Menu

نواف الزرو في مقابلة خاصة مع الهدف

حوار من زنازين الاحتلال إلى ميادين الفكر... قراءة في الصراع العربي الإسرائيلي

محمد أبو شريفة

المؤرخ الفلسطيني نواف الزرو

الهدف - سوريا، دمشق

 أجرت مجلة الهدف الشهرية في عددها رقم (1537) الصادر في أيلول / سبتمبر 2024  حوارًا مميزًا مع الكاتب والمؤرخ الفلسطيني نواف جودة الزرو، الذي يُعتبر من أبرز الخبراء في شؤون الصراع العربي الإسرائيلي. الزرو، الذي وُلِد في القدس عام 1950، نشأ وتعلّم في مدارسها قبل أن يلتحق بجامعة بيرزيت لدراسة العلوم السياسية والاقتصاد. وخلال رحلته النضالية الطويلة، أُسر الزرو من قبل الجيش الإسرائيلي عام 1968 وحُكم عليه بالسجن المؤبد، ليقضي أحد عشر عامًا في المعتقلات قبل أن يتحرر في إطار صفقة تبادل الأسرى عام 1979.

الزرو ليس مجرد مؤرخ، بل هو شاهد على الأحداث وصانع لها، فعمل كمحرر للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية في صحيفة الدستور الأردنية منذ عام 1990، وتولى رئاسة قسم الأبحاث الفلسطينية والإسرائيلية، وكان له دور بارز كسكرتير تحرير الملف السياسي في الصحيفة. إلى جانب عمله الصحفي، انخرط الزرو في المشهد الثقافي والأدبي كعضو في رابطة الكتاب الأردنيين ونقابة الصحفيين الأردنيين.

في هذا اللقاء الذي أجراه معه  محمد أبو شريفة، مدير تحرير الهدف الشهرية الورقية، يتحدث الزرو عن تجاربه الشخصية في المعتقلات الإسرائيلية، وعن رؤيته الاستراتيجية لمستقبل القضية الفلسطينية، فضلاً عن إسهاماته البحثية والأدبية التي تتناول حروب إسرائيل ضد الشعوب العربية وقضايا اللاجئين والصراع على القدس. حوارٌ ثريٌّ بالكلمات والذكريات يضيء على زوايا متعددة من مسيرة كاتب ومفكر لا يزال يسهم في صناعة وعي عربي مقاوم.

1.حدثنا عن النشأة، وعن البدايات في العمل السياسي والنضالي، وما الدوافع التي أدت إلى اهتمامك بالبحث والتأليف؟ وهل من مؤلفات جديدة لكم سترى النور قريباً؟

سيرة ومسيرة طويلة تحتاج ربما إلى مجلد كبير، ولكن في هذه العجالة وبعبارات مكثفة أوضح بأن بداياتي السياسية والنضالية كانت في المدينة المقدسة حيث كان الاحتكاك المباشر مع جنود الاحتلال في القدس العتيقة، فبعد الاحتلال بأيام قليلة، وبينما كانت جرافاتهم تهدم حي باب المغاربة، كنت قد توجهت إلى هناك لمشاهدة ما يجري، فتقدم نحوي عدد من الجنود وانهالوا علي ضرباً مبرحاً لمجرد أنني كنت واقفاً أشاهد ما يجري، فكان هذا الموقف نقطة الانطلاق بالنسبة لي في الوعي والانتماء والعمل المسلح، فشاركت مع عدد من الأصدقاء الشباب المقدسيين بعدها بأسابيع في سلسلة من العمليات المسلحة في القدس وتل أبيب، وقد تم اعتقالنا بعد شهور من العمل، وتم الحكم على معظمنا بالسجن المؤبد مدى الحياة، إلى أن تحررت من الاعتقال في عملية النورس لتبادل الأسرى عام 1979.

أما عن الدوافع التي وقفت وراء اهتمامي بالبحث والتأليف، فهي ببساطة أنني ارتأيت وأنا في قلب الاعتقال أن الجبهة الثقافية-الإعلامية التوثيقية في غاية الأهمية في مواجهة مشروع الاحتلال، وأن العمل على الوعي العام وبناء الأجيال مهمة وطنية كبرى، لا تقل عن الجبهات الأخرى، وهكذا وأنا منخرط في هذا المجال الإعلامي-الثقافي-التوثيقي-التعبوي منذ أن تحررت وحتى لحظة كتابة هذه السطور. وعن مؤلفاتي فقد صدر لي حتى اليوم 27 مؤلفاً أهمها وأبرزها:

-1 الانتفاضة الفلسطينية الكبرى / 1988 صدر عن المؤسسة العربية للنشر والتوزيع/ بيروت.

2  - محمود درويش... وداعاً /أيلول/2008/ عن مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة / البحرين .

 -3الموسوعة الكاملة- الهولوكوست الفلسطيني المفتوح:

اختلاق إسرائيل وسياسات التطهير العرقي-2011- صدر عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.

-4 موسوعة: قراءات إستراتيجية في مستقبل الصراع العربي الصهيوني-2014.- صدرت عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.

 -5الموسوعة الفلسطينية الشاملة -من مجلدين-: مسيرة الكفاح الشعبي العربي الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني- حزيران 2016.

-6 موسوعة: القدس والمقدسات- من هرتزل حتى ترامب /2018.

7- موسوعة سجل النكبة: الهولوكوست الفلسطيني المفتوح- طبعة ثانية محدثة-2022.

8- موسوعة الهولوكوست الفلسطيني المفتوح- مترجمة للغة الإنجليزية-2023.

9- وأعكف حالياً على توثيق وإعداد موسوعة: هولوكوست القرن في غزة وخريطة الإبادة الصهيونية في فلسطين.

