في سياق جيوسياسي معقد ومتعدد الأبعاد، يلعب حزب العمال البريطاني دورًا محوريًا في تشكيل سياسات المملكة المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وخاصة في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. تاريخياً، كانت بريطانيا، سواء تحت حكم حزب العمال أو المحافظين، لاعبًا أساسيًا في منطقة الشرق الأوسط، حيث تميزت سياستها بانحيازها النسبي لإسرائيل منذ إعلان بلفور في عام 1917.مع فوز حزب العمال في الانتخابات الأخيرة تحت قيادة كير ستارمر، تثار تساؤلات حول ما إذا كان الحزب سيستمر في دعم السياسات الإسرائيلية بشكل مطلق أم أنه سيتبنى موقفًا أكثر توازنًا، يعترف بحقوق الفلسطينيين ويضغط من أجل حل الدولتين. تأثر حزب العمال بضغوط داخلية من أعضائه وجماعات حقوق الإنسان، وكذلك بالضغوط الخارجية من حلفائه الدوليين، خصوصًا الولايات المتحدة. الاحتجاجات الشعبية والدعم المتزايد للقضية الفلسطينية بين الناخبين البريطانيين قد يؤدي إلى تغيير في مواقف الحزب، مما يعزز من احتمالية اتخاذ سياسات أكثر توازنًا تجاه الشرق الأوسط.
بل شك أن فوز حزب العمال البريطاني في الانتخابات الأخيرة يعتبر نقطة تحول هامة في السياسات الداخلية والخارجية للمملكة المتحدة. وهو ما ينعكس بدوره على سياسات بريطانيا تجاه الشرق الأوسط، خصوصًا فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. تحت قيادة كير ستارمر، تبنى حزب العمال موقفًا يمكن وصفه بأنه مزيج من الدعم التقليدي لإسرائيل مع محاولة متواضعة للتوازن عبر الدعوة إلى حل الدولتين ودعم حقوق الإنسان. رغم إدانة الحزب لبعض السياسات الإسرائيلية، إلا أن الدعم العسكري والاقتصادي لبريطانيا لإسرائيل لم يتغير بشكل جوهري. تصريحات ستارمر حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها كانت محل انتقاد من قبل بعض أعضاء الحزب ومنظمات حقوق الإنسان، الذين يرون أن هذه التصريحات تساهم في تبرير جرائم الاحتلال ضد الفلسطينيين.
تعود جذور علاقات حزب العمال مع الشرق الأوسط إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لعبت بريطانيا دورًا حاسمًا في تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة. كان موقف حزب العمال تقليديًا داعمًا لإسرائيل منذ إعلان بلفور في عام 1917، والذي وعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. ومع ذلك، شهد الحزب تحولًا ملحوظًا في مواقفه تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في العقود الأخيرة، خاصة في ظل قيادات مثل جيريمي كوربين الذي أبدى تعاطفًا أكبر مع القضية الفلسطينية
- تأثير طوفان الأقصى والاحتجاجات الشعبية
منذ اندلاع الأحداث في السابع من أكتوبر، شهد حزب العمال البريطاني تغيرات ملحوظة في مواقفه تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي نتيجة لتأثير الاحتجاجات الشعبية. في الأشهر التسعة الماضية، تزايدت الضغوط على الحزب لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى والانتهاكات في غزة والضفة الغربية.
في البداية، كانت تصريحات قيادة حزب العمال، وخاصة كير ستارمر، تركز على دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع دعوات معتدلة لوقف العنف وحماية المدنيين. لكن مع استمرار الاحتجاجات الشعبية في بريطانيا، والتي شملت مظاهرات واسعة النطاق ومسيرات دعم للفلسطينيين، بدأ الحزب يواجه ضغوطًا متزايدة من داخله. نواب ومسؤولون محليون، بمن فيهم أعضاء بارزون في الحزب، أعربوا عن استيائهم من التوجهات الحالية وطالبوا بمواقف أكثر توازنًا وعدالة.
خلال الأشهر الماضية، بدأ حزب العمال في تعديل بعض من مواقفه. تم تقديم اقتراحات داخل البرلمان تدعو إلى مراجعة العلاقات العسكرية مع إسرائيل، وتزايدت الدعوات لإجراء تحقيقات في جرائم الحرب التي ترتكبها القوات الإسرائيلية. بالإضافة إلى ذلك، دعا بعض أعضاء الحزب إلى فرض عقوبات على المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية وتشديد المواقف تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.
