في خضم التصعيد العسكري المستمر في قطاع غزة، يواجه الاقتصاد الإسرائيلي تحديات غير مسبوقة. فالأثر الاقتصادي للحرب يمتد من انهيار الصناعات الدفاعية إلى تدهور قطاع السياحة والتجارة. لتسليط الضوء على هذه الأزمات الاقتصادية وتأثيراتها على السياسة الإسرائيلية، أجريت بوابة الهدف الإخبارية مقابلة مع أبو علي حسن، عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. في هذا الحوار يقدم أبو علي حسن تحليلًا عميقًا لتكاليف الحرب وتداعياتها على الصناعات العسكرية وصورة إسرائيل في الأسواق العالمية.
يقدم أبو علي حسن تحليلاً متعمقًا لتأثيرات الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي، مشيرًا إلى التحديات التي تواجهها إسرائيل في تلبية الطلبات العسكرية وتأثيراتها على سمعة صناعاتها الدفاعية. تبرز هذه التحليلات الأزمات الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها الكيان الإسرائيلي وتأثيراتها على استراتيجياته العسكرية والسياسية.
في البداية، ما هي التقديرات الدقيقة للتكلفة الاقتصادية التي تكبدتها "إسرائيل" جراء الخسائر العسكرية خلال (340) يومًا من الحرب في غزة، وكيف تقارن هذه الخسائر بالنفقات العسكرية الإسرائيلية السنوية؟
يشير أبو علي حسن أنه قبل أى شيء يجب الإشارة إلى أن الكيان الإسرائيلي يلجأ إلى إخفاء خسائره العسكرية والاقتصادية، وهذا الإخفاء يمثل سياسة معمول بها، وهي جزء من استراتيجية حربه مع الشعب الفلسطيني، ومحاولة لحماية جبهته الداخلية التي تعاني من التصدعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخوفاً من فقدان الدافعية لدى جيشه ومجتمعه في الذهاب إلى الحرب. في ضوء ذلك، لا تقدم المؤسسة العسكرية، أو المرجعيات الاقتصادية مثل البنك المركزي الإسرائيلي أو وزارة المالية، على إظهار الأرقام الحقيقية لكلفة الحرب وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. بيد أن الصحف الإسرائيلية كثيرًا ما تلجأ إلى الإشارة لحجم الخسائر المتوفرة لهذه الحرب على أكثر من مستوى.
ويضيف أنه رغم ذلك، فإن الأرقام المعلنة الرسمية عن الخسائر وغير الحقيقية تمثل عبئاً وإرهاقاً غير عادي على اقتصاد الكيان وموازنته العامة. ومن المعلوم أن موازنة الكيان العامة تصل إلى (140 مليار دولار) تقريباً في عام 2023، إلا أن الكنيست أقر موازنة جديدة بإضافة (19 مليار دولار) على الموازنة لتصبح (158 مليار دولار) لعام 2024، مما يجعل العجز في الموازنة يصل إلى (6.6%) من الناتج المحلي، في حين كان العجز سابقاً لا يزيد عن (2.25%) من الناتج المحلي. وهذه الزيادة في الموازنة، والعجز المتوقع، لا تمثل العبء الاقتصادي للحرب، إنما هي مفردة رقمية من مفردات الحياة الاقتصادية.
مشيرا أن التقديرات المعلنة لتكلفة الحرب قد تعدت (73 مليار دولار) منذ بدء الحرب، وهذه التقديرات قريبة من المراكز الرسمية، في حين أن بعض الخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن هذه الحرب قد تجاوزت كلفتها الكلية (اقتصادية - اجتماعية - وعسكرية) إلى ما يقارب (160 مليار دولار)، حيث أن كلفة الحرب ليست هي النفقات المباشرة على الجيش الإسرائيلي، إنما عبء الحرب يطال المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والزراعية والسياحية والخدماتية وفوائد الدين العام...إلخ. وتشير التقديرات المسربة من وزارة الدفاع إلى أن ميزانية الإنفاق العسكري لعام 2024 سوف تصل إلى (36 مليار دولار) في حين أنها لم تكن ما قبل الحرب تتجاوز (23 مليار دولار)، بما يشير إلى أن حجم الإنفاق العسكري المباشر في الحرب في جانبها العسكري فقط يمثل 22% من الموازنة العامة.
