Menu

حوارمروان عبد العال: الذاكرة الفلسطينية بحاجة إلى تجديد كي لا تصدأ

مروان عبد العال

حاوره حسان الزين في جريدة نداء الوطن

مروان عبد العال واحد من الكتّاب والتشكيليين الفلسطينيين الذين يصرّون على الالتزام وربط الأدب والفن بالواقع والإنسان والوطن والقضية، من دون أن يعني ذلك، كما يؤكّد، تبعية الأدب والفن ومنتِجهما للسياسة والسياسيين.

وانطلاقاً من هذا، خاض عبد العال منذ أصدر روايته الأولى «سفر أيوب» (2002) تجربة خاصّة بقدر ما هي وثيقة الصلة بمدرسة غسان كنفاني . مع مؤلّف «زهرة الطين» (2004)، و»حاسة هاربة» (2007)، و»إيفان الفلسطيني» (2010)، و»جفرا» (2012)، و»شيرديل الثاني» (2014)، و»أوكسجين» (2019) و»ضد الشنفري» (2022)، هذا الحوار:

هل يستدعي الحدث الكبير في غزة الكتابة أو يطردها؟

تحضرني مع ما يجري في غزّة عبارةٌ قالها الكاتب الفرنسي جان جينيه عندما زار مخيمي صبرا وشاتيلا بعد المجزرة، وهي: «الحقيقة غير مرئية». أحياناً، تقفل شاشة التلفزيون أو تنحي بنظرك عن أي مشهد لأنك لا تستطيع أن تتحمله، وأحياناً تسمع كلمات من طفل لا تجرؤ على النظر في عينيه أو وجهه. هذا أقسى أنواع التفاعل والتوتر. الأدب عادة متوتر، خصوصاً في واقعنا. ثمة لحظات قاسية نعيشها إبان الحرب، لا سيما أن كتابتي ليست تسجيلاً واقعيّاً وتوثيقيّاً للأحداث، إنّما هي محاولة لالتقاط المشاعر والتصورات. وهذا ما يصعب على الكاميرا أن تلتقطه. وعلى الرغم من قوة المشاعر والتصورات، فإنها تبرد أو تتلاشى أو تغدو عرضة للنسيان. هذه طبيعتها. ولكي تبقى محفوظة في الذاكرة، تقاتل ككاتب من أجل أن تمسك بها. نحن نعيش الآن مرحلة جديدة. ثمة أمر كنا نسمعه من أجدادنا أو نقرأه في الكتب، ومنها ما ألّفه مؤرخون إسرائيليّون، وهو عن التطهير العرقي في فلسطين، ولكن، عندما نراه اليوم حياً نصبح في درجة مختلفة وأمام مقارنات. نحن لسنا ضحايا نكبة، نحن ضحايا تطهير عرقي وإبادة جماعية كانت غير مرئية، لأننا لم نكن أمام هذا الكم من التواصل. اليوم، ثمة تأصيل لفكرة الرواية الفلسطينية، تأصيل لفكرة الصراع، تأصيل لفكرة الحرب نفسها. كل هذا يُستعاد في هذه اللحظات. وبعدما كتبنا أدب النكبة بتنا نتكلم عن أدب الإبادة على طريقة ما جرى في اليابان بعد إلقاء القنبلة. آنذاك، كُتب أدب هروشيما وما بعدها. كان هناك كُتّاب عاشوا تلك اللحظة أو عاصروا من مرّ بها. ونحن الآن، بعدما كنّا نسمع ونرى، بتنا نعيش الحدث المأسوي. حتى بالرسم، لا أرى الدنيا إلا رمادية. حاولت أن أرسم، وقد طغى لون الدمار. الطفل تحت الردم رمادي. هذا أثر بي. وأنا غير قادر على رسم أي شيء إلا إذا اكتسب هذه الألوان التي علقت في بصري وهي ألوان قاسية.

