نعيش أسبوعا من أقسى الأسابيع على لبنان، مقاومةً وشعبًا، منذ بداية طوفان الأقصى. وقد بان وقع الضربات المتتالية التي وجهها العدو على معنويات وخطاب جمهور المقاومة في لبنان. حتى أنه انتزع إقرارًا فريدًا من نوعه من أمين عام حزب الله الذي اعترف بكونها "ضربة غير مسبوقة في تاريخ المقاومة في لبنان وعلى مستوى لبنان والصراع مع العدو الصهيوني".
والمقلق أن هذه الضربات تأتي في سياق أشهر من الاغتيالات لقيادات مقاوِمة فلسطينية ولبنانية، بل سنين من الهزائم تبعت تحرير جنوب لبنان وانتصار تموز. فعلى سبيل المثال، استطاع العدو عام 2022 فرض قبول لبنان باتفاق هزيمة يتضمن تنازله عن "حقل كاريش" (والتي كانت حتى المملكة المتحدة "أمُّ الاستعمار" قد اعترفت بلبنانيته) واستعداده لتقاسم الأرباح من "حقل قانا" المحتمل مع الكيان بنسبة يحددها الكيان على قاعدة "ما لي لك وما لي لي ولك". والأخطر أن الاتفاق تضمن الاعتراف بـ"حقوق إسرائيل" وهو أول إقرار من نوعه للبنان. والملفت أن إيران رحّبت بهذا الاتفاق المساوِم والتطبيعي. وليس اتفاق الهزيمة الانتكاسة الوحيدة في وجه العدو، فقد أعلن أمين عام حزب الله في مطلع العام الحالي أن القضية الفلسطينية كانت على وشك أن "تُنسى وتُصفى" قبل طوفان الأقصى.
تضع هذه السلسلة من الانتكاسات على أكتافنا مسؤوليتين: أولًا، الحرص على عدم الاستسلام لمشاعر الهزيمة. فنحن لا نواجه عدوًا يطمع بمواردنا فحسب، بل مشروعًا احتلاليًا احلاليًا سيعمل على محونا ما لم نهزمه تمامًا، فـ"إما نحن وإما نحن". ثانيًا، عدم الاستخفاف بهذه النكسات بل العمل على تحديد أسبابها الاستراتيجية بغية معالجتها. وسنعرض ثلاث منها هنا ونرى القاسم المشترك بينها.
الخطاب الانتصاري
من الطبيعي مواجهة خطاب الهزيمة بـ"طبول حرب"، ووجود الكيان يعني أننا في حالة حرب مستمرة. ألا أن الخطاب "الانتصاري" سمة من سمات الكيانات السياسية الهوايتية، وتحديدًا الدينية. فالأنظمة الديمقراطية (بالمعنى الحقيقي، وليس الرأسمالي الاستعماري، للكلمة) تدّعي شرعية وظيفية، أي أنها تبرّر وجودها على أساس فعاليتها في إدارة شؤون المجتمع. فتنحو الحركات والحكومات ضمنها لتقديم مشاريع سياسية ناجحة، ولنقد ذاتها بغية زيادة فرص نجاحها، فيما ينتقد أصحاب المشاريع الآخرين على أساس خياراتهم السياسية، وهذا ما ينتج جهدًا نقديًا تقدميًا متجددًا. أما الأنظمة التي تدّعي تمثيل هوية، فتبرّر وجودها على أساس تعاضدي يحمي المجموعة (أو "الطائفة"، أو "القبيلة") بوجه المجموعة الأخرى. وهذا ما سعى الاستعمار لترسيخه في منطقتنا ففتّت مجتمعاتنا إلى قبائل سنية وشيعية ومارونية ودرزية وعربية وكردية وفارسية تتمترس كل منها بوجه "الآخر". وأتى زرع كيان استيطاني يهودي بهذا السياق. فتؤسَر هذه الحركات والأنظمة القبلية في خطاب انتصاري، إذ يُسقط أي اعتراف بفشلها في الحماية من "الآخر" مبرّر وجودها. وهذا ينطبق بشكل خاص على الكيانات المدعية شرعية دينية، فكيف نُغلب إذا كان الله معنا؟