ومن نافل القول أن عبء الحرب يتوزع على بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما يجعل الإنفاق العسكري ليس إلا مفردة من مفردات التكلفة للحرب. فالركود الاقتصادي أصبح علامة واضحة في الأزمة الاقتصادية، حيث وظفت جميع موارد الكيان والميزانيات الحكومية والاجتماعية إلى أغراض وحاجات الحرب. إن إجلاء (250 ألف) إسرائيلي من منازلهم في الشمال والجنوب وتم إيواؤهم في (438) فندقًا ومنشأة، وهذا يحتاج إلى تعويضات للفنادق والمهجرين، وهؤلاء يحتاجون إلى (1.8 مليار دولار) وفق وزارة السياحة. خسائر قطاع السياحة بلغت أكثر من مليار دولار ما بين توقف السياحة والتعويضات للمتضررين من شركات السياحة، حيث خسرت السياحة أكثر من (80%) من دخلها المعتاد.
كيف تؤثر خسائر المعدات العسكرية الإسرائيلية مثل الطائرات والدبابات وأنظمة الدفاع الصاروخي على قدرة الشركات المصنعة للأسلحة في "إسرائيل" على تلبية الطلب المحلي والدولي؟
يذكر أبو علي حسن قائلا أن كل الدلائل تشير إلى أن الخسائر في المعدات العسكرية الإسرائيلية تتمحور في الدبابات والعربات والمركبات المختلفة، ولا توجد أرقام دقيقة عن حجم هذه الخسائر بسبب سياسة الإخفاء التي تعتمدها المؤسسة السياسية والعسكرية. لكن المصادر غير الرسمية تتحدث عن أرقام تتجاوز الألف من الدبابات والمركبات، وقد اعترف الجيش الإسرائيلي بفقدانه عددًا من دباباته، وأن دباباته المتضررة لا تستخدم في القتال وأنه لا يتوقع إدخال دبابات جديدة إلى الخدمة في سلاح المدرعات قريباً، وأن ما هو متوفر حاليًا ليس كافياً للقتال في غزة. (قال الجيش الإسرائيلي في التماس أمام المحكمة العليا الإسرائيلية) يلدز عوزر علّق على صفحته: "لا يوجد دبابات ولا حتى قريباً، والفاسد نتنياهو يريد حربًا في لبنان بجنود الاحتياط".
ويضيف أن "إسرائيل" تمتلك (2200 دبابة) ويعتبر سلاح الدبابات العمود الفقري للجيش الإسرائيلي، وتدمير الكثير منها يصعب على الاحتلال مواصلة حربه في غزة. في ضوء هذه الخسائر في دباباته ومركباته، لن يكون قادراً على تلبية الطلب المحلي أو الدولي، فالصناعات العسكرية على مستوى الدبابات والمركبات تحتاج إلى وقت أطول وإلى تكاليف باهظة، حيث تصل كلفة الدبابة الميركافا أكثر من ستة ملايين دولار. أما خسائر الجيش الإسرائيلي في الطائرات وأنظمة الدفاع الصاروخي فهي أقل بكثير من خسائره في دباباته.
