Menu

أثر الفراشة في غزة وحرب السرديات

د. موفق محادين

كما أثر الفراشة، غزة وأبطالها يشعلون حرب السرديات الكبرى على الصعيدين، العربي والعالمي، سرديات تسقط، وأخرى تنهض.

أولاً: على المستوى العالمي، ها هي سرديات وستفاليا قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وهي السرديات التي تزامنت مع تفسخ الإمبراطوريات الإقطاعية البابوية لصالح أشكال من الدول الرأسمالية الحديثة في مناخات الحرب الطائفية التي أشعلها ملوك أوروبا في ألمانيا، وانتهت باتفاقية وستفاليا 1648 ودولتها التي راحت تكتسي ملامح العقد الاجتماعي، سواء عند جون لوك أو توماس هوبز، ولعل الأهم فيها فيما يخص بقية أمم وشعوب الأرض، هو طابعها المتروبولياني (المركز الرأسمالي ومحيط المستعمرات)، والذي قدمه الغرب الرأسمالي المتوحش في خطاب ليبرالي راكم عليه ما عرف بالقانون الدولي والقانون الإنساني ضمن مقاربات عنصرية وحقول الأنثروبولوجيا والاستشراق. كما لم يتردد حيث يلزم من إطلاق حروب الإبادة هنا وهناك باسم تمدين (المتوحشين) من إبادة ملايين الهنود الحمر في أمريكا الشمالية والجنوبية إلى استخدام القنابل الذرية والسائل البرتقالي واليورانيوم المنضب.

ولم يكن سقوط الغرب الرأسمالي برمته واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي في امتحان غزة ودعم حرب الإبادة الصهيونية ضد (الهنود الحمر) في غزة، سقوطاً مفاجئاً بالنظر إلى تاريخه، لكن المفاجئ فيه أنه دخل لأول مرة مرحلة هبوطه والسقوط المنتظر لرموزه الإجرامية كما سقطوا بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، بن غوريون رئيس حكومة العدو، والبقية من رؤساء حكومات فرنسا وبريطانيا ومن في حكمهم، والأهم الأهم، سقوط الخطاب الليبرالي ومفرداته، مفردة مفردة، من حقوق الإنسان إلى كذبة الدولة العلمانية.

ثانيا: على مستوى النظام الرسمي العربي، وسرديات الغرب المتروبولي في أرجاء هذا النظام، ولا سيما الدول والكيانات التي انتزعت من رحم سوريا التاريخية والعراق سواء عبر وعد بلفور والمشروع الصهيوني أو عبر اتفاقية سايكس-بيكو ودولها وهوياتها الكيانية القاتلة. 

في السابع من أكتوبر أطلقت المقاومة الفلسطينية العد العكسي لسقوط إسرائيل الاشكنازية وما ينتظرها من هجرة معاكسة وتحويلها من شريك إجرامي لواشنطن إلى ثكنة حاخامية من طينة داعش على طريق نهايتها، كما خلخلت المقاومة كل مشروع الشرق الإبراهيمي وأوهام (إسرائيل الكبرى) على طريق الهند الشرقية الجديدة وصولاً إلى ميناء حيفا المحتل.

ومن ضروب الفانتازيا الجديدة أن ما تبقى من كيان الحاخامات قد يجد صدى لخرافة هارمجدون عند اليمين الأنجلوسكسوني إذا ما تفاقمت أزمته البنيوية التي تضرب الإمبريالية في كل مكان وتحيلها إلى قوة بين القوى العالمية بعد أن مادت وسادت قروناً مديدة.

هذا عن الطبعة الصهيونية من سرديات المتروبولات في الشرق، أما عن الطبعة العربية منها فقد أظهر الطابع الكياني لدولة سايكس بيكو وأشباهها وهوياتها القاتلة كم أطلقت هذه الكيانية ال قطر ية مخاوف فئوية لدى القوى التابعة منها، دون أن تمتلك في الواقع ومنذ تأسيسها الحد الأدنى من الشروط الموضوعية لتجاوز هوياتها القاتلة وبناء نسيج مدني حقيقي عابر للطوائف والمجاميع ما قبل الرأسمالية، فهذا النسيج وتحققه مرهون بخطاب مختلف وتركيبة مختلفة بدلالة الأمة لا شظاياها. والأسوأ من كل ذلك البدائل التي قدمت عوضاً عنها أو إلى جانبها أو عبر مشارطها البيئة الكياينة ذاتها، فمن الأصوليات التكفيرية إلى الأوساط الليبرالية المزعومة وثوراتها الملونة التي تغذت من المتروبولات حيناً وحيناً من جزيرة الغاز المسال.