2. ما هي قراءتك للمسار الاستعماري الصهيوني لـ "أرض إسرائيل" وخريطة الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني؟

 في هذا الجوهر، ربما تكون شهادات وتصريحات كبار الحاخامات اليهود بشأن "أرض إسرائيل الكبرى" و"الكاملة" و"اختطاف فلسطين" واقتلاع الشعب الفلسطيني وتهجيره" هي الأهم والأخطر دائماً وخاصة في ظل هذه الحرب الإبادية الإجرامية على أهلنا في قطاع غزة والضفة الغربية.. وهي التي تشكل أساس وبوصلة السياسة الرسمية للدولة الصهيونية، ويربط أولئك الحاخامات بين الرؤية الاستعمارية الاستيطانية اليهودية و"أرض إسرائيل الكبرى" من منظورهم وخريطة الإبادة الجارية ضد شعبنا الفلسطيني..!

وفي هذا السياق وفي أحدث فتاواهم المرتبطة بالعدوان الإبادي على غزة، قال الحاخام الإسرائيلي اليميني المتشدد عوزي شرباف: "إنه يجب عودة الاستيطان إلى غزة كما أن كلاً من شبه جزيرة سيناء ونهر النيل أراض إسرائيلية"، مضيفاً خلال مؤتمر "الاستيطان في قطاع غزة"، الذي عقد بتل أبيب وبحضور أعضاء الكنيست، وفق صحيفة "هاآرتس الأربعاء 12-10-2023" أنه أمام إسرائيل فرصة تاريخية عظيمة لاستعادة أراضيها التوراتية مرة أخرى". وتابع: "غزة هي القضية وفي هذه المرحلة العظيمة لدينا فرصة تاريخية مع اقتراب مجيء المسيح، فنحن في أيام فتح لنا فيها فتح عظيم للاستمرار في تحرير أرض إسرائيل في جنوب البلاد في غزة وما حولها"، وقالت الصحيفة التي تنتمي للتيار اليساري المعارض للحكومة الإسرائيلية: إن مجموعة كبيرة من الحاخامات يرون أن كارثة 7 أكتوبر فرصة لإعادة الاستيطان في قطاع غزة إلى مجده السابق، ويحاولون ترويع الجمهور المستهدف". فيما قال مايكل بيكار، أحد زعماء المستوطنين: "إذا لم يكن هناك شخص مجنون، فلن يحدث شيء. أرى أن هناك الكثير من المجانين هنا ويجب استعادة أراضينا".

      كما انتشر في مواقع التواصل مقطع فيديو للكاتب الإسرائيلي آفي ليبكين، حيث توقع "أن تمتد حدودهم من لبنان للصحراء الكبرى أي السعودية، ومن البحر المتوسط إلى الفرات"، وفي مقطع الفيديو، قال ليبكين في تصريحات إعلامية: “أعتقد أن حدودنا ستمتد في نهاية المطاف من لبنان إلى الصحراء الكبرى أي المملكة العربية السعودية، وذلك بعد ضم مكة المكرمة والمدينة المنورة وجبل سيناء، ثم من البحر المتوسط إلى الفرات”، وأردف: “الموجودون على الجانب الآخر من الفرات هم أصدقاؤنا الأكراد.. إذاً لدينا البحر المتوسط خلفنا والأكراد أمامنا.. ولبنان الذي يحتاج حقاً إلى مظلة حماية إسرائيل وبعد ذلك أعتقد أننا سنأخذ مكة والمدينة وجبل سيناء- لندن ـ “راي اليوم”: Jan 11, 2024"

ليتبين لنا في ضوء كل هذه التصريحات التوراتية الموثقة أننا أمام أدبيات توراتية حاخامية صهيونية تتحدث عن "أرض إسرائيل الكاملة" من النيل إلى الفرات، ولتتحول هذه الأحلام التوراتية في زمن الصهيونية السياسية إلى أهداف وخطط ومخططات ومؤامرات صهيونية صريحة مدعومة من الغرب الاستعماري وفي صميمها اختطاف فلسطين كاملة من نهرها إلى بحرها، وإلغاء وجود الشعب الفلسطيني وشطب حقوقه كاملة في الوطن والتاريخ والسيادة...!

 في الحقيقة وميدانياً هم يجمعون ويعملون من أجل تحقيق هذه الأحلام التوراتية، بينما يحتاج الرد عليها وإحباطها إلى أوسع جبهة وطنية فلسطينية عربية عروبية حقيقية وفاعلة...؟!

3. يبدو أن حرب الإبادة الجماعية على غزة باتت محكومة بنظرية "حسم الصراع" بما يقتضيه من تطهير عرقي وتدمير للمكان توطئة للتهجير وذلك وفقاً لرؤية اليمين الديني الصهيوني المتطرف والتي انتقلت من عقيدة فريق إسرائيلي صغير إلى نظرية للكيان بكل مستوياته ومؤسساته، هل سنشهد تطبيق هذه النظرية في الضفة، والسير على خطى غزة في التدمير والتهجير والإبادة؟

   كثيرون سمعوا أو قرؤوا وكثيرون يتساءلون عن مضامين وجوهر ما اطلق عليها "خطة الحسم" التي أطلقها سموترتس وزير المالية الإسرائيلي وأحد الأقطاب الفاشيين الثلاثة (وكلهم فاشيون)إلى جانب نتنياهو وبن غفير، فيما يلي بعبارات مكثفة جوهر الخطة كما نقلها المحلل الإسرائيلي ناحوم برنياع- في"يديعوت 08-08-2023" قائلاً: "كتب ماو الكتاب الأحمر، وكتب موسوليني البيان الفاشي، وكتب ماركس رأس المال، وكتب لينين "ما العمل"، أما سموتريتش فوضع "خطة الحسم"، وتقول الخطة: سنضاعف السكان اليهود في "يهودا" و"السامرة". هذا يحصل منذ الآن: إن وزير المالية يعطي المال، والوزير في وزارة الدفاع يعطي الأدوات، ونقيم بؤراً على كل تلة وننكل بالسكان، وبعد ذلك نفكك السلطة الفلسطينية: فلتكن فوضى، الفوضى جيدة لليهود، وعندها نفتح أمام السكان ثلاث إمكانيات-خيارات: من يختار القتال يعتقل أو يقتل، من يختار الخروج يطرد، ومن يختار أن يكون تحت حكم الدولة اليهودية يكون مجرداً من الحقوق.