هل أدت هذه الخسائر إلى تقليص صادرات "إسرائيل" من الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية إلى الدول الأخرى؟ وهل تأثرت عقود التصدير الدولية بهذه الأحداث؟
بدون شك أدت هذه الخسائر إلى تقليص صادرات الكيان إلى الدول الأخرى وسوف تتأثر كثيراً جراء هذه الحرب المستمرة، حيث حاجة الجيش الإسرائيلي إلى الأسلحة المختلفة اليوم أكبر بكثير من حاجته إلى التصدير، إدراكاً منه أن حربه مع الفلسطينيين طويلة، وأنها من الصعوبة بمكان بفعل الخسائر اليومية. كما يدرك الكيان أن حربه اليوم قد تتوسع في الشمال، أو تتوسع إلى حرب شاملة إقليمية، وقد أكد هاليفي أن كمية الدبابات المتوفرة لا تلبي حاجات القتال، بما يعني أن حاجته إلى الأسلحة أكثر من حاجته إلى التصدير، بالرغم من أن تصديره للسلاح إلى دول أخرى يصل إلى مستوى (12 مليار دولار) سنويًا، وهذا رقم يعتد به في الاقتصاد الإسرائيلي، فالكيان يعتبر من أكثر "الدول" تصديرًا لتقنيات التجسس الإلكتروني والطائرات المسيرة (درون) وأدوات الحرب السيبرانية، حيث يوجد أكثر من (600) شركة إسرائيلية تعمل في مجال الصناعات الدفاعية.
ويضيف أبو علي حسن قائلا أن هذا الواقع يعني أن هذه الشركات قد تتوقف نسبياً عن إنتاجها بسبب الحرب الدائرة وذهاب موظفيها وعمالها ومهنييها إلى الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي. وتشير التقارير إلى أن الحرب قد أثرت على العقود والاستثمارات المبرمة مع شركات أجنبية عديدة، ولا سيما شركات التقنية، وتفيد المصادر إلى أن (40%) من الشركات في هذه المجالات لديها اتفاقات وعقود مع مستثمرين، ولم تستطع أن توفي بالتزاماتها إلا بحدود (10%) مع المستثمرين. وهذا يعني أن الحرب قد جعلت هذه الشركات تواجه تحديًا كبيرًا في إمكانية تدفق الأموال والاستثمارات، وفي محاولة لمواجهة هذا التحدي، اضطرت ما يسمى بـ (هيئة الابتكار) إلى تخصيص (26.6 مليون دولار) في شكل مساعدات لمائة شركة تواجه انخفاضًا حادًا في استثماراتها، حيث وصل الانخفاض إلى مستوى (70%) من إنتاجها السابق. كما تشير التقارير إلى أن (70%) من شركات التقنية البالغة (507) شركة قد أجلت أو ألغت الطلبات أو المشروعات الخاصة بها، وأكدت أنها غير قادرة في الوقت الراهن على تطوير مشروعاتها وبرامجها، وعدم قدرتها على توفير حاجات السوق العالمي، وبعض المصادر تتحدث إلى أن (60 ألف) شركة إسرائيلية قد تضطر إلى الإغلاق في عامي (2024-2025) بسبب نقص الموظفين والعمالة إذا ما استمرت الحرب أو ما توسعت إلى الشمال.
ما هي الآثار المحتملة لهذه الخسائر على سمعة الصناعات الدفاعية الإسرائيلية في الأسواق العالمية؟ وهل تواجه "إسرائيل" منافسة أكبر من دول أخرى في هذا القطاع؟
يؤكد أبو علي حسن أن استمرار الحرب ومجرياتها، والخسائر التي أصابت السلاح الإسرائيلي، لا سيما دبابة الميركافا ومركبات النمر التي دمرتها المقاومة بسلاح بدائي الصنع، قد أظهر عيوبها وأسقط سمعتها وفاعليتها التي طالما تحدث عنها الكيان. وكذلك فإن مسيرات الدرون لم تثبت جدارتها، فالعديد منها أسقط في الشمال الفلسطيني وفي غزة وحتى الضفة، وهذا يؤثر على سمعتها. ولكن يبقى الكيان متفوقاً في مجال تقنيات التجسس (بيغاسوس) والتقنيات السيبرانية التي تستخدم في ملاحقة الأهداف. وحتى يستطيع الكيان أن يتجاوز أزمته هذه في مجال فعالية أسلحته فهو يحتاج إلى فترة أطول لتقييم فاعلية أسلحته الميدانية كالدبابات والمركبات، كما يحتاج إلى موازنات مالية كبيرة كي يستعيد قدراته الإنتاجية من الأسلحة.