 

 

بالنسبة إليك، هذا فجّر الإبداع أو حاصره أو دمّره؟

هو عامل انفجار لكن داخلي. أمّا إلى أي مدى يصبح هذا الانفجار موجوداً في نصوص وأجناس أدبية وفنيّة وفكرية، فهذا مرتبط بالقدرة على الخروج من اللحظة هذه والدخول في شيء آخر. وهذا غير منظور في الوقت الراهن. النكبة مستمرة. أساساً، ولا مرة تعاطيت مع ما يحدث على أنه غير مستمر. النكبة لم تتوقف.


كيف تصف، أنت ككاتب ملتزم، اللحظة الفلسطينية، ثقافياً؟

إسمح لي أن أقول أولاً إن الأدب الملتزم ليس الأيديولوجي والذي يستعير الشعارات السياسية والمواقف. الأدب يجب أن يكون صادقاً كي يكون ملتزماً. ويجب أن يكون جيّداً. هذه مدرسة غسان كنفاني، التي لم يمثّلها وحده. وهي مدرسة تدمج ما بين العمل السياسي والإبداع من دون أن يؤثر أحدهما على الآخر. ونحن الآن نحتاج إلى ذلك. نحن في معركة جدية تتعلق بالوعي. هشاشة الوعي والفقر الثقافي يأخذان الناس إلى حيث لا يشتهون وإلى ما تريده القوى المعادية. ما يحدث في فلسطين وتجاه الشعب والقضية مرتبط بالعامل الثقافي. و جورج حبش كان يؤكد أن آخر القلاع التي يجب أن تسقط هي الثقافة. واحتلال الأرض أسهل علينا من احتلال ثقافتنا. فإذا احتلوا ثقافتنا احتلوا عقلنا وإرادتنا وأصبحوا قادرين على السيطرة على المجتمع كله. في الأجزاء التي احتُلت من فلسطين في 1948، حيث بات تعليم اللغة العربية ممنوعاً ونفّذت إسرائيل إبادة ثقافية تستكمل الإبادة البشرية والسياسية، حفظ الأدباء اللغة والهوية.

يجب أن نعرف طبيعة العدو. المشكلة أن جزءاً من المثقفين أهمل فهم من هي إسرائيل وماهيتها. وماهية هذا الكيان أنه قائم على قاعدة الاستئصال وليس الاستعمار التقليدي. لقد آتى حاملاً رواية نقيضة، ويعتبر بقاء الفلسطيني نفياً لروايته. في أحد المؤتمرات التي تعقد في الكيان تحت شعار «مناعة دولة إسرائيل»، قبل نحو ثلاثة عقود، طُرحت معركة السرد. اعتبر المشاركون أن السرد الفلسطيني ما زال متفوقاً، وسألوا: كيف ننتصر؟ وعندما بدأت معركة طوفان الاقصى حضر مباشرة كل ما يتعلق بمعركة السرد. وقد سمعنا صهاينة يستعيدون الرواية التوراتية ويقولون عن الفلسطينيين: هؤلاء عماليق اقتلوهم! أو تشبيه عملية طوفان الأقصى بالهولوكوست وبهجوم 11 أيلول على مبنيي التجارة العالمية في نيويورك. والغاية من ذلك انتصار السردية الإسرائيلية في معركة الوعي.