واضح تماماً أن هذه المضامين تمثل جوهر الصهيونية القائم على المجازر الجماعية أو التهجير الجماعي أو الاحتواء والإخضاع والتدجين بقوة الأمن والإرهاب على طريقة الجدار الفولاذي الجابوتنسكي.

ويمكن أن نعتبر أن المحرقة -الإبادة- الصهيونية الإجرامية التي تقترف بالبث الحي والمباشر ضد أهلنا في غزة تأتي في سياق هذه الخطة التي باتت تجمع عليها المؤسسة الصهيونية...!، في الوقت الذي تجمع على تطبيق مضامين هذه الخطة أيضاً في الضفة الغربية وهي الهدف الكبير بالنسبة لهم.

4. برزت تشكيلات جديدة للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، بدأت بكتيبة جنين، وتوالت بعدها عدد من المجموعات المقاتلة "عرين الأسود"، "كتيبة طولكرم" ، ثم "كتيبة بلاطة" و كتيبة "مخيم عقبة جبر". كيف تقرأ هذا النمط من المقاومة للاحتلال الإسرائيلي....؟

أعتقد أنه من الطبيعي أن تنطلق وتتطور المقاومة ميدانياً طالما حالة الاحتلال والمواجهة قائمة ومتصاعدة، وظهور التشكيلات الفلسطينية المقاومة مسألة طبيعية متطورة وهي تاريخية، بمعنى أن مسيرة النضال والكفاح الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني شهدت في مراحل سابقة أيضاً ظهور كتائب مقاتلة مثل كتائب "الفهد الأسود" والألوية الحمراء خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبعدها تابعنا أجهزة الأمن الفلسطينية التي تصدت لجيش الاحتلال وخاضت معه معارك كبيرة خلال انتفاضة الأقصى... وهكذا..!.

وإذا كنا نحن اليوم في ذروة "عهد الكتائب" المقاتلة فهذا يعتبر تطوراً كبيراً في نهج المقاومة الفلسطينية في مواجهة جيش ومستعمري الاحتلال، ونحن نتابع على مدار الساعة إبداعات الشباب الفلسطيني المقاوم.

وخلاصة القول عن الشباب والفتيات الفلسطينيين والفلسطينيات في كتائب اليوم: "أن الفكرة الأهم في هذه المقاومة المنتفضة، أنها كسرت فكرة أن هنالك جيلاً فلسطينياً يهزم، لأن الإسرائيلي منذ العام 1948 راهن على كسر إرادة الأجيال الفلسطينية، وفي كل مرة كان هنالك جيل يفاجئه ويطلق ثورة من نوع خاص، ترسّخ بقاء المقاومة في البيئة الفلسطينية وتحبط الإسرائيليين... فالإسرائيليون راهنوا على أن الجيل الفلسطيني الجديد هو جيل “أوسلو” لأنه في الضفة الغربية عاش في ظل وجود “دايتون” ، لكن العدو الإسرائيلي فوجئ بأن هذا الجيل يقاوم بكل ما أتيح له من قوة، ولا ينتظر أن يمتلك أدوات مميزة ليقاوم".

إذن، الحديث هنا عن جيل جديد من الشباب الذين يرتقون بعملياتهم إلى مرتبة الاستشهاديين، الأمر الذي دق جرس الإنذار لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ودفع كتابهم وباحثيهم ومحلليهم وكبار جنرالاتهم إلى التطرق إلى هذه الظاهرة.

5. الحرب على الضفة هي الأعنف والأكبر منذ عشرين عاماً ومن الملاحظ أنها تستهدف مدن ومخيمات الشمال، لماذا التركيز الإسرائيلي على شمال الضفة...؟

التصريحات المتكررة التي أدلى بها يسرائيل كاتس وزير خارجية الاحتلال حول "تدمير مخيم جنين على طريقة ما يحصل في قطاع غزة" إنما تأتي في سياق النوايا والمخططات المبيتة المعدة تجاه الضفة الغربية بكاملها، حيث إن المعركة الجارية المحتدمة على مدار الساعة على امتداد مساحة الضفة هي معركة حياة أو موت على الأرض والتاريخ والوجود، كما أن ما يجري على أرض الضفة الغربية هو بالتأكيد سطو صهيوني مسلح على الأرض والتاريخ والتراث، وهو انتهاك صارخ متواصل لكافة المواثيق والقرارات الدولية، واستخفاف بالأمة والدول والأنظمة العربية واحتقار سافر لها وللقوانين الدولية.. وما يجري تغطيه دولة الاحتلال بالقوة الغاشمة..!، ويمكن أن نقول إن تلك الدولة ترتقي إلى مستوى أكبر مافيا لسرقة الأوطان والأراضي والممتلكات على وجه الكرة الأرضية، فما يفعله الصهاينة في هذه الأيام على امتداد مساحة الضفة الغربية، أنهم يشنون حروبًا مفتوحة على الوطن والشعب العربي الفلسطيني، ويشنون حربًا من نوع خاص بهم على الأرض الفلسطينية، تستهدف الاستيلاء الكامل عليها من بحرها إلى نهرها على أنقاض شعبها وحقوقه التاريخية فيها.. وليس ذلك فحسب، فهم يغطون عمليًا السلب والنهب والسطو المسلح والجرائم بالأيديولوجيا والأساطير الدينية؛ فالحاخام ياكوف سافير يعبر عن ذلك قائلًا: “إن الانتقادات الدولية للاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية سخيفة، لأن الله هو الذي وعد اليهود بهذه الأرض وعلى العرب أن يرحلوا إلى مكان آخر”. ويضيف: “إن هذه الأرض هي أرض يهودية- إنها ديارنا".