لهذا الميل "الانتصاري" المنفصل عن الواقع عواقب عدة رأيناها مؤخرًا. فقد أكّدت الجمهورية الإسلامية في إيران على مرّ العقود قدرتها على مواجهة الكيان بل محوه، "متمنية أن تعطينا إسرائيل ذريعة لنمحوها عن وجه الأرض" وجازمة أنها تستطيع القيام بذلك خلال "سبعة دقائق ونصف" ومؤكدة (على شكل دوري) أن "المعركة النهائية اقتربت". كما اعتادت التكلم عن "قوة ردع" أو عن "وحدة الساحات" لتؤكد أن الإعتداء على أية ساحة يُعتبر اعتداء على كل الساحات. أما اليوم وبعد قراب السنة من بدء طوفان الأقصى، تبيّن أنه رغم إمكانيات حزب الله النوعية، واستطاعته خرق الأجواء الفلسطينية وفرض نزوح حوالي 1% من المحتلين من شمال فلسطين، لا قدرة لإيران وحلفائها على ردع العدو من اغتيال قادة المقاومة، ولا اعتبار أن الاعتداء في "ساحة" غزة أنه اعتداء على "ساحة" إيران، ولا إمكانية فعلية لها ولحلفائها بوقف الإبادة الجماعية في غزة. والمشكلة هنا ليست في الضعف أو العجز بحد ذاته (فإسرائيل تدعمها سياسيًا و/أو اقتصاديًا و/أو عسكريًا قوى "الغرب" كما "الشرق" الإمبريالية، ولا نتوقع التفوق العسكري عليها) بل في الفجوة بين الخطاب الانتصاري والواقع، وبالتالي بالتأثير الهدّام على روح المواجهة حين نصطدم بالواقع.
غياب المشروع المتكامل
لا شك أن السلاح أداة أساسية في مواجهة المشروع الصهيوني. فلم يحدث في التاريخ أن قنع غصن زيتون مستعمر بالتنازل عن طيب خاطر عن امتيازاته. لكن لحصر مواجهة إسرائيل بالسلاح على حساب الأوجه الأخرى مخاطر عدّة. فالكيان لا يتكل على عسكره فحسب، بل أيضًا على خطابه وإعلامه وعلاقاته السياسية واقتصاده وإنتاجه وغيرها. وكل حركات التحرر الناجحة في التاريخ كانت تحمل مشروعًا سياسيًا لشكل السلطة بعد التحرير، أي بعد دحر الاحتلال وتفكيك الكيان السياسي الذي ارتضى الاحتلال. وهكذا نرى في الميثاق القومي الفلسطيني ولاحقًا الميثاق الوطني الفلسطيني طرحًا لدولة فلسطينية واحدة من النهر إلى البحر يحدد حقوق مواطنيها وشروط إمكانية بقاء اليهود فيها بعد التحرير. ونرى في أدبيات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ذكر أهمية مواجهة النظام الطائفي في لبنان وإقامة النقيض التام له، أي دولة ديمقراطية علمانية، على أنقاضه. أما ما حصل في نهاية المطاف أن الحزب الذي دحر العدو اختار دخول النظام نفسه الذي ارتضى الاحتلال بدل طرح سياسي بديل لدولة واقتصاد في لبنان.
فعلى سبيل المثال، لا منهاج دراسي موحّد يعلّم الأجيال الصاعدة أن إسرائيل عدو. ولا خطة إعلامية رسمية لمواجهة التطبيع وأدواته في لبنان. ولا جدية في المقاطعة الرسمية للبضائع الإسرائيلية. ولا اقتصاد لمنافسة اقتصاد العدو. ولا استقلالية غذائية ولا ملاجئ ولا حتى كهرباء. ولا شبكة أمان اجتماعية (تغطية صحية وتعليم وسكن وعمل) للحد من نزيف الهجرة ولدعم الصمود المجتمعي. ولا إنتاج، مثلا: لا استفادة من طاقات المهندسين اللبنانيين لإنتاج أجهزة "بايجر" ولاسلكية كانت قد أنقذت الألوف الأسبوع الماضي. ولا سياسة ضريبية لتمويل أو تسليح للجيش بل إجماع زعماء الطوائف على القبول بتوكيل الأمر لقوى خارجية ( قطر ي وأمريكي للجيش وإيراني للمقاومة). وقد أصبح من الواضح أن هذا "اللا-مشروع" يهدّد بتبديد التضحيات التي قدّمها المقاومون والإنجازات التي حققوها.