ما هي التحدّيات الفلسطينية في هذا الشأن؟

هناك مشكلة غياب مشروع ثقافي فلسطيني. لقد شُتت وغُيِّب عمداً. السياسة لعبت دوراً في ذلك. إدوار سعيد تحدّث عن الثقافة والإمبريالية. فما ينتجه الاستعمار في البلدان المستعمرة ليس ثقافته في بلاده ولا ثقافة البلدان المستعمرة إنما ثقافة ثالثة، هجينة. والبلدان العربية شهدت اختراقاً ثقافياً فتح الباب لفكرة التطبيع. والذات الفلسطينية تأذت من أوسلو التي تشكل ثقافة أكثر مما هي اتفاقات مبرمة. لقد سللت أوسلو فكرة التعايش مع العدو والقبول بالاحتلال إلى الوعي الفلسطيني والعربي عموماً، وأنتجت أدباً لا علاقة له بالواقع. وثمة مَن يشجع الأدب التافه، ويروج له من خلال ثقافة الجائزة التي تصنع مكانة الكاتب وتجعل أفضل الروايات قصة حب بين شاب فلسطيني وشابة إسرائيلية، مثلاً. والمواطن الفلسطيني، أو العربي، يتوهّم أن ذلك من الواقع. وتقويم الجائزة ليس قائماً على قاعدة النقد الأدبي إنما على البعد السياسي الثقافي. ما أود قوله هو أنه وفيما أنتقد رواية العدو عليّ أن أبني روايتي. وليست الإمبريالية مسؤولة عن كل أخطائنا بل هناك ما فعلناه ونفعله نحن. قسطنطين زريق عندما كتب «معنى النكبة» (1948) قال أن ليست النكبة كلها من صُنع العدو، بل ثمة تخلف وفجوة تسبّبا بها أو سهّلاها، ونحن مسؤولون عنهما. وهنا، تُطرح سلسلة من الأسئلة: لماذا النكبة مستمرة؟ لماذا تحولنا بسرعة إلى عشائر ومذاهب؟ وفي السياق نفسه، السؤل عن الخلافات المذهبية في سوريا والعراق ولبنان وهناك عمل كي تتمدّد إلى بلدان أخرى. باختصار، ثمة أعطاب فينا، في أنظمتنا ومجتمعاتنا واقتصاداتنا وثقافتنا. وهذا الوضع في فلسطين أيضاً.

ما أثر ذلك في الرواية والمنتج الأدبي الفلسطينيين؟

صار هناك خصوصيات ومغالاة في الخصوصيات على حساب الحلم ووحدته. أقول دائماً إنه يجب ألا تنصاع الثقافة لمشيئة السياسة. واذا كانت السياسة فنَّ الممكن فإن الثقافة هي فنُّ المستحيل. أي يجب أن ترتبط بالاحلام وبالقضايا العليا. يمكن أن تبقى طوباوية، ولكن هذا مفيد. الخيال هو شكل الطموح الذي على السياسة أن تعمل لتحويله إلى واقع. الحركة الصهيونية قامت على فكرة طوباوية.

لكن، في مقابل هذا التشتت والتشظي، هناك أجيال متعاقبة من الأدباء. ثمة استمرار واضح لشجرة العائلة الأدبية الفلسطينية!

صحيح، ثمة استمرار بالمعنى الثقافي والأدبي والروائي. ولكل جيل ميزة خاصة.

إلى أي مدى، في رأيك وبحسب قاموسك، الرواية الفلسطينية صادقة مع الواقع الفلسطيني؟

هناك، بلا شك، منتج متأثر بأوسلو كثقافة ويقدم أيديولوجيّته على الواقع، وهناك أدب قريب من الواقع. ولا أقصد بالسرد الواقعي حشد الحقائق، إذ إن الأدب ليس صحافة أو نشرة لأحداث الواقع. السرد الواقعي، بالنسبة إلي، يتّسع للخيال والاستشراف وللوجود الاجتماعي والمشاعر الإنسانية... إلخ. والسرد الواقعي هو الذي يشخّص أمراضنا ويحمل أوجاعنا، لا على قاعدة التطبع معها أو نشر الغسيل إنما وضعها في سياقها السياسي والثقافي والاجتماعي والإنساني. وهذا التوجّه موجود في الأدب الفلسطيني، ومساحته واسعة.

تقصد أن ثمة عطباً في الذات الفلسطينية ينعكس في الرواية... ما الذي عليكم كمثقفين عمله على مستوى النص وفي الواقع؟

كي يكون هناك مشروع ثقافي وطني تحرري فلسطيني، بأبعاده العربية، على كل مثقف أن يمتلك مشروعاً، لا أن يكتب ليكتب ويفوز بجوائز وتقول الناس إنه مثقف. هناك هدف وطني، وهو جزء من المعركة، ويحمل السلاح الأخطر. هذا السلاح إذا تأسّس على فكرة خاطئة يمكن أن يدمر جيلاً أو أكثر، ويمكن للاحتلال أن يستغله. الاحتلال يعرف ذلك، وإلا لماذا معظم الكتاب الفلسطينيين من الشهداء؟ الاشتباك الثقافي أرقى أشكال المقاومة.