وحسب الكاتب الإسرائيلي زئيف شترنهل في صحيفة “هآرتس فـ “إن توجه الحكومة الإسرائيلية في الضفة ينبع أساساً من نظرية الملكية الحصرية لـ “أرض إسرائيل”، وبحسب هذه النظرية فإن الدولة ليست قائمة من أجل ضمان الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والحياة العادلة للجميع، وإنما قائمة من أجل ضمان السيطرة اليهودية على “أرض إسرائيل” وضمان عدم قيام أي كيان سياسي مستقل آخر ويخلص إلى أنه لهذا السبب فكل شيء مسموح، ولا “يوجد ثمن أكبر من اللازم، و"في الضفة الغربية تحدث "معجزة"، كما قالت الوزيرة أوريت ستروك: تلة أخرى وبؤرة استيطانية أخرى وطرد آخر للتجمعات. الجيش يعمل جيداً، وهكذا مليشيات المستوطنين. من دون ضغط، دونم هنا ودونم هناك، القليل من العقوبات والقليل من الإدانة، وكل شيء على ما يرام. الفلسطينيون يتم علاجهم عسكرياً واستخبارياً. كل مسلح دمه مهدور، حتى لو كان في غرفة النوم، وفي قلب مخيم للاجئين. القيادة الفلسطينية بكل فصائلها لا يتم الشعور بها؛ هي مشغولة، وذهبت حتى الصين كي تجد صيغة للوحدة، التي لا أحد يعرف كيفية تطبيقها وتوزيع ما تبقى من الكعكة. مشهد بائس ومهين- جاكي خوري- هآرتس 31/7/2024".

   وحسب المعطيات الماثلة فإن عملية الاستيطان الجارية هي الأشد والأشرس والأقسى تاريخياً، فـ ”إسرائيل” تقيم في الضفة نظاماً كولونيالياً استعمارياً عسكرياً إسبارطياً، يحول المستوطنين إلى دويلة او إلى “إسرائيل-2″، يجعل من المستوطنين أسياد الأرض الحقيقيين، وتقول ورقة عمل لمركز الدراسات والسياسات “إن موجة التمدد الاستيطاني جزء من إستراتيجية شاملة لسلخ أكثر من 60% من أراضي الضفة عن الفلسطينيين”، ويرى الفريق الذي أعد الورقة “أن موجة التمدد -التي هي جزء من إستراتيجية إسرائيلية شاملة تجاه الضفة- هدفها حشر الفلسطينيين في حدود مدنهم وقراهم في منطقتيْ”أ” و”ب” وفق اتفاقيّة أوسلو، وسلخ أكثر من 60% من أراضي الضفة عنهم (وهي المشمولة في المنطقة “ج”) وأن إسرائيل -وبمحاكمها- تتصرف كأنها تقوم بعملية ضمّ للمناطق “ج” دون سكانه.

     إلى كل ذلك، بل وأبعد من ذلك، تتعامل دولة الاحتلال الكولونيالي في الضفة الغربية وكأن هذه الأرض-أي الضفة كاملة- جزء لا يتجزأ من ”أرض إسرائيل”، وعلى أنها تخضع للسيادة الإسرائيلية، لذلك ترخي العنان لمستعمريها وبلدوزراتها ليعيثوا فساداً وتخريباً وهدماً وتدميراً واستيطاناً في كل بقعة على امتداد مساحة الضفة، فهناك حرب حقيقية تستعر على الأرض في الضفة كان وصفها أوري أفنيري رئيس تحرير مجلة ”هعولام هزيه” سابقاً رئيس كتلة ”السلام الآن” في معاريف قائلاً:” إن الحرب الحقيقية تدور رحاها على الأرض في أنحاء الضفة الغربية والقدس، وأسلحتها تتكون من: الخرائط والقرارات، والأوامر العسكرية، وهي حرب مصيرية يتعلق بها مصير ومستقبل ملايين الفلسطينيين، فإما الحياة أو الموت”، وفي مقالة أخرى له نشرتها صحيفة معاريف يوم أكد أفنيري مـرة أخرى: ”أن مفاوضات التسوية الدائمة-التي جرت سابقاً- ستار من الدخان يتواصل خلفه النزاع الإسرائيلي_ الفلسطيني بكل عنفوانه، وتشن إسرائيل معركة حثيثة لترسيخ السيطرة الإسرائيلية في كل أرجاء الضفة الغربية، فما يجري على الأرض يفوق بكثير كل ما ينعكس في وسائل الإعلام، إذ تتواصل في كل أرجاء المناطق المحتلة، معركة ترمي إلى تحويل كل قرية أو مدينة فلسطينية إلى جيب منقطع محوط بمناطق سيطرة إسرائيلية، هذه ليست من عمل متعصبين مجانين، بل معركة مخططة جيداً تتواصل في عهد الليكود والمعراخ على حد سواء، والهدف منع كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية حقيقية مستقلة …

    ويجمعون في الكيان الإسرائيلي على استعمار الضفة الغربية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وجنرالاتهم يقولون: ”إن الاستيطان جزء لا يتجزأ من الأمن الكلي لإسرائيل، فمساهمة المستوطنات في أمن إسرائيل لا تقل أهمية عن القواعد العسكرية”، وهنا يتكامل الاستيطان مع الأمن في الرؤية الإسرائيلية .

