس سراً وعلناً هي سرقة المقدرات الباطنية لجنوب أفريقيا من ذهب ومال عبر تجار إسرائيليين الذين كانت تمر تجارتهم عبر بورصة تل أبيب للألماس بحماية من حكومة إسرائيل هذه التجارة التي كانت تدر مئات الملايين على الخزينة الإسرائيلية لهذا فإن العلاقة ما بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا هو يشبه النظام العنصري في إسرائيل الإحلالية بل إن إسرائيل قد تجاوزته في ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

قوى الحرية في جنوب أفريقيا حققت العدالة الإنسانية لشعبها وهي تدرك أهمية استخدام الوسائل القانونية الأممية لمحاصرة نظام الفصل العنصري في فلسطين الذي له طابع احلالي، هذا الطابع الذي يحمل بجوهره الصفة الإرهابية لأنه يمارس عبر التاريخ إبادة منهجية لكل الجوانب الحقوقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية للشعب الفلسطيني.

الصفة الإحلالية هذه يشترك فيها النظام الصهيوني الإحلالي مع الشكل التاريخي لنظم كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وممارسات بريطانيا في دول المستعمرات، هذه الصفة بجوهرها تحمل صفة الإبادة الجماعية للتاريخ والثقافة والهوية والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وبشكلها الفج تمارس العمليات العسكرية المباشرة لقتل المدنيين لمحو آثار نقيضها التاريخي الشاهد على جرائمهم.

تحقيق العدالة الإنسانية تمارسه حكومة جنوب أفريقيا عن قناعة وفهم وتطبيق عميق لجوهر العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية في تصحيح المفهوم الذي ساد بعد انتصار المفهوم الصهيوني للعدالة الذي اعتبر أن كل قوى الحرية والتحرر الوطني هي قوى إرهابية خاضعة لمعيار وناظم المفهوم الرأسمالي للعدالة التي خصصت فقط للمليار .

أما عن الدول العربية فإن وقوفها موقف الحياد الإيجابي يكمن أن معظم نظمها الفاعلة والمؤثرة في المنظمة الرسمية العربية هي نظم لا تؤمن بالعدالة الإنسانية وهي تستخدم قوانين العدالة بما يتوافق مع مصالحها الفئوية والعائلية التي تؤمن إخضاعها لشعوبها وهي تتلاقى مع صفة الجوهر المعادي للعدالة الإنسانية لإسرائيل الإحلالية.

نظم لا تملك صفة العدالة كيف يمكنها أن تواجه إسرائيل التي تذكرهم بأنهم نظم غير ديمقراطية ونظم مارست القتل بكل أشكاله في اليمن وسوريا وغطت جرائم واشنطن في العراق وأفغانستان.

أما عن إيجابية الحياد (الموقف اللفظي واتخاذ قرارات حبر على ورق) فهو موجه فقط لجماهيرها لتغطية عجزها وتبعيتها.

نظم تستقبل القتلة وتسمع لهم وتُقايِضَهم على سكوتها لتحقيق مكاسب مادية لبعضها الذي يعاني من مديونيات وأخرى من أجل السكوت عن ممارساتهم العدوانية داخل وخارج دولهم.

أي مدقق في الصورة العامة للإمكانيات العربية الجمعية إن كانت بشرية أو اقتصادية أو عسكرية أو جيوسياسية يدرك أنها قوة لا يمكن الاستهانة بها فهي تتحكم بأوجه قوة فاعلة ومتحكمة بالاقتصاد العالمي المالي. فقط الموقف الصادق لصنعاء الفقيرة ولكنها أغنى دولة عربية في الوطنية والإنسانية والعروبة ومناصرة الحق الفلسطيني هذا الموقف الميداني وضع كل العواصم الغربية في موقف يفكر ويسارع في إيجاد مخارج لوقف العدوان على غزة والضفة.

موقف دولة جنوب أفريقيا وضعت مفهوم تحقيق العدالة الإنسانية على السكة الصحيحة وكشف أن المشكلة ليس في جوهر العدالة التي هي عدالة للجميع بغض النظر عن لونهم وجنسهم و قوميتهم ودينهم هي عدالة لا تملك معايير خاصة لتطبيقها حيثما تطلب ذلك.

العدوان المستمر على غزة كان له طابع خاص يتميز بسمة الإبادة الجماعية للبشر والحجر والبيئة بكل أوجهها فرض إيقاعه شعبياً عالمياً لمواجهته بحيث أصبحت كل الشعوب في كل بقاع العالم تدرك أن قضية فلسطين هي قضيتها لأنها أدركت مدى خطورة النظم العالمية التي تتحكم فيها الصهيونية العالمية التي هي خطر داهم على كل الشعوب في العام وكشفت زيف ادعاءات حكوماتها التي سارعت لمد المعتدي الصهيوني في فلسطين بالدعم اللا محدود سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وتوافد زعمائها لتقديم ولائهم لصهيونِيتَهَم.

العدوان المستمر على غزة عكس بالملموس ما جرى بالنكبة الفلسطينية عام ١٩٤٨ وكشف الأكاذيب التي سوقتها الصهيونية واتباعها ان الفلسطينيين باعوا أرضهم ما يجري في غزة ومخيماتها أكد بالملموس مدى إصرار تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه وقضيته وأن المتآمرين على قضيته هم أبناء وأحفاد من تآمروا على الشعب الفلسطيني في جريمة النكبة التي كانت مفتاح لبوابة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني التي اتسمت بإلغاء الهوية والحصار والمنع من العمل والسفر والإلحاق وتجريف الذاكرة وتشريع قتل الفلسطيني وتهجيره وملاحقته التي حولت العدو إلى صديق والفلسطيني إلى إرهابي.

العدالة الحقوقية الانسانية هي المطلب الأول لكل فلسطيني وطني تحرري وليست الدولة المشروطة.

تحقيق هذه العدالة هي المدخل لحرية الإنسان الفلسطيني في اختيار مستقبله السياسي والاقتصادي والثقافي وتحديد طابع وشكل دولته ونظامه حرية غير مشروطة بقبول الظلم والعدوان والمحتل.

عدالة انسانية تحقق اولا عدالة المخيم الفلسطيني التي كانت وما زالت هي عنوان البوابة الأول لغيابها.

أن الثمن الذي قدم في غزة يجب أن لا يكون أقل من الحرية الكاملة لشعبنا وان اي استثمار في الدم الفلسطيني من قبل النظام الرسمي لاستمرار التطبيع وقبول إسرائيل العدوانية يجب أن يواجه شعبيا بشكل حاسم وأن أي قبول لصرف فاتورة العدوان من قبل النظام الرسمي العربي هو في الجوهر مشاركة في جريمة العدوان على غزة والشعب الفلسطيني.

هذه الجرائم و فاتورتها يجب أن تدفعها كل إسرائيل العدوانية وواشنطن ولندن وبرلين وباريس منظومة العدوان المستمر والدائم على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية منذ أكثر من مئة عام.

دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية رفعتها وأوصلتها أقدام الجماهير التي كانت تدق الأرض لإيقاظ شعوب العالم من الخطر الداهم على منظومة العدالة الإنسانية التي تواجه خطر تفشي الصهاينة في مؤسسات الحكم في كافة العواصم الفاعلة في المنظومة الدولية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية التي تمارس تغطية منهجية مضللة تشرع جرائم الإبادة التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة.


 

*كاتب من فلسطين