هذا يحتاج إلى قرار وفعل سياسيين أو تعتقد أن المثقفين والكتّاب قادرون على إنجازه... ثم، ألا يجعل ذلك الأدب تابعاً للسياسة وبوقاً أيديولوجيّاً؟

لا بد من السؤال هنا: أي سياسة؟ يعتقد البعض أن لا حاجة إلى رؤية. وهذا البعض يفهم السياسة «شوية علاك» وسلطة. هناك فارق بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية. على السياسي أن يكون مثقفاً، وعلى المثقف أن يكون مسيساً إن لم نقل سياسيّاً. هذا هو الحل لهذه التركيبة، لأن ما حدث عندنا هو أن السياسة طاردة ونقيضة للثقافة أو مُستَخدِمة لها. هذه هي الإشكالية، وهي وجع عربي وليس فلسطينياً فحسب.
لا مبرر لانسحاب المثقف من المجال السياسي إذا ما اصطدم بالسياسة والسياسيين. لقد حصل ذلك مراراً، وندفع ثمنه سياسياً وثقافياً. علاقة السياسة والثقافة مسألة لا بد من مناقشتها. للأسف، هذا لا يحصل. ومعظم المنابر عندنا للتفاهة. هذا من أدوار المؤسسات الثقافية، المنابر الإعلامية، المثقفين بشكل عام. فكرة وجود مشروع ثقافي تفرض نفسها. لذلك، فكرنا في هذا المجال، وقمنا بخطوات عدة، هنا وفي سوريا، في سبيل إنشاء أكاديمية ثقافية تجمع المبدعين وتعمل لإزالة الجدار بين الثقافة الشعبية والثقافة الاكاديمية. الأمر يحتاج إلى تفكير وعمل، وهو أساسي. وإذا أردنا حفظ الذاكرة الفلسطينية، علينا حفظ المراجع والوثائق الفلسطينية. هذا جزء من المعركة. إسرائيل عندما اجتاحت بيروت في 1982 سرقت مكتبة وأرشيف مركز الأبحاث والدراسات الفلسطيني.

تراجع حضور الرواية الفلسطينية كنوع أدبي في المشهد العربي والعالمي، على الرغم من استمرار الإنتاج وهناك أجيال من الكتاب بما في ذلك الشباب في العالم وليس في فلسطين فحسب. هل تعتقد أن هناك مهمّات عملية يجب القيام بها لمعالجة ذلك خصوصاً في ظل عودة الاهتمام العالمي بالقضية الفلسطينية؟

أعتبر أن جزءاً كبيراً من التحول في العالم نحو قبول الرواية الفلسطينية له علاقة بطبيعة ممارسة الآخر نحونا. لكن ذلك يجب أن يُستكمل. هناك تعاطف مع الشعب الفلسطيني، لكن الموضوع أبعد من تعاطف. والهاجس هو كيف نثبّت ذلك التحوّل ونجعله ثقافيّاً وليس حركات احتجاج وتعاطف.
الرواية لا تستطيع أن تكون عملاً تغييرياً ثورياً. نعرف هذا. ولكنها تستطيع أن تكون عملاً تأريخياً للوعي الفلسطيني، ومقاربة لمسائل ذات علاقة بالإنسان. المهم هو كيف يُفعل ذلك، وكيفية التفاعل مع الآخرين. أحياناً، قصة صغيرة تتسبّب بتحول أكثر مما تحقق مئات الدراسات. وفي حين أن معظم الدراسات عنّا من إعداد مؤسسات ومنظمات دولية وباحثين أجانب، أعتقد أننا أكثر قدرة على روي حكايتنا.