لكل ذلك تحتاج فلسطين وتحتاج عملية التحرير والخلاص من براثن الاحتلال والتهويد إلى وقفة فلسطينية وعربية حقيقية -من قبل القوى الحية النابضة بالعروبة والعداء للمشروع الصهيوني- تعيد صياغة الخطاب السياسي والإعلامي وتعيد ترتيب الأوراق والأجندات السياسية الوطنية.

6. كيف يمكن فهم المجتمع الإسرائيلي الجديد؟ وما هي مآلات التحول في تركيبة المجتمع السياسي الصهيوني؟

الأسئلة الكبيرة التي تخالج ربما الجميع:

هل سيسقط نتنياهو وحكومته ويذهب إلى مزبلة التاريخ…؟!

وهل من الممكن أن تحترق "إسرائيل" وتنهار داخليًّا…؟!

وهل تذهبُ الأمورُ تجاهَ "حربٍ أهليّة" كما يحذّر ويتوقّع الكثيرون…؟!

    وقد يذهبُ البعض في قراءة هذا المشهد الإسرائيليّ الساخن ويقرأ المظاهرات المتصاعدة ضدّ نتنياهو، على أنّها ربّما تكونُ بدايةً لحربٍ أهليّةٍ تقودُ لتفكّك المجتمع والمشروع الصهيونيّ، وهذا حلمٌ يداعبُ الكثيرين، فالكثيرون راهنوا سابقًا وما يزال البعض يراهنون على تفكّك وانهيار المجتمع الصهيوني من الداخل، أو تفكك الجيش الصهيوني، أو أنّه قد يؤدّي في النهاية إلى قرارٍ إسرائيليّ بالانسحاب من الأراضي المحتلّة، لغاية توجيه المليارات المتوفّرة لإنقاذ تلك الدولة من الأزمات والضائقات الاقتصاديّة المتفاقمة، غيرَ أنّ الخريطة الإدراكيّة الصهيونيّة، وخريطة الرأي العام الإسرائيليّ تشيرُ إلى غير ذلك، فالخريطةُ الإدراكيّةُ الصهيونيّة، تربطُ ربطًا جدليًّا ما بين ثلاثة هواجس وجوديّة تهيمن على المجتمع الصهيوني هي: "الهاجس الديموغرافي وهاجس نهاية وجود إسرائيل دولةً يهوديّة، وهاجس حقّ العودة وتقرير المصير لملايين اللاجئين الفلسطينيين"، ويلاحظُ أنّ كلّ البرامج السياسيّة الأمنيّة والاستيطانيّة الإسرائيليّة من وحي هذه الهواجس الوجوديّة.

     لذلك، عملت القياداتُ والأحزابُ الصهيونيّةُ على تثقيف وتكوين وبلورة اصطفافاتٍ شعبيّةٍ وراء برامجها الاستعمارية، وسياساتها الحربيّة والاستيطانيّة، وتشيرُ استطلاعات الرأي العام الإسرائيليّ التي تنشرُ شهريًّا تباعًا، إلى شبه إجماعٍ على بقاء وتخليد الاحتلال للقدس والضفة الغربية، وإلى شبه إجماعٍ على عدم السماح بعودة اللاجئين، وعدم السماح بإقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّة... وغير ذلك... ولنا هنا في الاحتجاجات التي جرت عام 2011 عبرة... ففي الإجماع الصهيوني حول الاحتلال والاستيطان، تأتي شهادةُ عضو الكنيست المتنافسة على رئاسة حزب "العمل" آنذاك شيلي يحيموفيتش في مقابلةٍ مع صحيفة هآرتس 18/08/2011، حيث قالت: إنّها بالتأكيد لا ترى في مشروع الاستيطان خطيئةً أو جريمة، وإنّما عمليّةٌ هي محطُّ إجماع، وأن حزب العمل هو الذي "نهض بمشروع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وهذه حقيقةٌ تاريخيّة"، مضيفة "إنّها ترحّب بمشاركة المستوطنين في عمليات الاحتجاج"، معتبرةً مشاركتهم "إحدى نقاط القوة الأهم في عملية الاحتجاج من باب أنه لا ترفع هناك الشعارات السياسية التقليديّة، وإنما يوجد لغة جديدة، لغة توحد وتكتل الجميع".

   وتحت عنوان الاحتلال... الكلمةُ المحظورةُ في حديث الخيام، كان ألون عيدان كتب في هآرتس 14/8/2011، كاشفًا حقيقة الاحتجاجات التي ترفضُ ذكر الاحتلال فيقول: "لماذا يمنع الاحتجاج استعمال كلمة احتلال؟ لأنّه إذا قيلت هذه الكلمة، فسيقلُّ عددُ الناس المحتجين على نحوٍ حادّ، ولأنّه سينشأ عدمُ إجماعٍ عميقٍ وانشقاقٌ مدمّرٌ على أثره، سيجعل الانشقاق الاحتجاج سياسيًّا بالمعنى الحزبي وتتلاشى قوّته الشعبيّة"، مضيفًا "لهذا يجب أن نسأل ما هو عمل الاحتلال الآخر زيادة على كونه ضرورةً أمنيّةً أو تحقيقًا عقائديًّا، يبدو أنّه يمكن بحسب الاستنتاج نعم: فإذا كان لا يجوز أن نقول احتلال كي لا نقسم الجمهور ونضرّ بالاحتجاج بذلك، فينتج أن عمل الاحتلال أن يُقسم الجمهور وأن يضر بذلك بإمكانية الاحتجاج".