تبني منطق هوياتي تفتيتي
أخيرًا، لا يغب عن بالنا عجز النظام الطائفي والأحزاب الطائفية عن المحافظة على أية لحمة مجتمعية بوجه العدو. فحصر المقاومة بحزب "الله"، ويعرّف نفسه بأنه "الحزب الإسلامي الشيعي الإثنيعشري"، ويجاهر أنه "جماعة إيران بكل افتخار"، يقصي كل من لديهم رؤية مختلفة "لله" أو للإسلام أو لإيران. أي أن المقاومة أصبحت كيانًا منفصلًا عن المجتمع، يدعمه أو يخاصمه اللبنانيون بوصفه "آخر"، ويحتاج هو بدوره لبيئة حاضنة له، عوض أن يكون حالة مجتمعية عضوية وجامعة. وهذا تحديدًا ما سعى ويسعى الاستعمار ولاسيما "الدولة اليهودية" على ترسيخه. فكيف نهزم مشروعًا اخترنا أن نكون جزءًا عضويًا منه؟
يدفع لبنان اليوم ثمن خيار الإنقلاب على العلمانية باعتبراها "أيديولوجية"، لا النقيض التام لمنطلقات المشروع الصهيوني (والمشروع الاستعماري العالمي) الهوياتية. فالدولة الديمقراطية التي تكنّ العداء لإسرائيل تخوض المواجهة باسم مجتمعها، وتستثمر شرعيتها في عيون مواطنيها لاستخدام العنف بحق العملاء. وهذا ما لا يمكن لحزب-طائفة فعله حفاظًا على ما يسمّى "السلم الأهلي"، وهو في أفضل حال "هدنة" بين تشكّلات قبليّة عدوانية. بل أن المحافظة على نظام "ائتلاف الطوائف" وخوض حزب-طائفة المواجهة منفردًا أو شبه منفردًا تفسح المجال واسعًا لاتهامه بإقحام الطوائف الأخرى في حرب لم تخترها، وبالتالي تضفي شرعية على انعزالية الطوائف الأخرى، تحت عناوين "اللامركزية المالية الموسّعة" و "الفيدرالية" وصولًا إلى "التقسيم".
طبعًا، لا تأتي الإشارة إلى مواضع الخلل الثلاث من باب المزايدة بل من باب الحرص على فعالية المقاومة حتى التحرير الكامل، وبالتالي الحاجة للقيام بمراجعة. فليس من الصدفة أن يكون العامل المشترك بين مواضع الخلل "المنطق الهوياتي-الديني". فهو الذي يحتّم تبني خطاب انتصاري غير نقدي، والذي يحول دون بناء دولة المواطنة المقاوِمة، والذي يفتت المجتمع عوض أن يحشد طاقاته للمواجهة. والفرصة لم تفتنا بعد. فالضربات القاسية التي تكبدناها الأسبوع الماضي، وعجْزنا عن إيقاف الإبادة السنة الماضية، وهزائم وخطر تصفية القضية الفلسطينية التي رأيناها في السنين الماضية، كل هؤلاء يحمّلونا جميعًا، أحزابًا ومجتمعًا، مسؤولية تاريخية بمراجعة الخيارات السياسية التي قادتنا إلى هنا، وبتبني رؤية سياسية وطنية جديدة، أو بالأحرى بالعودة إلى الرؤية التحررية الوطنية الأساسية.
* الآن علم الدين، كاتب من بلاد الشام، عناية عطاالله، لاجئة فلسطينية