أستشف منك أن ثمة دوراً ينبغي القيام به، إضافة إلى إيجاد مشروع ثقافي، هو مخاطبة العالم؟

صحيح. الآن، جزء كبير من العالم يلتفت إلينا. في السابق، كنّا نحن نخاطب العالم، أو نسعى إلى ذلك، وهذه المرة هناك خطاب من الولايات المتحدة وبلدان غربية في اتجاهنا. هناك أجيال جديدة من المتعاطفين والمؤيّدين يجب الاهتمام بها وملاقاتها ومعرفة لغة مخاطبتها. وأنا متفائل في هذا الشأن.

كيف تتابع الحركة الأدبية الفلسطينية في السجون الإسرائيلية؟

أشعر أن لدي مسؤولية ثقافية تجاه هذه الحركة، إضافة إلى المسؤولية الإنسانية والسياسية تجاه الأسرى والأسيرات. وقد نشرنا العديد من أدب السجن الذي تُنظّم في فلسطين والشتات لقاءات واحتفالات بإصداراته وكتّابه وشعرائه. بالنسبة إلي، الاهتمام بعمل أدبي كُتب في الأسر وهُرّب ورقة ورقة يُشعرني بأنني حرّرت أسيراً. وقد تعرّفت في العديد من الأعمال على أشكال جديدة من الكتابة والتجارب الإنسانية والأدبية. وليد الدقة الذي توفي في السجن (2024) بعد معاناة مع المرض، وإهمال وعذاب، يأخذنا بأسلوبه الخاص وتعامله الخاص مع الزمان والمكان إلى عمق تجربة إنسانية فريدة في مواجهة الاحتلال والأسر. وفي أحد نصوصه يروي قصّة حمل زوجته بنطفة مهرّبة. ولا تنتهي المأساة هنا، إذ لم يلتقِ ابنته بسبب أن الاحتلال رفض تسجيلها، فيكتب لها نصّاً بديعاً عميقاً يجمع ما بين الخيال الطفولي والأبوّة الأسيرة، ويربط ذلك بالحكاية الفلسطينية. يقول الأب لإبنه إن هناك زيتونة عمرها آلاف السنين وفي جذعها جوف يحتوي جرناً مملوءاً بالزيت، وإذا مسحت يدك به تغدو غير مرئي من السجّان الإسرائيلي، فتعبر أسوار السجن ونلتقي. ولفتتني أيضاً كتابات كميل حنيش وسائد سلامة وزكي أبو العيش وغيرهم.
السجّان الإسرائيلي يسعى إلى قطع علاقات الأسير بكل شيء وبأي أحد، يريد أن يصفّر الأسير وذاكرته. لذلك، أعتقد أن التحدي ولّد هذا الأدب. تخيّل أن السجّان يطارد كتباً. هذا همّه. لا يريد أي علاقة للأسرى بالكتب والثقافة. المعاناة رافد للتحدّي والصمود والمواجهة. وقد نجح الأسرى ليس في تحقيق مكاسب بشأن التعليم فحسب، إنما في توفير مناخ للقراءة والإطلاع والكتابة والفنون. وهناك كثير من الكتّاب والشعراء والرسامين الأسرى والأسرى المحرّرين باتوا حاضرين وشهيرين في الحياة الثقافية والأدبية والفنية الفلسطينية.