      وفي هذا الإجماع الصهيوني على الاحتلال والاستيطان، استخلص عالم الاجتماع الإسرائيليّ البروفيسور يهودا شنهاف من قراءته لمسار الاحتجاجات الإسرائيليّة "أنّها حراكٌ داخل الإجماع الصهيوني: عن عرب48 "05/08/2011"، وإنّها "احتجاجاتٌ وطنيّةٌ إسرائيليّةٌ وصهيونيّة، ومع كلِّ يومٍ يمرّ هناك أعلامٌ إسرائيليّةٌ أكثر وأكثر على الخيام، فالاحتجاجات المعادية للصهيونية لا تنجح في إسرائيل".

    ويبدو أن هذه هي الحقيقة الكبرى في المشهد الاحتجاجي الإسرائيلي اليوم أيضًا، فالاحتجاجاتُ الجذريّةُ لا تنجح، فلو أُجريَ استطلاعٌ للرأي العام الإسرائيليّ حولَ الانسحاب من القدس والضفّة الغربيّة، أو حول إقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة، أو حولَ حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم وممتلكاتهم المهوّدة، فماذا ستكون النتائج يا ترى…؟!

بالتأكيد سيكونُ هناك الاصطفافُ والتجييش الصهيونيّ الكبير من أقصى اليسار الصهيوني إلى أقصى اليمين الصهيوني، وراء لاءات نتنياهو الاستعماريّة -الاستيطانية-الارهابية-الاجرامية-والعنصريّة – الأبرتهايديّة.!

7. بين حرب الإبادة على غزة والاقتحامات في الضفة كيف يبدو حال القدس من حيث صراع الهوية والسيادة والمستقبل؟

في المشهد المقدسي:

-الاحتلال يقترف مجزرة حضارية مفتوحة في المدينة المقدسة ويحولها إلى مملكة توراتية في ظل فرجة وتطبيع عربي متواطىء.......

-والمعارك على أرض القدس: من حي لحي ومن بيت لبيت داخل البلدة القديمة وخارج أسوارها.

-وهناك عشرة أحزمة استيطانية وأكثر من 12 مخططاً استيطانياً جديداً تحاصر القدس وتلتف حولها.

- والاحتلال يشن أضخم حملة تزوير للتاريخ والتراث ويتحرك لإحكام قبضته الإستراتيجية على المدينة وإخراجها من كل الحسابات الفلسطينية والعربية والدولية...!

مرة أخرى نعود لنؤكد أننا أمام احتلال وحشي مجرم لديه مخططات اختطافية للقدس وفلسطين يستخدم أقسى الوسائل القمعية والدموية من أجل تحقيقها، ولذلك في المشهد المقدسي يمضي الاحتلال بتنفيذ مخططاته ومشاريعه التهويدية غير آبه بكل الأصوات والاحتجاجات المنددة، أو بالقرارات والمواثيق الأممية، وغير آبه على وجه التحديد بردود الفعل الفلسطينية والعربية، بل إنه يقوم بتمزيق ما يمكن أن يطلق عليه "دفتر القدس العتيق"، وبدأ بتمزيق أوراقه ورقة ورقة، وهو: "دفتر مجيد وعريق يروي حكايات المدينة، عروس المدائن، عبق التاريخ، وروح الأمة وقبلتها الأولى وبين دفتيه، قصص الأنبياء والرسل والقديسين، والشوارع والأزقة العتيقة التي تحمل آثار أقدامهم، وغبار سنابك خيل الفرسان العرب الذين حرروها من يد قوات الفرنجة، ويضم المقدسات الإسلامية والمسيحية التي يتوجها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وعندما تقلب صفحاته تسمع أذان المساجد وترانيم الكنائس وأجراسها، وعلى حواشيها ترتسم الأسوار كالصدر الذي يحمي القلب، والموشاة بأشجار الزيتون التي تحولت أغصانها إلى رمز للسلام، كما كانت مدينتها"، لقد فتح الاحتلال كل هذه الصفحات المضمخة بعبق التاريخ والإيمان وبدأ يمزقها، ويستبدلها بصفحات مزورة تحكي تاريخاً يهودياً أسطورياً، لا وجود له على وجه الأرض، ولا في أعماقها".

ونقول، إنها بلدوزرات الهدم والتجريف والمحو التي تقوم –بلا توقف- بتهديم المشهد المقدسي العربي- بمضامينه الإسلامية والمسيحية- لصالح مشهد صهيوني يزيف التاريخ والتراث، في ظل فرجة عربية عجيبة...

بالتأكيد، لن تتوقف دولة الاحتلال عن مخططاتها واختطافها لفلسطين والمدينة المقدسة في مقدمتها، إذا لم يستيقظ الجميع من عرب ومسلمين... وإذا لم يرتقوا إلى مستوى المسؤولية التاريخية والدينية والوطنية الحقيقية...؟!

8- لا يزال "اليوم التالي" لطوفان الأقصى غامضاً .. بتقديراتك هل سيذهب الطوفان إلى حرب إقليمية واسعة؟

     لقد أصبح واضحاً تماماً اليوم بعد نحو عام كامل من الحرب الإبادية الصهيونية على الشعب الفلسطيني أن كافة الأطراف الإقليمية والدولية لا ترغب ولا تريد في هذه المرحلة إشعال حرب إقليمية-عالمية واسعة النطاق، والتي ربما ترتقي إلى مستوى "الإبادية" للطرفين، وذلك على الرغم من النوايا الصهيونية المبيتة ضد حزب الله، فالإجماع العسكري- الإستراتيجي على ضرورة "التخلص من تهديدات حزب الله وتوفير الأمن للجبهة الشمالية الإسرائيلية"، كما أن المخطط الحربي الإبادي الصهيوني في هذه المرحلة هو الاستفراد بالشعب الفلسطيني وبالجبهة الفلسطينية دون الذهاب إلى حرب إقليمية.

9. وهل عملية طوفان الأقصى تتوافق ومصالح الشعب الفلسطيني الأعزل، ولا سيما أن ضرره على سكان غزة أكثر من نفعه حالياً...؟

في الحقيقة هذا سؤال كبير ودقيق وحساس ويحتاج إلى وقفة مراجعة إستراتيجية يعكف عليها نخبة من كبار المفكرين والباحثين، فمن الطبيعي جداً أن تكون هناك وقفة تقييم ومراجعة إستراتيجية للقرارات وتطور الأحداث والنتائج والعواقب والمسؤوليات، من أجل استخلاص الدروس والعبر التي تخدم مسيرة النضال والكفاح الفلسطيني.

10. كيف تقيّم أداء حركات المقاومة الإقليمية في المنطقة من إيران إلى لبنان إلى سورية إلى العراق إلى اليمن المساندة لغزة؟ .

أعتقد أن توسع نطاق المقاومة المساندة إلى المحيط العربي أصبحت قضية إستراتيجية تقلق المؤسسة العسكرية-الأمنية الصهيونية التي تعتبر أنها باتت تشكل خطراً وتهديداً وجودياً حقيقياً عليها أن تتعامل معه، وهي تجمع- أي المؤسسة الصهيونية- على أن "إسرائيل" لا يمكنها أن تتعايش مع وجود هذا التهديد الوجودي المتنامي، وخاصة من جهة الجبهة اللبنانية المشتعلة.

وهنا لا نستطيع إلا أن ننحني إجلالاً واحتراماً لجبهات المقاومة المساندة لغزة، ورغم ذلك أود أن أعرب عن اعتقادي أن فلسطين تحتاج إلى أكثر من جبهة مساندة متاخمة، فلو تحركت مثلاً كل جبهات المساندة في مواجهة شاملة منذ البداية لما نجح العدو بالاستفراد بغزة واقتراف الإبادة الشاملة ضد أهلنا هناك.

 11- برزت مؤخراً إلى العلن دعوات للتطبيع مع إسرائيل وظهرت أيضاً علاقات إسرائيلية – بعض عربية. كيف تقرأ انعكاساتها على النظام الإقليمي العربي؟

التطبيع العربي الرسمي الخطير جداً...جداً على القضية ومستقبل الأمة....!؟

"أَنَا يُوسُفٌ يَا أَبِي. يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي، لاَ يُريدُونَنِي بَيْنَهُم أَبِي. يَعتدُونَ عَلَيَّ وَيرْمُونَنِي بِالحَصَى وَالكَلَامِ يُرِيدُونَنِي أَنْ أَمُوتَ لِكَيْ يَمْدَحُونِي. وَهُمْ أَوْصَدُوا بَابَ بَيْتِك دُونِي. وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ".

لا نبالغ إن قلنا وثبتنا أن التطبيع العربي الرسمي مع "إسرائيل" ليس فقط يعني الهزيمة العربية الشاملة والاستسلام العربي الكامل أمام المشروع الصهيوني، بل يعني منح العدو غطاء كاملاً للإبادة التي يقترفها ضد شعبنا في غزة بالبث الحي والمباشر، كما يعني التخلي عن فلسطين وعن الشعب الفلسطيني وعن قضية الأمة، بل يعني أن العرب المطبعين غرسوا خنجراً مسموماً في ظهر الشعب الفلسطيني...!

والواضح أن هذه المحطة التطبيعية هي الأهم بالنسبة للكيان وتحقق له إنجازاً إستراتيجياً وتاريخياً لم يكن الآباء المؤسسون للصهيونية يحلمون به في يوم من الأيام، ولكنها المحطة الأخطر والأشد نكبوية بالنسبة لفلسطين الشعب والقضية....!

وهنا نعود مرة أخرى لجريمة التطبيع العربي الرسمي مع العدو المجرم لنقول: على الرغم من الإجماع الشعبي العربي المناهض للتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تجلى على نحو عظيم في المونديال الكروي في قطر ، إلا أن مسلسل الزيارات الرسمية الصهيونية لبعض العواصم العربية وانتشار فيروس التطبيع لم يتوقف، لذلك نعود لدراما التهافت التطبيعي العربي مرة ثانية وثالثة ورابعة، لأننا أمام انهيار للمناعة وللجدران العربية الرسمية وأمام تهافت تطبيعي عربي رسمي لم يخطر ببال آبائنا وأجدادنا أبداً...!.

ولعلنا نتساءل ربما للمرة الألف أو أكثر:

هل نجحت الصهيونية ومن ورائها الإدارة الأمريكية بزرع فيروساتها التطبيعية في الجسم الرسمي العربي...؟!.

أم أن هذه الفيروسات مزروعة منذ زمن طويل وحان وقت إعلانها-قطافها-....!؟

وخلاصة القول في المشهد: في ضوء هذا التهافت التطبيعي العربي مع العدو، يمكننا القول بمنتهى الوضوح، إن فيروسات التطبيع العربي هي فيروسات صهيونية زرعت في صلب هؤلاء الأعراب، إنه تطبيع عربي انهزامي غير طبيعي مع "إسرائيل" في زمن المجرزة الصهيونية المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، وفي زمن الحروب الاستعمارية الصهيونية-الأمريكية المفتوحة على فلسطين والأمة بكاملها......!

ونعتقد أن على كل القوى الحية القومية العروبية أن تستيقظ وتستنفر وتوحد جهودها في معركة واحدة رئيسة وهي التصدي لهذا الانفلات التطبيعي العربي الخطير جداً... جداً....!؟

12- هل ستستمر الهيمنة الأميركية على المنطقة؟ أم نحن مقبلون على عالم متعدد الأقطاب؟

تشير معطيات المشهد الإقليمي والدولي إلى أن الهيمنة الأمريكية على المنطقة نعم ستستمر في الأفق المنظور، على الرغم من صعود أقطاب عالمية أخرى مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية والهند وغيرها، فالاستفراد الأمريكي بمنطقتنا يبدو أنه مستمر بفضل حالة السبات العربي، فحتى تتراجع الهيمنة الأمريكية ويتفكك النفوذ الأمريكي في المنطقة لا بد من ظهور وصعود مشروع آخر بديل وهو المشروع القومي العربي النهضوي التحرري الذي نتفاءل ونأمل أنه آت لا محالة...!

