Menu

طوفان الأقصى بين الواقع والطموح

د. سليم بركات

"كتب الدكتور سليم بركات"

تتفق معاجم اللغة العربية على أنّ الطوفان هو ما كان كثيراً وعظيماً، وعملية طوفان الأقصى، تأتي معانيها في هذا الاتجاه، وتنبع أهميتها من ارتباطها بالمعاني الروحية السامية والمقدسة للمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني الحرمين ومعراج النبي(ص) عملية أو معركة مختلفة عن كل المعارك السابقة مع الكيان الصهيوني، انطلقت من غزة وهي تحمل أكثر من دلالة وأكثر مما يتوقعه هذا الكيان رداً على جرائمه المتواصلة بحق الشعب العربي الفلسطيني، وكذلك تنكره للقوانين الدولية في ظل الدعم الأمريكي والغربي والصمت الدولي، إلى أن جاءت هذه المعركة لتضع حداً لكل ما جرى من قبلها من جرائم وعربده من قبل هذا الاحتلال  من غير محاسبة. كيف لا وقضية المسجد الأقصى قضية جامعة لكل ما هو ديني وإنساني.

في هذا الإطار جاءت هذه العملية لتغير كافة المعادلات القائمة على صعيد المنطقة، وإن كانت هذه المعادلات غير واضحة المعالم حتى يومنا هذا، أكان ذلك فيما يخصّ مستقبل الشعب العربي الفلسطيني، أم كان ذلك فيما يخصّ تواجد الكيان الصهيوني، أم كان ذلك فيما يخصّ المعادلات السياسية المصلحية على مستوى المنطقة العربية والإقليمية والدولية، ونحن لا نجانب الصواب إذا قلنا أن عملية طوفان الأقصى قد تتدحرج في الخرائط الدولية من الصين إلى الهند إلى حيفا إذا ما نجح المشروع الصهيوأمريكي، والذي يعول على فتح قناة بن غوريون التي تصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، والتي تعني موت قناة السويس، كما تعني مبادرة الحزام والطريق التي تتضرر منه الصين، في هذا الاتجاه تتجلى الأهمية النوعية لعملية طوفان الأقصى، التي أذاقت الكيان الصهيوني مرارة الحرب في عقر داره، الأمر الذي رتب أثماناً باهظة لم يتوقعها هذا الكيان منذ أن دنست أقدامه أرض فلسطين، كيف لا وهذه العملية قد انتقلت بالقضية الفلسطينية من مستوى المفاوضات إلى مستوى المقاومة في كلّ مكان يتواجد فيه الشعب العربي الفلسطيني أكان ذلك في داخل فلسطين، أم كان ذلك في خارجها، كيف لا والواقع الميداني الذي  فرضته عملية طوفان الأقصى سيفرض نفسه في أية تسوية كانت سياسية أم عسكرية، أم اقتصادية، لأنّ قوامها سيكون من خلال تحسين موقع المقاومة التي أدت إليه هذه العملية.، وربما كان في طليعة ذلك هو إطلاق رصاصة الرحمة على اتفاق أوسلو وما لف لفه من اتفاقيات استسلامية. كل هذا يفرض تساؤلات سيجيب عليها ما آلت وما ستؤول إليه عملية طوفان الأقصى، وربما امتد ذلك ليشمل عمليات التطبيع العربي الجارية مع الكيان الصهيوني، للوصول إلى حلول سياسية عادلة للقضية الفلسطينية تضعها على نار حامية بمعطيات فعالة لا تجاهل فيها ولا مراوغة، كما حصل في اتفاقيات ما قبل أوسلو وما بعدها وحتى اليوم.

صحيح أن قلب الطاولة من خلال عملية طوفان الأقصى في وجه الكيان الصهيوني كان رداً منطقياً بالنسبة لمن يقول بتولي الشعب العربي الفلسطيني أمور قضيته بيده، وهو يشكك بقدرة المقاومة على ذلك، ولكن من الصحيح أيضاً أن هذه العملية قد أذاقت هذا الكيان ما ذاقه الشعب العربي الفلسطيني الأبي منذ تأسيس هذا الكيان وحتى يومنا هذا، لا لسبب إلا لسبب واحد وهو أنّ الأمور قد اختلفت بانتصار المقاومة الذي يحاول البعض أن  يتلاعب به، هذا الانتصار الذي لن تهديه المقاومة الفلسطينية لأحد، نصر أنهك الكيان الصهيوني حتى لم يغد بمقدوره أن يفعل شيئاً تجاه محور الممانعة والمقاومة الذي فجر طوفان الأقصى بداية من غزة لتشمل فلسطين بأكملها، معلناً إنهاء الاحتلال الأخير على الكرة الأرضية، وداعياً الشعب العربي وجميع الشعوب للتخلص من هذا الاحتلال العنصري البغيض لتحرير فلسطين، واحقاق الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني، وكيف لا يكون ذلك وقد سجلت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في مواجهة جيش وصف نفسه بأنه لا يقهر وأنه من أعتى جيوش العالم بحسب ما ترددت تداعياته على نطاق واسع، وظهرت آثاره الخبيثة على صعيد الأرواح التي تزهق والدمار الذي يحدث ليس على مستوى غزة فقط وإنما على مستوى فلسطين والأراضي المجاورة لها.

ما من شك أن الهجوم الهائل والمتنوع الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى، قد استغرق فترة زمنية طويلة لما فيه من دقة في التخطيط الذي يتطلب قدراً عالياً من التفاني والسرية التي هزت الأسس الأمنية الإسرائيلية، هجوم ساعد في نجاحه الأزمة السياسية المستمرة التي يعيشها الكيان الصهيوني منذ الأشهر الأخيرة التي سبقت هذه العملية، والتي سببتها الإصلاحات القضائية التي وضعتها حكومة نتنياهو وأدت بدورها إلى تظاهرات متواصلة في كافة أنحاء الكيان الصهيوني، مستحوذة على اهتمام بالغ من كافة مكونات المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك الجيش، الذي رفض الكثير من جنوده الاحتياط أو الالتحاق بالخدمة على الرغم من كافة التهديدات والتحذيرات للكيان الصهيوني، ونحن لا نجانب الصواب إذا قلنا إن العامل الأساسي الذي أوصل الكيان الصهيوني إلى هذه اللحظة الحاسمة هو الظلم الصهيوني المستمر للشعب العربي الفلسطيني، وحالة اليأس التي بلغها بعد أن داست إسرائيل على كل بصيص أمل لإنهاء احتلالها القائم منذ 75 عاماً حتى يومنا هذا. وبعد أن تخلت حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة عن مسرحية التفاوض حول إنشاء دولة فلسطينية ولم تكتف بذلك، بل أعلنت صراحة عزمها حكم الشعب العربي الفلسطيني إلى ما لانهاية مع استمرار حرمانه من حريته وحقوقه المشروعة، حرمان لم يقتصر على قطاع غزة حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت الحصار بأكبر سجن مفتوح على مستوى العالم، وإنما شمل الضفة الغربية وكافة أنحاء فلسطين حيث تجسيد النظام العنصري وتدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع منسوب العنف المستخدم ضد الفلسطينيين والمترافق مع مصادرة الأراضي وعزل القدس والطرد الممنهج لسكانها في إطار خطة تهويدها.

واقع مؤلم لا يعيش الشعب العربي الفلسطيني فيه  إلا المزيد من الأسى والخسارة، والمجتمع الدولي صامت دون أي إجراء للحد من معاناته وحتى هذه المرحلة التي تحولت فيها غزة إلى حدث متكرر يستقطب اهتمام العالم، لم يصدر من المنظمات الدولية وفي طليعتها مجلس الأمن ولا عن الغرب الامبريالي أي ردّ فعل غير تأييد جيش الكيان الصهيوني، بحجة الدفاع عن نفسه في وجه من يخضع لاحتلاله، ودليل ذلك تكرار الولايات المتحدة ومن لف لفها لمعزوفتها المعهودة بتأييد الكيان الصهيوني وإدانة المقاومة الفلسطينية من دون ذكر لاستحالة العيش في قطاع غزة، والحصار الدائم لسكانها، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة والشرعية ضاربين عرض الحائط حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره الذي يكمن في صميم هذه القضية.

من هذا المنطلق كان المفعول الأكبر لعملية طوفان الأقصى الذي أطاح بالاعتقاد السائد لدى إسرائيل ومن لفّ لفّها، أنه بالإمكان احتجاز الشعب العربي الفلسطيني إلى ما لانهاية في أوضاع لا تطاق وتجاهل أبدي، كيف لا والاستراتيجية الواضحة والوحيدة التي مازال يتبعها الكيان الصهيوني تقوم على مواصلة عمليات الاستيطان وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية والقضاء على التطلعات السياسية الفلسطينية ومن ناصرها من خلال تطبيق سياسة الاحتواء، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو هل يمكن سجن شعب بكامله خلف الجدران والحواجز؟ وهل ينفع هذا السجن في تلبية احتياجاته؟ من المؤكد أنه سيزيد من مظالمه وأوجاعه وأوضاعه سوءاً، وسيفاقم من حالة عدم استقراره، نتيجة العنف الذي تجلى بطرق جديدة لم تشهد مثله الإنسانية من قبل، ولا نبالغ إذا قلنا ليست عملية طوفان الأقصى الأخيرة إلا رداً على ذلك، ولا شك أن عواقبها ستكون وخيمة على الكيان الصهيوني وهذا ما يجمع عليه المحللون السياسيون الإسرائيليون، وحتى المؤسسة الصهيونية الأمنية التي أخفقت في التقديرات الاستخباراتية، وفي سيناريوهات التعامل مع حركة المقاومة الفلسطينية في عملية طوفان الأقصى، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على عدم جهوزية الجيش الإسرائيلي للحرب خلافاً لما يروج له على المستوى العسكري، وكذلك عدم جهوزية الجبهة الداخلية الصهيونية للدفاع عن سكانها المدنيين، وضمان سلامتهم.

بقي أن نقول إن حالة الشعب العربي الفلسطيني فيما قبل طوفان الأقصى كانت بلا أفق سياسي، حصار كامل في غزة، وتحييد كامل لأي دور للسياسة الفلسطينية، ولهذا جاءت هذه العملية لتمدّ الأفق السياسي على مصراعيه من خلال انتصار المقاومة، الأمر الذي يعيد الحرب إلى تعريفها الطبيعي باعتبارها أحد أدوات السياسةـ وهذا يتطلب مناصرة هذه العملية من خلال الدعم العربي والدولي والإنساني، لفتح أفق جديدة يتغيّر من خلاله الواقع الفلسطيني باتجاه الحرية والاستقلال. كيف لا وقد أصابت عملية طوفان الأقصى أسطورة إسرائيل الأمنية والعسكرية في مقتل، وفضحت هشاشة التحصينات والجدران، التي أنشأتها لحماية نفسها وعزلها عن الآخر الفلسطيني المحاصر، وثمة فرضية أساسية لا تزال تتبناها إسرائيل على الرغم من فشلها وهي أنه بالإمكان الاستمرار في احتلال الأرض الفلسطينية من دون دفع الثمن، وإجبار الشعب العربي الفلسطيني على القبول بهذا الواقع، مستخدمة الحالة الهمجية والغرائزية المتخلفة التي تسود إسرائيل منذ قيامها وحتى يومنا هذا، فرضية تثبت أنّ الشعب العربي الفلسطيني سيبقى يقاوم في غزة وفي غيرها من الأراضي العربية الفلسطينية، وفي جميع أماكن تواجده حتى ينال حريته، ويحرر أرضه مستعيداً حقوقه.