بوصفك كاتباً فلسطينيّاً ملتزماً، ما هو اهتمامك الأول؟

إهتمامي الأول هو مسألة الوطن ومعانيه. أحاول دائماً أن أوغل في ثنايا هذه المسألة. فمفهوم الوطن بالنسبة إلى مَن فقد وطنه مختلف عن مفهوم مَن يعيش في وطنه، حتى لو اعتبره وطناً ناقصاً أو فيه عذابات. وهذه المسألة مرتبطة بفكرة الهوية. لذا، اتخذ معظم كتاباتي هذا المنحى. إشكاليات الهوية وتداعياتها وعلاقتها بالمنفى والشتات. الذاكرة أيضاً، وليس الإنسان فحسب، معرّضة للتشتت. اللجوء الفلسطيني لم يتوقف. تخيل أننا نتحدث الآن عن اللجوء داخل غزة.
حاولت أن أُجدد في كتاباتي معنى شخصية اللاجئ والطبقات الكثيفة التي تتكون منها هذه الشخصية عبر التطور الذي تعيشه. نحن لم نعد لاجئين في الخيمة. نحن لاجؤون بمعنى آخر. أحياناً، تتجدد الخيمة. أنا مثلاً عشت الخيمة. أنا من مواليد بيوت الزينكو. ولاحقاً، تفاجأت بوجود بيوت مبنية بالإسمنت وقد دُمِّر المخيّم ورجعنا إلى الخيم. عالمنا كله ترحالي ومتحول. والهدف هو إفقاد ارتباطنا بالأرض، بالهوية. دائماً هذا الحيز يضيق علينا. الأجيال في المجتمعات تتوالى عمودياً، بينما نحن نتمدد أفقياً، ننتشر، نتشتت.
لطالما انشددت إلى الزمن الآتي أكثر من الزمن الحالي. لذا، كنت أجد نفسي في المستقبل حتى لو لم أعش. هذه مسألة مهمة وشكلت أساساً. ما طلب منّي أن أستشرف. إذا انتهت فكرة الاستشراف يفقد الأدب معناه الإبداعي وقوته الإبداعية. والآن، لا يداويني من وجع غزة إلا قصيدة لمحمود درويش كتبها في 2001 عن غزة الجديرة بالحياة. كتبها في 2001 وكأنه يحكي عن اليوم. هذا استشراف وهو قوّة الأدب ومعناه وقيمته.
في رواياتي «ضد الشنفري» التي صدرت قبل نحو سنتين، تناولت العلاقة بين الغرب والشرق. وورد فيها مطاردة العلم الفلسطيني، تماماً كما حصل بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية على غزة في عدد من البلدان الأوروبية التي اتخذت إجراءات تحاصر مؤيدي القضية والشعب الفلسطينيين.

الذاكرة وتجديدها
يعتبر الكاتب مروان عبد العال أن «الفضاء الفلسطيني بات يتشكّل من خمس جغرافيات. وبات ذلك أمراً واقعاً، شئنا أم أبينا. لقد وُجد ذلك قسراً بشروط موضوعية فرضت علينا. فلسنا شعباً يقيم في أرضه».
ويُعدد تلك المساحات: «السجون، الضفة الغربية، قطاع غزة، الأرض المحتلة في 1948، والشتات».
ويقول: «هذا تنوّع يكمّل الصورة ويجب الاحتفاء به وحمايته».
ويلفت إلى أن «الذاكرة الفلسطينية بحاجة إلى تجديد كي لا تصدأ».
ويضيف: «حفظ الذاكرة واجب، ولكن الذاكرة لا تقتصر على جيل النكبة والموروث الشعبي الفلسطيني المحمول من الوطن والذي يروى بنوستالجيا، بل هناك ذاكرة أخرى متجددة. هناك ذاكرة الوطن، وذاكرة المخيم، وذاكرة الشتات. والأهم ألا تتمدّد هذه الذاكرة أفقياً وتتلاشى. يجب البحث عن جاذب وربطها بجذرها».
وعلى الرغم من ميله إلى الذاكرة المحكية التي تأثر بها، والتي تتضمن كثيراً من الخيال إذ تصور الوطن المفقود فردوساً، إلا أنه شديد الحرص على أن لا يبقى الأدب الفلسطيني أسيرها. فهناك «واقع في الوطن وخارجه يجب أن يتناوله الأدب». ويشرح: «الذاكرة الفلسطينية قامت على الفردوس المفقود، إلى حدّ المبالغة والإضافة على الخيال، وهذا طبيعي. وضمن هذه الذاكرة، هناك صورة للبطل في الوطن قبل النكبة، إنما في مقابل هذا هناك واقع في الوطن وفي المخيم والشتات على الأدب أن يلتفت إليه ويتناوله. اليوم، ثمة بطل آخر. ما نعيشه ينتج أبطالاً وبطلات من نوع آخر. ما يفرض، إلى جانب حفظ الذاكرة، تجديدها والبناء عليها ومواكبة الواقع».