13- برأيكم ما هو الدور المطلوب اليوم من جيل الشباب؟

في ضوء هذا التصعيد الإجرامي الصهيوني إلى مستوى الإبادة الشاملة ضد أهلنا في قطاع غزة، التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وفي ضوء هذه المجازر الجماعية والفردية التي تقترفها وحدات ونخب الاحتلال العسكرية الخاصة على مدار الساعة في مدن الضفة الغربية، وبالمقابل في ضوء هذه المعارك والملاحم الكبيرة التي يسطرها شباب فلسطين على امتداد مساحة الوطن، نعود لنوثق بمنتهى الوضوح والثقة والإيمان: إن الجيل الفلسطيني الجديد المشتبك مع الاحتلال في كل مكان هو جيل المستحيل الذي أخذ يقلب كل الحسابات ويخلخل الأمن الصهيوني ويربك المؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية بكاملها، والذي يقود القضية الفلسطينية نحو أفق حقيقي للتحرير والخلاص من براثن الاحتلال المجرم، وعلينا الإيمان بالجيل الفلسطيني الجديد… الجيل المنتفض الثوري الشجاع والجريء الذي لا يهاب المواجهة حتى الشهادة، وهذا ما نشاهده ونتابعه في السنوات الاخيرة على امتداد مساحة الوطن المحتل، من غزة إلى جنين إلى نابلس إلى القدس وإلى كل الأماكن الفلسطينية خلال الشهور الماضية، حيث يتقاطر الشبان كالطوفان للتصدي لقوات ومستعمري الاحتلال المجرمين، وما العمليات البطولية الفذة التي ينفذها أيقونات هذا الجيل- مؤخرا سوى أمثلة ساطعة وقوية على ذلك.

وعن دور هذا الجيل الفلسطيني الجديد-الشاب- في هذا الكفاح، بل وفي المقاومة والانتفاضات، هناك زخم هائل من التقارير والمعطيات التي تتحدث عنهم وعن بطولاتهم وروحيتهم الاستشهادية، فالذي يحمل سكينه ويتوجه للجنود أو المستوطنين المسلحين ليهاجمهم وليطعنهم، فإنه يعرف مسبقاً أنه متوجه للاستشهاد حتماً، فيحمل روحه على راحته بمنتهى الجرأة والإقدام، والذي يتوجه إلى حاجز شعفاط وإلى بوابة مستعمرة “معاليه أدوميم” يعرف أنه ذاهب أيضاً للشهادة، وفي ذلك جاء في تقرير وصفي لهم: ”أنهم ولدوا من رحم انتفاضة الأقصى، وقد تسموا بأسماء شهداء الانتفاضة تيمناً ببطولاتهم وتضحياتهم، ترعرعوا على أنموذجين في الساحة الفلسطينية؛ أنموذج قهر المحتل وإجرامه منقطع النظير، وأنموذج البطولة والتضحية الذي يرفع الهمم ويؤجج نار الثأر والثورة في صدورهم”. وجاء في وصفهم أيضا: “أن هذا الجيل لم يرَ الذل، ولم يعرف المحنة ولم تقهره السجون الصهيونية، فقلبه قوي وجنانه شديد لم ينكسر، واثق معتد بنفسه، ثابت راسخ القلب، جيل فتح عينيه بعد الحلم على حروب الاحتلال العدوانية على الشعب الفلسطيني وعلى المعارك اليومية، وهذا الجيل هو من يصنع الثورة والانتفاضة، وهو جيل النخبة، وهو جيل الطعن في القدس والضفة، جيل لا يعرف الحسابات، ولا يتردد".

إلى ذلك، ووفق الوثائق والصحف والشهادات المختلفة، فإن الجيل الفلسطيني الرابع هو الذي يقف اليوم منتفضاً في مواجهة الاحتلال الصهيوني، مواصلاً الأجيال العربية الفلسطينية الأربعة التي سبقته في الميدان منذ نحو ستة و سبعين عاماً، ولكنه يكون الجيل الفلسطيني، ربما التاسع أو العاشر إذا ما أخذنا في الحساب أن التصدي العربي الفلسطيني، بدأ مع بدايات الاستيطان الصهيوني منذ عام 1878، مع إقامة أول مستعمرة صهيونية وهي “بيتح تكفا” على أراضي قرية الملبس الفلسطينية، ولذلك نوثق ونقول: ما أعظم وما أروع فلسطين في مسيرتها الكفاحية المفتوحة المليئة بالهبات والانتفاضات والثورات والتضحيات، هذه المسيرة التي تصدت وتتصدى للمشروع الصهيوني نيابة عن الأمة العربية: ثمانية – تسعة أجيال متتابعة تخوض الكفاح بلا تعب أو كلل أو يأس أو استسلام، يذهب جيل ليأتي الجيل التالي بعده، والجيل الثالث، فالرابع وهكذا، ليحمل الراية والرسالة والأهداف الوطنية التحررية، وها هو الجيل الخامس منذ النكبة والعاشر منذ نحو قرن وأربعين عاما كاملة، هو الذي يحمل الراية ويقود التصدي في الميدان في مواجهة جيش ومستعمري الاحتلال، ليضيف ملحمة كفاحية أخرى إلى جملة الملاحم التي سطرها الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة الصهاينة الغزاة.