Menu

عبور النصر المُعجّل إلى النصر المؤجّل

مروان عبد العال

حين وصف ماركس انتفاضة كومونة باريس بـ «مقتحمي السماء»، كمبشرٍ نبيل وأمل جديد بالنصر القادم،  يتماهى التوصيف مع النموذج البطولي  في السابع من أكتوبر الفلسطيني.  شعب أسطوري استشهادي يعانق السماء وتحت راية مقاومة خفاقة ضد الاحتلال ومخططاته الاستعمارية والرأسمالية العالمية الشرسة.  فكان” طوفان الأقصى" قيمة نوعية مضافة من تراكم التجربة الكفاحية الطويلة بكل أنواعها القومية واليسارية والإسلامية التي تصب جميعها في مسيرة النصر والتحرير. 

تحقق النصر المعّجل 
قد يسهل على شعب  يرزخ تحت الاحتلال التفكير بحريته، ليحقق بضربة استراتيجية نصراً معجلاً، فمن تجرأ على مثل هذا  النصر؟   وهذا غير مسموح بالمنطق الاستعماري، ولكن المشهد الملحمي في غزة، قلب الصورة مؤكداً أنه يمكن أن ننتصر، قولاً وعملاً ، فكراً وممارسة و بالوعي والدم والحلم والواقع. هذا لقد تحقق النصر مسبقاً ، منذ الضربة الموجعة التي تلقاها الكيان، وأربكت جميع حساباته، وهزمت عمق الكيان وضربت معنوياته، ففقد الإحساس بالأمان وانهيار أسطورة الردع في ساعة واحدة، أدت إلى قناعة الجميع أن الاستقرار يحتاج أولاً وأخيراً إلى عدم تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية، وأن الشعب الفلسطيني وضع أمام أمرين لا ثالث لهما: إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة. فأكد بالدم أنّه مصمم على استعادة حقوقه كاملة، ومستعد أن يقدم عظيم التضحيات من أجلها.

 محو صورة النصر 
إن كل الذي يفسر الجنون الصهيوني/ الأطلسي الغربي كردة فعل انتقامية لمحو صورة النصر ومحاسبة من "اقترف" النصر الأكتوبري؟ النصر المُعجّل قد تحقق في السابع من اكتوبر، والنصر المؤجل قادم  في اللحظة التي  نحمى فيها  النصر.  وما بينهما يتحقق  فرضية النصر الحاسم.  
لذا أجازت  الولايات المتحدة  للعدوان ما أسماه زوراً  "حق الدفاع عن النفس" وبالإبادة!!  واستلهم قادة الكيان  فكرة  تدمير الخطر بأسلوب قنبلة “هيروشيما" لتحرق الشجر والحجر والبشر، وهذا بحد ذاته ليس نصراً إنما هزيمة مجلجلة للعدو وانتصار على شرعية وجوده، بدأ يدفع ثمنها من رصيده العسكري والأخلاقي والقانوني، وإن كان الثمن باهظاً ومنذ إعلان مسلسل الهدنة الذي أجبر عليها، عدد الشهداء يزداد كل دقيقة  تختلط اشلاء النساء و الطفل مع حطام المنازل. أكثر من 60% من مباني القطاع تضررت بسبب القصف.  جيش مدجج بأفظع أسلحة البشاعة وبالحماية الاستعمارية الامريكية تقوم بإعدام  علني  لكل الطواقم الطبية ، والدفاع المدني والجسم الصحفي و بالنسبة المئوية   4٪ الى 4.5٪ من سكان قطاع غزة بين شهيد وجريح ومفقود ذلك حسب ما تم إحصاؤه حتى الآن.  كله عقاب لمن حاول وتمنى وحلم وصفّق  للانتصار .

حسم الصراع 
لقد انكشف الوجه القبيح للغرب الإمبريالي والذي يستخدم الكيان الصهيوني  كركيزة في منظموته وكمخلب قط لتخليد تبعيتنا وهزيمتنا وتخلفنا، ولتدعيم مصالحه التحالفية الاستعمارية وصياغة المعادلة السياسية في الإقليم  وبحرب إبادة قوية  تصدم الوعي العربي و تحقق تغييراً مأمولاً في  الواقع و ترمم ولو جزئياً  صورة  التفوق للاحتلال .
سقطت صورة "السوبرمان" للجندي الصهيوني كنتاج أولي سيتصاعد مع تطور الأوضاع الميدانية ومديات الحرب ومستوياتها ونتائجها الفعلية، وسيكون لها ارتدادات كبيرة على صعيد السياسات الفلسطينية والسياسات الصهيونية والإقليمية وأولويات الأجندة الدولية.
في “تغيير قواعد الصراع”، بما يتناسب ومعطيات الميدان، نحن أمام عدو تشكل "الإبادة" أساس في فكره الصهيوني التلمودي، لقد قام وجوده على قاعدة نفي الفلسطينيين من أرضهم  وبقتل أكبر عدد ممكن منهم وتهجير ما تبقى.
إن خطة "حسم الصراع" الصهيونية التي هي الاسم المرادف "لتصفية القضية" والتي تطالب جهاراً بالترانسفير، لذلك باتت تُشّكل تحدياً سياسياً طويل الأمد ول مصر والأردن كذلك، واستهدافهما في عملية الترانسفير الموهومة. كما أن البحث عن فرصة للقيام بالترحيل القسري في غزة لا يستبعد منها الضفة الغربية، كانت قد مهدت لها بمشاريع الضم والاستيطان وبتآكل مبرمج للمؤسسات الفلسطينية المركزية، مما يؤدي إلى نشوء حالة فراغ يسعى لسده عبر أدواته.

كذبة اليوم التالي 

كالعادة، كل هجوم عسكري يرافقه هجوم سياسي، على افتراض أن للحرب  هدف سياسي!  كما يرى كلاوزفيتز أن الحرب: "هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى".  فسؤال ماذا عن اليوم التالي؟ هو سؤال مبني على كذبة أن  للحرب نهاية  وأن جيش العدو هو من يحدد شكل النهاية ، وعلى افتراض الهزيمة ، بغية فرض الوصاية على شعبنا ونزع قراره الوطني دون تحرك حقيقي يرقى لمستوى التصدي لهذا المسعى الخطير. وحقيقة  "اليوم التالي" لم يتحدث عنه كثيراً بيني غانتس  لكنه في معرض حديثه  كان مصيباً عندما قال : في هذه الحرب ليس هناك اليوم التالي، هناك عملية طويلة وصعبة وضرورية، بدرجات متفاوتة من الشدة. أيامًا وشهورًا وسنوات»، بمعنى أن اليوم التالي كما يتضح هو سيطرة أمنية أقرب للنموذج القائم حاليًا في الضفة الغربية، إذ تسيطر «إسرائيل» أمنيًا بشكلٍ كامل على الضفة. يعني أن الحرب مستمرة باشكال مختلفة ووفق مراحل، وما بينها استراحة محارب،  في هذه الحرب الكيان يتعرى بالكامل،  بعد هذا المنسوب العالي من  المذابح ،  وان توقفت الخرب هل ستتوقف كراهية هذا الكيان ؟  بل سيولد جيلًا أكثر حقدا وكراهية للاحتلال وأكثر تصميماً على مواصلة النضال.  جيل يتمنى لهذا الكيان أن يختفي. وسيظل عالقاً في الأذهان أمنية وزير التراث في الحكومة الصهيونية "عميحاي الياهو" من حزب الصهيونية الدينية، عندما طالب بتدمير غزة بسكانها من خلال إلقاء قنبلة نووية عليها، بعد هذا كيف بمقدور الحركة الوطنية الفلسطينية  ان تقبل بوجود الاحتلال؟  وبالتالي فإن أي حل يبنى على مقولة اليوم التالي سيكون هناك يوماً آخر يليه،  لقد انتهى زمن الحل الذي يبنى  من موقع  البطش والمجازر والتطهير والابادة.

حرب الشعب الطويلة الأمد

لأن إيماننا راسخ  باستراتيجية حرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد طريقاً ومبدأ للتحرير. حرب الشعب الطويلة الأمد، من اكثر الجمل التي رددها  الدكتور جورج حبش و إن "خط العنف الثوري المنظم سيبقى هو الخط الأساسي في مواجهة معسكر العدو".
هذا هو موقعنا الأصيل في المقاومة كشركاء في الطلقة والدم والخندق،  والأجنحة العسكرية المقاتلة ومنها كتائب الشهيد أبوعلي مصطفى تقاتل جنباً إلى جنب مع جيش الشعب المقاوم في القسام والسرايا وأجنحة، متجاوزين معتقداتهم العقائدية والأيديولوجية في سبيل  معركة  التحرر الوطني  والدفاع عن الوجود، حيث  تتسع معركة اليسار في شوارع وأحياء ومدن قطاع غزة وعند مداخل المخيمات، وعلى أكثر من محور قتالي في شمال وشرق وغرب ووسط القطاع، حتى ساعة سريان الهدنة، بقيت مدافع الهاون تطلق قذائفها من الأعيرة المتوسطة والثقيلة، تطلق بشكل شبه  يومي على تجمعات وآليات العدو.  والتي رافقتها بعمليات عسكرية في مخيمات ومدن الضفة المحتلة، التي تواجه جيش الاحتلال ومستوطنيه بشكل مستمر. وكذلك المقاومة الاجتماعية على الجبهة الداخلية، في مدارس النازحين ودعم صمود الجماهير من المأوى إلى الملبس إلى لقمة العيش والطبابة وتضميد جراحاتهم ومواساتهم وتدعيم وضعهم النفسي والمعنوي والمادي. وكما قالت امرأة فلسطينية تطهي على نار الحطب: نحن لا نحب الحياة فقط  بل نصنع الحياة!  
وفي معركة السرديات التي لا تقل أهمية عن المقاومة العسكرية، يتصدر اليسار مواجهة الهيمنة الثقافية الإمبريالية في عواصمهم وكل أنحاء العالم، واعتبرت معركة نزع الشرعية عن "إسرائيل" وفي هذا السياق  كتب الباحث السياسي "الإسرائيلي" إيهود روزن في مقالة نشرها موقع معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني. «هؤلاء ناشطون في منظمات المجتمع المدني، يتبعون أجندات واضحة معادية للغرب تحت ستار تعزيز حقوق الأقليات، ضمن منظمات يسارية متطرفة، بما فيها الهيئات التي تدعم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتعمل جنباً إلى جنب مع منظمات الإسلام السياسي».

 
كيف ننتصر؟ 
قراءتنا للوحة الصراع ومسرح العمليات ونتائج ملحمة الصمود والشرف والبطولة، وضعتنا كيسار أمام سؤال يتعلق بالنصر الاستراتيجي: هو النصر الذي ينتهي بتحطيم قوات العدو وشل قدراته بحيث يصبح عاجزًا عن مواصلة القتال، أو ما السبيل لحماية النصر التكتيكي الذي تحقق بالتضحيات العظيمة ؟ حتى لا  يتمكن العدو الصهيوني بحكومته المتطرفة الحمقاء من تحقيق نصر حاسم على المقاومة، أو تسعى لتحقيق نصر استراتيجي، ليعلن أنه حقق أهداف الحرب، لينتقل إلى المعركة السياسية، لأخذ ما فشل عن تحقيقه في الميدان، ومنها خلق أمر واقع  الغرق في مخلفات الحرب بما  لا يسمح  بممارسة المقاومة.  

ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله، مقولة  تفرض المسؤولية الوطنية والأخلاقية، ولكن كيف نترجم ذلك؟  النصر الاستراتيجي للمقاومة يتمثل  في الاحتفاظ بقوتها وقدرتها على تهديد العدو وتثبيت وضعيتها السياسية وشرعيتها وإفشال العدو ومخططاته. بحماية النصر المعجل والمحقق ومنع العدو من تحقيق هدف الحرب. وهذه مسؤولية كل المكونات والقوى الوطنية، في استنهاض القدرة الوطنية الشاملة لإسناد هذا النصر الملحمي، ويؤكد على برنامج المقاومة وحقوق شعبنا غير القابلة للتصرف أو المساومة، وبإنهاء الاحتلال فوراً، وممارسة شعبنا لحقه في تقرير مصيره وحق العودة  وبناء دولته  الوطنية  الحرة وعاصمتها القدس .  


رؤيتنا لحماية  النصر:

أولاً- إن العدوان يستهدف الكل الفلسطيني وليس فصيل بعينه، وتصفية الشعب الفلسطيني وليس فقط تصفية قضيتنا وحقوقنا. فالخطوة المقترحة كضرورة وطنية تشكيل قيادة طوارئ وطنية ميدانية تتصدى للمهام العسكرية والسياسية. و الاشتباك المجتمعي في كافة الساحات في مواجهة هجمات جيش العدو ومستوطنيه، وما يتطلبه لإدارة عملية التصدي لجنود الاحتلال والمستوطنين.

ثانياً - العمل على إقامة جبهة عربية مساندة للمقاومة الفلسطينية ومناهضة للتطبيع. وموضوع جبهة المقاومة العربية الشاملة، طالما ان العدوان يستهدف المنطقة من خلال غزة  تمهيداً لاعادة صياغتها بالمنظور الامبريالي الصهيوني لذلك واجب  فصائل حركة التحرر الوطني العربي استنهاض دورها والقيام بواجبها.

ثالثاً -  العمل على قيام جبهة عالمية مناهضة للصهيونية النازية وإعادة العمل بقرار الأمم المتحدة باعتبارها حركة عنصرية. تعمل على مطاردة قادة العدوان  مرتكبي الإبادة الجماعية وملاحقتهم عالمياً واسقاطهم ومحاكمتهم اخلاقياً وقانونياً .

لأننا نجرؤ على النصر،  علينا واجب حماية النصر، هذا برسم مقتحمي السماء، وحسب قول مهدي عامل "لست مهزوماً ما دمت تقاوم" إنها المحاولة  الأولى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية على درب الانتصار، وتحرير الأرض وتحطيم الاستيطان، يحتاج تحرير الإرادة  والإنسان والوعي.