هذا الضغط الداخلي لم يقتصر فقط على المستوى البرلماني، بل شمل أيضًا القاعدة الشعبية للحزب. أظهرت استطلاعات الرأي داخل الحزب أن هناك دعمًا واسعًا لتبني سياسات أكثر توازنًا تجاه الصراع، مما يعكس تغيرًا في المزاج العام للناخبين البريطانيين. هذه التحولات تجلت في النقاشات الداخلية لحزب العمال، حيث بدأت القيادة في استكشاف طرق لتلبية مطالب الأعضاء والناخبين مع الحفاظ على العلاقات الدولية المهمة.
- حزب العمال الجديد و الشرق الأوسط
يواجه حزب العمال تحديات كبيرة فيما يتعلق بتوجهاته نحو الشرق الأوسط. على الصعيد الداخلي، هناك تيارات قوية داخل الحزب تطالب بمواقف أكثر حزمًا تجاه إسرائيل ودعمًا أكبر للفلسطينيين. هذه التيارات قد تخلق نوعًا من التوتر داخل الحزب وتؤثر على سياساته الخارجية. أما على الصعيد الخارجي، فالعلاقات الوثيقة بين بريطانيا والولايات المتحدة تلعب دورًا حاسمًا، حيث أن مواقف الحكومة البريطانية غالبًا ما تكون متأثرة بسياسات البيت الأبيض تجاه الشرق الأوسط.
من المحتمل أن يدفع حزب العمال، تحت قيادة ستارمر، باتجاه جهود دبلوماسية مكثفة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. قد يضغط الحزب من أجل استئناف مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ويدعو إلى تدخل أكبر للمجتمع الدولي لدعم هذه الجهود حقوق الإنسان: من المتوقع أن يكون لحزب العمال توجه أقوى نحو قضايا حقوق الإنسان في المنطقة. ستارمر أشار إلى أهمية حماية حقوق الإنسان للفلسطينيين، وهذا قد ينعكس في مواقف بريطانيا تجاه السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية.
لكن الأكيد أن الدور المحتمل لحزب العمال في المنطقة الوساطة الدبلوماسية: بريطانيا قد تلعب دور الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مستفيدة من علاقاتها الجيدة مع الجانبين. يمكن أن تدعو الحكومة البريطانية تحت قيادة حزب العمال إلى مؤتمرات دولية تهدف إلى إعادة إطلاق عملية السلام. الدعم الإنساني: يمكن أن تعزز بريطانيا دعمها الإنساني للفلسطينيين، من خلال زيادة المساعدات الإنسانية ودعم مشاريع إعادة الإعمار في غزة. هذا الدعم قد يكون مشروطًا بتعزيز حقوق الإنسان وضمان عدم استخدام الموارد لأغراض عسكرية.
قد يتبنى حزب العمال سياسات أكثر صرامة تجاه المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفة الغربية، من خلال فرض عقوبات على الشركات التي تعمل في هذه المستوطنات أو تقييد الصادرات من وإلى هذه المناطق.
وفيما علي مستوي السياسات العسكرية، : فعلى الرغم من الدعوات الداخلية لتقليص الدعم العسكري لإسرائيل، إلا أن موقف الحزب الحالي لا يزال يدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ومع ذلك، قد نشهد تحولًا تدريجيًا نحو تقليل هذا الدعم أو وضع شروط أكثر صرامة على استخدامه، خاصة في ضوء الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان .
يبدو أن حزب العمال البريطاني يواجه مفترق طرق حاسم فيما يتعلق بسياساته تجاه الشرق الأوسط. قد يؤدي الضغط الداخلي من القواعد الشعبية للحزب، بالإضافة إلى التغيرات في الرأي العام البريطاني تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلى تعديل السياسات التقليدية للحزب. من الممكن أن نشهد تحولًا نحو دعم أكبر لحقوق الفلسطينيين والدعوة إلى إنهاء الاحتلال وتعزيز حقوق الإنسان في المنطقة. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في كيفية تحقيق هذا التوازن دون فقدان الدعم من الحلفاء الدوليين الرئيسيين، مثل الولايات المتحدة، والذين لديهم تأثير كبير على السياسة الخارجية البريطانية. إذا نجح حزب العمال في إدارة هذه التوازنات الدقيقة، فقد يتمكن من لعب دور بناء في تحقيق تسوية ما والاستقرار في الشرق الأوسط، مما يعزز من مكانة بريطانيا كوسيط دولي مؤثر