Menu

النساء الفلسطينيات مصانع الرجال

إلهام الحكيم

b13e7e3a66d6082fa31484922033d2a2_XL.jpg

"كتبت إلهام الحكيم"

منذ اللحظات الأولى للهجرة اليهودية إلى فلسطين وبناء المستوطنات الصهيونية دخلت المرأة معترك الحياة النضالية إلى جانب الرجل فقاوموا الاحتلال تأكيداً على التصاقهم بالأرض الضاربة بعمق التاريخ , بدأت داعمة وسنداً ثم تحولت إلى  مشارِكة بالنضال الوطني ضد الانتداب البريطاني والهجرات الاستيطانية الصهيونية من خلال مشاركتها بالمظاهرات التي اندلعت إثر صدور وعد بلفور عام 1917 احتجاجاً عليه والمطالبة بإلغائه , و خطت خطوة نوعية عام 1921 عندما تم الإعلان عن تأسيس أول اتحاد نسائي فلسطيني على يد بعض النساء الطليعيات " ميليا السكاكيني , زليخة الشهابي " , لعب الاتحاد دوراً مهماً بتأطير نضال المرأة وتسيير المظاهرات الكبرى المطالبة بوقف الزحف الصهيوني , ثم توالى تأسيس الجمعيات والمؤسسات النسوية المناهضة للانتداب والاستيطان ..وقد شكّل استشهاد " جميلة الأشمر , عايشة أبو حسن , عزّية سلامة " وغيرهن  من النساء المشاركات بمظاهرات عام 1929المناهضة للهجرة والإجراءات القمعية البريطانية , شكّل نقطة تحوّل لتطوير العمل فقامت لجنة النساء العربيات بتنظيم مؤتمر نسوي في مدينة القدس انتهى بتشكيل وفد نسائي من " 14 امرأة " لمقابلة المندوب السامي البريطاني والتعبير عن شجب الوعد والمطالبة بإلغائه ووقف الهجرة , وإطلاق سراح المعتقلين ووقف البطش والتعذيب ضد أبناء الشعب الفلسطيني , استمر هذا التطوّر مع إطلالة ثورة عام 1936 وإعلان الإضراب العام الشهير فاكتسب نضالها طابعاً جديداً تمثل بجمع التبرعات المالية والعينية وتوزيعها على أهالي الثوار والشهداء والمعتقلين , ونقل الرسائل والأسلحة للثوار ووقوفها إلى جانبهم في الجبال , وكان استشهاد المناضلة فاطمة غزال في معركة وادي عزّون بين الثوّار والبريطانيين 26/6/1936 دليلاً ساطعاً على عطاء المرأة الفلسطينية ونضالها الذي استمر بأشكال عديدة فقاومت قرار التقسيم 1947 وساهمت مع الرجل ببناء المتاريس والاستحكامات وحفر الخنادق ونقل الأسلحة وتشكيل الفرق والجمعيات ذات الأنشطة الوطنية المختلفة التي ساهمت بمعالجة الجرحى وتزويد الثوار بالماء والطعام , إضافة لمشاركتها بالمعارك مما أدى لاستشهاد العديد منهن " جولييت زكّا ,جميلة أحمد , ذيبة عطية , حلوة زيدان , وحياة البلبيسي " , وقد فرض الواقع نفسه على المؤسسات والهيئات النسوية فتغلّب نضالها الوطني على مسألة تحررها الاجتماعي كونها بإشراف نساء المدن المنحدرات من عائلات ميسورة الحال ولم يكنّ يعانين من الجهل والتخلف الذي تعانيه بقية النساء خاصة في الريف .

تشريد وتبديد .. تعليم وتأهيل وبناء

تم اغتصاب المساحة الكبيرة من الأرض الفلسطينية عام 1948 وقام الكيان الصهيوني عليها , ثم استكمل احتلاله لبقية الأرض عام 1967 , مما أدى لحصول متغيّرات جذرية نتيجة  الاقتلاع والتشريد والتبديد والتوزيع الجغرافي الجديد للشعب الفلسطيني وسياسة الإلحاق العربية , وبالتالي زيادة البطالة والفقر والحرمان والاضطهاد بكل أشكاله  فساهم بتفتيت البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الفلسطيني بما فيه المرأة , هذه المتغيرات فرضت على الفلسطينيين التوجه نحو التعليم والعمل ليتمكنوا من إيجاد مصدر للرزق فشهدت تلك المرحلة تزايداً ملحوظاً بعدد النساء اللاتي التحقن بالمدارس في مختلف المراحل و لاحقا بالجامعات والدراسات العليا ثم الالتحاق بسوق العمل مما ساهم بتطور وعيهنّ  ونمو شخصيتهنّ وتنمية روح المبادرة والتنافس والالتحاق بالجمعيات النسوية الخيرية والمجتمعية والإنسانية التي شهدت ازدياداً ملحوظا وتنوعاً بالمهام ..

مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية 1964 و انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965 وتشكيل العديد من الفصائل والأحزاب وجدت المرأة نفسها مهيأة لمتابعة المسيرة النضالية بأشكالها المستجدّة فعُقِد المؤتمر النسائي الفلسطيني في القدس برعاية المنظمة وانبثق عنها الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية باعتباره تنظيماً شعبياً نسائياً فلسطينياً مهمته تنظيم المرأة وتوحيد طاقاتها لخدمة المعركة , فازداد انخراطها بالمقاومة وبالتالي ارتفع عدد المعتقلات عام 1968 إلى 100 معتقلة بتهمة الاتصال بالفدائيين أو الانتماء لتنظيمات مسلحة وإخفاء الأسلحة والتحريض ضد الاحتلال واعتبر هذا مؤشراً لبداية انخراط المرأة في تلك التنظيمات وكانت شادية أبو غزالة أول شهيدة للعمل المسلح يوم 28/11/1968 , 

مناضلات .. خنساوات .. أسيرات

تنامى العمل النضالي النسوي وساهمت النساء بتنظيم المظاهرات والاعتصامات ومختلف الفعاليات السياسية والاجتماعية والخيرية , مما دفع الأحزاب والمنظمات الفلسطينية لتشكيل منظماتها النسوية وتأطير آلاف النساء بالمدن والقرى والمخيمات 1980 , وقد طرحت تلك المنظمات البرامج التي تربط النضال الوطني للمرأة مع التحرر الاجتماعي والاستجابة لهموم النساء الاجتماعية والوطنية , ثم انضوت في هيئة واحدة " المجلس النسوي الأعلى " ممثلا للحركة النسوية في الوطن المحتل وامتداداً طبيعياً للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في الشتات , وقد تركز العمل في صفوف الطالبات والمثقفات لاجتذابهن للعمل السياسي والعسكري , وبرزت صورة المرأة بشكل واسع ككادر عسكري فظهرت مئات الملصقات لفتيات ملثمات ويمتشقن السلاح إلى جانب الفدائي , ونجحت المنظمات باجتذاب الكثير من الطلائعيات في صفوفها وشاركت العديد منهن بعمليات فدائية ضد الاحتلال من نمط " خطف طائرة , عمليات استشهادية , احتجاز رهائن صهاينة "  , كما وصلت المرأة الفلسطينية إلى الأطر القيادية للفصائل " لجنة مركزية , مكتب سياسي , مجلس وطني " وهذا ساهم برفع المستوى الكفاحي للحركة النسوية بإطارها المنظم الكفاحي والسياسي والاجتماعي , مما مكّن المرأة الفلسطينية من الالتحاق بالانتفاضة الأولى عام 1987 منذ الساعات الأولى لاندلاعها فشكلت جزءاً أساسياً من الجماهير المنتفضة ضد الاحتلال وساهمت بمختلف أشكال النضال وفي كل فعاليات الانتفاضة الكبرى التي حددتها نداءات القيادة الوطنية الموحدة  , فشاركت بالمظاهرات والمسيرات والاعتصامات والفرق الضاربة والاشتباك مع العدو والتصدي للاحتلال والمستوطنين , وهجوم الملثمات على الجنود بالسكاكين والمفكات ,وكل أشكال النضال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والصحي والإعلامي لإيصال صوت الانتفاضة للعالم والهيئات الدولية وكشف جرائم الاحتلال , تحولت وحدات ولجان الأطر النسائية إلى ورش عمل يومية لتطوير وتكييف البرامج والخطط المنسجمة مع الدور الجديد الذي أملته الانتفاضة المجيدة فكان دورها مميزاً وبرزت داعية محرّضة وناطقة سياسية باسم الشعب بكل ثقة أمام الكاميرات ,  دورها الفاعل أعاد صياغة العلاقات الاجتماعية للشعب الفلسطيني بشكل عام وعلاقة الرجل والمرأة على نحو خاص , أصبحت المرأة قادرة على ممارسة نضالها السياسي والجماهيري والنقابي, وعندما كان مئات الشبان يساقون إلى السجون تسعى النساء اللواتي كسبن خبرة النضال السياسي والتنظيمي والجماهيري لملء الفراغ والإمساك بزمام المبادرة , هذه القوة وزخم الانتفاضة كرّس اسم انتفاضة الحجارة عالمياً لكن وللأسف بدل استثمار نتائجها لصالح شعبنا وقعت المنظمة بفخ "اتفاقيات السلام " الاستسلامية ووهج السلطة والعودة المزعومة والرخاء " استراحة المحارب "  مما أدى لقسم الساحة الفلسطينية بين " مقاومة وسلطة " , إلى أن انطلقت الانتفاضة الثانية عام 2000والانقسام بين الضفة و غزة عام 2007 مما غيّر الكثير من المفاهيم وظهور آليات مقاومة وقواعد اشتباك جديدة " عمليات استشهادية , تفجيرات , تصدي للاقتحامات والاعتداءات الصهيونية والاستيطان , بروز دور المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى , ثم الهبّات المتتالية في الضفة الغربية ضد الاحتلال بكل وسائل المقاومة ".