مضيفا أن مجال أسواق السلاح مفتوح للمنافسة من قبل دول أخرى، حيث أن هناك دولاً تسعى لتعزيز دورها في السوق الدفاعية. على سبيل المثال، دول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين تواصل تعزيز قدراتها في هذا المجال، مما يشكل تهديداً مباشراً للمكانة التقليدية للصناعات الدفاعية الإسرائيلية. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تسعى لتحديث أسلحتها وتجهيزاتها العسكرية بشكل مستمر، بينما تسعى الصين إلى زيادة قدرتها على إنتاج الأسلحة بتقنيات متطورة. علاوة على ذلك، فإن تصاعد التوترات الجيوسياسية قد يزيد من فرص الدول الأخرى في التنافس على صفقات أسلحة عالمية.
وبناءً على ذلك، فإن سمعة الصناعات الدفاعية الإسرائيلية قد تتأثر سلبًا على المدى القصير بسبب ظهور ضعف في بعض أنظمتها. وهذا قد يدفع الكيان الإسرائيلي إلى تعزيز البحث والتطوير لتحسين قدراته العسكرية والتكنولوجية، أو قد يتسبب في تحول بعض العملاء إلى خيارات دفاعية أخرى.
كيف تؤثر الخسائر العسكرية على قدرة إسرائيل على تلبية طلبات التسلح المحلية والدولية؟ وهل هناك تأثير على عقود التصدير الدولية؟
ذكر أبو علي حسن: من المعلوم أن الجيش الإسرائيلي قد أعلن على لسان هرتسي هاليفي أن كمية الدبابات المتوفرة في سلاح المدرعات ليست كافية للمجهود الحربي، ولإجراء التدريبات في الوقت نفسه. المتوفر حالياً لا يلبي حاجات القتال، وهذا يعني أن الكيان بحاجة إلى السلاح من مختلف الأنواع، وهذا يمثل مشكلة جدية لدى الكيان في كيفية توفير وتلبية الطلب. لا سيما وأن كثيراً من الدول قد أوقفت بعضاً من صادراتها التسليحية إلى الكيان، وذلك بنسب متفاوتة. على سبيل المثال، أوقفت بريطانيا 30 من رخص التصدير من أصل 350 رخصة، وكذلك أوقفت العديد من الدول الأخرى مثل إسبانيا وبلجيكا وهولندا والدنمارك وكندا بعض صادراتها، وهذا الأمر مرتبط بشكل كبير بمستجدات الحرب ومواقف تلك الدول.
مشيرا أن هذا الواقع يفرض على الكيان القيام بما يسمى استراتيجية التعويض، القائمة على تخصيص موارد أكبر لوزارة الدفاع والصناعات العسكرية، مما يعد إرهاقاً للموازنة العامة. وثانياً، السعي لدى الإدارة الأمريكية للحصول على المساعدات اللازمة في إطار الشعار الأمريكي بحماية أمن "إسرائيل". وثالثاً، زيادة نسب الضرائب على المواطنين لتوفير كمية أكبر من الأموال لتخصيصها إلى وزارة الدفاع. وهذا له مردوده السلبي على الوضع الاقتصادي للأفراد، حيث ينخفض معدل الدخل السنوي للمواطن، مما يجعله غير قادر على العيش بالكيان، وربما يؤدي إلى زيادة معدل الهجرة بعيداً عن الحرب وويلاتها. علماً أن مليون إسرائيلي أصبحوا الآن خارج الكيان.
في ختام هذه المقابلة، يظهر بوضوح أن تأثيرات الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي ليست مجرد مسألة مالية بل هي تعبير عن أزمة أعمق في مشروع الاستعمار والاحتلال. أبو علي حسن، من خلال تحليله الثوري، يكشف عن حجم الخسائر الاقتصادية التي تعكس هشاشة الكيان الصهيوني وتفكك بنيته العسكرية والاقتصادية. هذه الأزمات ليست مجرد تكاليف مالية، بل هي دلالة على فشل استراتيجي يمهد الطريق لمزيد من الضغوط على النظام الاستعماري. وعليه فأن انهيار دولة الاحتلال الاقتصادي هو بداية النهاية لمشروعها الاستعماري.