في الدائرة الفلسطينية – الأردنية

إذا كانت استهدافات العدو الصهيوني لغزة استهدافات ذات طابع أمني – عسكري بدلالة موقع هذا القطاع البطل في محور المقاومة، فإن استهدافه للضفة الغربية استهداف استراتيجي انطلاقاً من أوهامه وخرافاته باسم يهودا والسامرة والهيكل المزعوم، مما جعل الترانسفير أمراً أساسياً تحت عنوان الترانسفير المؤجل والمركب من تدابير إجرامية وأخرى ناعمة عبر تحويل الضفة إلى قوة طاردة، وتحويل الأردن إلى قوة جاذبة كما حدث مع وحدة الضفتين حين تركزت التنمية والصناعات أياً كان مستواها في الضفة الشرقية مضافاً إلى ذلك تسهيل العمالة الفلسطينية في الخليج لتوفير تحويلات مالية إلى هذه الضفة.

ولا يخفى على أحد كيف ساهمت اتفاقية أوسلو من جهة، ومعاهدة وادي عربة من جهة ثانية، بإضعاف البنى الاجتماعية التحتية فيما كان مطلوباً تحصينها ضد الترانسفير المؤجل، فمنذ التوقيع على أوسلو، لم يتوقف الاستيطان مرة واحدة، وكذلك وضع اليد الصهيوني على أرض الضفة، إذ نعرف أن عدد المستوطنين اليوم 750 ألف مستوطن في أكثر من 300 مستوطنة وبؤرة استيطانية تمتد على 42% من أرض الضفة، وذلك غير ما يبتلعه العدو من مناطق (ج) و(ب) (وفق ما ذكرته جريدة الغد الأردنية الصادرة بتاريخ 8/11/2023).

من جهة ثانية، وبالرغم من حصول الأردن على الاستقلال 1946، إلا أن الحركة الصهيونية ومعها لندن وواشنطن لم تكف عن اعتباره منطقة خزان بشري لأزمات المنطقة بما فيها الحالة الفلسطينية، وليس بعيداً عن استهداف البنية الاجتماعية للدولة في الأردن الاستراتيجية التي ينفذها البنك الدولي لتحويله إلى شكل من أشكال الدولة الجابية – الشرطية، وإضعاف مناعته إزاء الترانسفير المؤجل، وكذلك تجريف الحياة الحزبية والبرلمانية وقطع صلتها بتاريخها المعروف في عقود سابقة عندما كانت تعبيرات عن حياة حزبية وبرلمانية حقيقية.

ولعل الأخطر في الحالة الأردنية – الفلسطينية أن الترانسفير المؤجل في العقل التوراتي الصهيوني شديد الارتباط بإجماع القوى الصهيونية على أن ما بين البحر والصحراء (العراقية) أرض إسرائيلية يعيش عليها سكان عرب بإمكانهم أن يقيموا أشكالاً للسلطة على سكان وليس على شعب، فالشعب والأرض مفهومان محتكران من الصهيونية مقابل السكان والجغرافيا، ومن هنا فالتوطين الفلسطيني المقصود توطين سكاني سياسي، بل إن الأردن نفسه في العقل الصهيوني حالة سكانية أيضاً.

السرديات الصاعدة

مقابل السرديات الهابطة في حالة نظام وستفاليا والغرب المتروبولي والنظام الرسمي العربي و(إسرائيل الاشكنازية)، ثمة سرديات في طريقها إلى الصعود على المستوى العالمي والإقليمي.

1.    فعلى الصعيد العالمي، ثمة استعادة أو إعادة اعتبار للجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، وهو حقل لم يولد في الشرق أو الجنوب، بل في المدارس الغربية، الأمريكية والأوروبية، وكان اهتمامه منصباً على شرق العالم حيث ربطت هذه المدارس الغربية بين بقائها في صدارة العالم وبين السيطرة على البعد الشرقي من هذا الحقل (روسيا والصين)، وخاصة فكرة قلب العالم الروسي أو الهارت لاند الأوراسي، فمن يسيطر عليه يسيطر على العالم كما يقول ماكندر أو من يسيطر على حافته كما يقول الجغرافيون الأمريكيون، سبيكمان وماهان.

ولهذا دعا الاستراتيجي الأمريكي، بريجنسكي، إلى تطويق روسيا عبر أوكرانيا وحزام أخضر إسلاموي يمتد بين تركيا وكازاخستان. وقد أظهرت التطورات الأخيرة أن لروسيا الباع الطويل في حسم هذه الحرب وآفاقها، وبالمثل ما يتعلق بالصين وطريق الحرير والحزام والسيطرة الأكيدة للصين عليه، ولا يبدو أن مشروع الغرب الرأسمالي، الأمريكي – الأوروبي، تحت عنوان طريق التوابل، أو الهند الشرقية قادر على منافسة الطريق الصيني.

الأهم، هو ما يمكن استخلاصه من أوراسيا الروسية، وطريق الحرير والحزام الصيني كمناخات لعالم جديد. ولانشطار نسبي، شرق-غرب، لا شمال-جنوب، والمفارقة هنا أن الغرب الرأسمالي نفسه هو من كرّس ذلك على غرار مشروع الأمريكي هنتنغتون في (صراع الحضارات) وشاعر الإمبريالية البريطانية كيبلنغ صاحب القول الشهير: الشرق شرق والغرب غرب ولم يلتقيا.

2.    على صعيد العرب والمنطقة، مقابل دخول دولة سايكس-بيكو العربية، ودولة وعد بلفور الصهيونية، نفق الهبوط التاريخي، ثمة جغرافيا وخرائط وهويات جديدة من أبر ملامحها:
-    تقاطع الهارت لاند الروسي الأوراسي مع الهارب لاند الشرق أوسطي، إذ لاحظ ماكندر خلال الحرب الثانية أن للعالم الأوراسي قلبين بعد أن كان قد تحدث عن قلب روسي فقط خلال الحرب العالمية الأولى. وهو ما يعزز فكرة البحار الخمسة التي اقترحها الرئيس السوري، بشار الأسد (قزوين، الأسود، المتوسط، الخليج، والبحر الأحمر). وهي الفكرة التي كانت أحد أسباب الحملة الأطلسية على سوريا باسم الربيع السوري 2011. 
ذلك يعني أولاً أن الشرق الأوسط لم يعد يقارب وفق الكيانات القائمة بل على مستوى الإقليم كله، وذلك يعني أنه في ضوء التكالب الأطلسي بقيادة واشنطن أن الاشتباك مع الأطلسي أخذ شكلاً جديداً تحتل فيه فكرة المقاومة ومحورها أهمية بالغة.
وذلك يعني ثانياً، أننا إزاء وبحاجة عمل على مستوى (الهلال) المقاوم الذي يضم سوريا التاريخية والعراق و إيران وكذلك اليمن.
-    ارتباطاً مع ما سبق تسقط أطروحة (التحول الديمقراطي) ومركزها في جزيرة الغاز المسال، لصالح أطروحة التحرر الوطني التي تربط القضايا الاجتماعية والديمقراطية بالقضايا الوطنية وفي مقدمتها الاشتباك مع الحلف الصهيوني-الأمريكي وتبعاته.
-    فيما يخص القوى غير الحكومية، ومقابل أدوات الأطلسي من القوى الليبرالية وجماعات الإنجوز (NGO) والثورات الملونة، وإلى جانبها الجماعات التكفيرية، وكلاهما جزء من استراتيجية الإزاحة عن التناقض الرئيسي مع الإمبرياليين والصهاينة، ثمة قوى غير حكومية يعول عليها الكثير في الصراع على جغرافية الشرق الأوسط والهارت لاند الثاني، وهي قوى المقاومة المسلحة التي تمتد من شرق الفرات وغربه في العراق وسوريا إلى الخاصرات البحرية الحاسمة: باب المندب حيث أنصار الله (الحوثيون وفق الخطاب الأطلسي) والجنوب اللبناني، حيث حزب الله، وغزة، حيث المقاومة القسامية، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والبقية.