كان دور المرأة يتسم بالتقدم والانكفاء حسب المد الثوري أو الانحسار وهذه المراحل تتطلب إفراد مساحة خاصة للحديث عنها !..

طوفان الأقصى

عند التدقيق بما سبق نجد أن شعبنا الفلسطيني خاصة المرأة كانت تتأقلم وتتكيف وتهيئ نفسها للتعامل مع الحدث بما يتلاءم مع المستجدات وقد لعبت دورا فاعلاً وإيجابيا للتعامل مع الحصار الظالم على غزة قبل 17 سنة فلجأت لابتداع الأساليب المقاوِمة للحصار والعدوان الهمجي المتكرر على القطاع , كانت تنهض من تحت الركام وتعيد بناء أسرتها واقتصادها المنزلي بما يتوفر لديها , بنَت أجيالاً مقاومة ًرافضة للسلام المزعوم وكانت سنداً قوياً للمقاومة بكل أشكالها مما ولّد لدى العدو حقداُ مضاعفاً عليها تمثل باستهدافها مع أطفالها بآلة القتل والتدمير منذ 7/10/2023 , قصفها في بيتها الذي رفضت مغادرته فعمد لتدميره فوق رأسها مع عائلتها  , وعندما اضطرت للمغادرة نحو مراكز الإيواء حماية لأطفالها لاحقها وفجّر تلك المراكز المتمثلة بالمدارس والمراكز الصحية التابعة للأونروا , حتى المشافي وأماكن العبادة والهيئات الدولية لم تسلم من بطشه , عبّر بوضوح  من خلال كل وسائل الإعلام عن حقده على المرأة الفلسطينية الولّادة التي تنجب وتربي أبناءها على حب فلسطين والتمسك بالأرض والدفاع عنها , وقال زعماء العدو أن القضاء على المقاومة يكون بتجفيف المنبع المتمثل برحم المرأة وقتل الأجنة في الأرحام والقضاء على الأطفال كي لا يكبروا ويتحولوا إلى مقاتلين !..

شاهد العالم المرأة الفلسطينية على أرض المعركة مرتدية ثوبها الأبيض وتسعف الجرحى والمصابين رغم استشهاد الزوج أو الابن أو الوالدين , تابعناها مراسلة حربية لمختلف وسائل الإعلام العربية والغربية إلى جانب الإعلاميين الفلسطينيين رغم الغياب الكامل للإعلاميين الغربيين , ومثلها فعلت المرأة المؤثرة على السوشيال ميديا لكشف الحقيقة وفضح الجرائم الصهيونية ,لم تتوانى المرأة ولم تقصر في كل المجالات رغم الواقع المزري والمعاناة التي تعيشها وسط الدمار وبُعدها عن أبنائها وعائلتها , شاهدناها تفتح بيتها للنازحين فتطبخ وتخبز لإطعامهم , معلمة للأطفال في مراكز الإيواء , رسامة على وجوه الأطفال , مرشدة نفسية وتربوية لإعادة تأهيل المصابين بالصدمة , رأيناها أماً لأطفال استشهدت أو أصيبت أمهاتهم , قوية كالطود الشامخ تشد الهمم والعزائم لأناس فقدوا كل ما يملكون واستشهد أهلهم وتقول لهم :" اصبروا فالشهداء سيشفعون لنا , وسوف نعيد الإعمار وتبقى غزة شوكة في حلوق الأعداء ومقبرة للغزاة " .. نصبت خيمة على أنقاض منزلها بانتظار انتهاء الحرب وإعادة الإعمار ..  كما عرفنا دورها راعية لأمور الأسرى اليهود وحارسة عليهم ..

تزايد عدد الخنساوات الصابرات وهنّ يكررن جملة " الحمد لله " هذه الجملة التي تحولت إلى ترِيند عالمي دلالة على "عمالقة الصبر" اللاتي   لم يستسلمن أو تنكسر شوكتهن بل زادت عزيمتهن وإصرارهن على التمسك بالأرض ورفض مغادرة القطاع نزولاً عند الضغط  الصهيوني نحو التهجير رغم اضطرار البعض للنزوح الداخلي إثر القصف الهمجي والدمار الوحشي الذي طال البنية التحتية للمدن والأحياء والمخيمات , والتأكيد أن نكبة عام 1948 لن تتكرر رغم كل الممارسات الصهيونية النازية من قتل وتدمير طال البشر والحجر والشجر ..

هذه هي المرأة الفلسطينية الغزّية , و لا تقِلّ عنها شقيقتها في الضفة الغربية والقدس حيث تستقبل أبناءها الشهداء بالزغاريد وهي تردد :" لسنا أقل من أهلنا في غزة  , الحرية ثمنها غالي وتحرير الأرض يحتاج للمقاومة والنضال " .. ثم تنضم لمجموعة أمهات الأسرى والشهداء الداعمات لأسر الشهداء والأسرى وتشد أزر المقاومة وصولاً للنصر والتحرير وبناء الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس .