Menu

 بعد قرن من وعد بلفور

فلسطين الديمقراطية على كامل التراب هي المصير المحتوم

بيسان عدوان

بلفور، موقع قدس

الهدف الإخبارية - فلسطين المحتلة

 

 "العدو لا يواجه رجالاً أو أسلحة فقط، بل يواجه فكرة ومشروعاً يقوده شعب يقاتل من أجل حريته وكرامته" - يحيى السنوار

بهذه الكلمات يلخص يحيى السنوار، قائد المقاومة في غزة، جوهر الصراع بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، صراع يتجاوز السلاح والقوة العسكرية ليجسد مقاومة من أجل مشروع تحرري. مشروع قوامه الحرية والعدالة على كامل التراب الفلسطيني، وهو المطلب الذي لم يتحقق منذ أكثر من قرن، منذ وعد بلفور الذي مهد لاحتلال فلسطين واستعمارها على يد الصهاينة.

قبل قرن، تحديداً في 1917، أصدر وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور وعده المشؤوم، متعهداً تأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين، في تجاهل تام لحقوق السكان الأصليين. لقد كان ذلك الوعد انطلاقة مشروع استعماري أوروبي جديد، محوره تهجير الشعب الفلسطيني وإحلال المستوطنين اليهود بدلاً منهم. ومنذ ذلك الحين، كانت كل محاولة لإنشاء دولة فلسطينية أو تحقيق الاستقلال الوطني منقوصة، مشوهة، ومستغلة لتعزيز الاحتلال وليس لإنهائه.

حاولت السياسات الدولية والإقليمية، عبر قرن من الزمن، الترويج لحلول زائفة، كان أبرزها حل الدولتين. لكن ما نراه اليوم يؤكد أن الكيان الصهيوني لا يسعى لأي سلام حقيقي، بل يعزز الفصل العنصري، ويوسع الاستيطان، ويمنع أي إمكانية لتكوين كيان فلسطيني مستقل. فحل الدولتين لم يكن سوى حيلة سياسية تهدف إلى تقسيم فلسطين وتثبيت سيطرة الاحتلال على أجزاء كبيرة من أراضيها.

فلسطين الديمقراطية: الخيار الوحيد لتحقيق العدالة

قبل عام من الآن، ارتفعت غزة بطوفان الأقصى، لتعيد تشكيل مسار المواجهة مع المشروع الصهيوني وتكشف الصراع بأبعاده الإمبريالية الجديدة. مجابهة شرسة، لا تقتصر حدودها على المساحة المشتعلة بنيران الطائرات والرصاص، لكنها تعبّر عن يقظة نضالية جديدة في مسيرة المقاومة، معلنةً بوضوح تصميم الفلسطينيين على نيل الحرية.

عبر التاريخ، كانت غزة كفيلة بإفشال كل مخططات الاحتلال رغم حملات الإبادة والتشريد. لم يستطع الاحتلال إخضاعها رغم كل وسائل القمع والعنف. ومنذ معركة عام 1917 حين احتلتها الجيوش البريطانية كبوابة للسيطرة على القدس وفلسطين، شكلت غزة رمزاً لتحدي الاستعمار، وها هي اليوم تعود لتذكرنا بدروس المعارك التي تجددت على مدى قرن، في ملحمة مستمرة ضد المشروع الصهيوني.

والآن، ومع تقهقر العدو الصهيوني واستمراره في إظهار عجزه، باتت كل الحلول الاستعمارية الأمريكية غير قادرة على دفن حلم العودة أو كسر إرادة الشعب الفلسطيني. وعود بلفور وإعلانات السيادة الإسرائيلية والحلول التفاوضية كانت محاولات مستمرة لخداع الفلسطينيين، لكنها لم تُسكت صوت المقاومة الذي لم ينقطع. فقد كانت صفقة القرن ومن قبلها مشاريع السلام ما هي إلا أدوات لتثبيت احتلال لا يستجيب لدعوات السلام، بل يعتمد على محو الوجود الفلسطيني التاريخي وإقامة دولة عسكرية في قلب الوطن العربي.

أما الرهان على التسويات السلمية، فثبت أنه لا يخدم سوى الكيان الصهيوني، الذي اتخذ من مشروع "حل الدولتين" أداة لتمديد احتلاله وتوسع مستوطناته في الضفة الغربية، إذ لا يسعى إلى حل الدولتين بقدر ما يهدف إلى السيطرة الشاملة وعزل الفلسطينيين. ومع مرور الزمن، كشف الواقع أن المشروع الصهيوني يستمد قوته من الدعم الإمبريالي الذي يهدف إلى تفكيك الوحدة العربية ومنع تطور المنطقة.

واليوم، وبعد صمود المقاومة الفلسطينية وعدم استسلامها رغم الإبادة الجماعية في غزة والتجويع الممنهج واتساع  رقعة الحرب التي تشنها دولة الاحتلال في عدة جبهات في معركة جديدة، يتضح للجميع أن المفاوضات والمقترحات لا يمكنها تحقيق العدالة، وأن المشروع الصهيوني قد تخطى حدود السيطرة، ليصبح مهووساً بمحو الهوية الفلسطينية كليًا. 

في ظل هذه الحقيقة، يصبح واضحاً أن فلسطين لن تنال استقلالها عبر التسويات، بل ستحتاج إلى دولة ديمقراطية تضم الجميع، على أرض فلسطين التاريخية، دولة تنتصر للعدالة وتزيل نظام الفصل العنصري،  بات الخيار الواضح والمطلب الأساسي هو إنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة على كامل التراب الفلسطيني، تشمل جميع مواطنيها، بغض النظر عن الدين أو العرق. هذا المشروع يمثل تحدياً حقيقياً للنظام العنصري الاستيطاني، وهو السبيل الوحيد لإنهاء الاستعمار الفاشي النازي.

الدولة الديمقراطية هي مشروع يعيد حقوق الشعب الفلسطيني المسلوبة، ويحطم أسس الاستعمار والتمييز العنصري التي يقوم عليها الكيان الصهيوني. هذا الخيار لا يقتصر على إنهاء الاحتلال، بل يهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة وحق العودة، وهو حق غير قابل للتفاوض أو التفريط.

عودة الحق لأصحابه: نحو دولة لا مكان فيها للمستعمر

إن الفلسطينيين لا يسعون لبناء كيان منفصل أو الانسحاب إلى جيوب صغيرة تسيطر عليها إسرائيل من الخارج. بل يسعون إلى استعادة أرضهم وحقوقهم بالكامل. الدولة الواحدة تعني أن المستعمر والمستوطن، الذي قام على تهجير الشعب الفلسطيني واغتصاب أراضيه، لن يكون له مكان في هذه الدولة الجديدة. هذا المشروع الوطني يقوم على رفض المساومة وعلى إصرار الفلسطينيين على السيادة الكاملة على أرضهم.

التجربة أثبتت أن كيان الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة، وأن المشروع التحرري يتطلب صموداً وتضحية، تماماً كما أكد السنوار بأن الفكرة هي القوة الحقيقية. المشروع الصهيوني بُني على فكرة، ومع مضي الزمن، بات واضحاً أن فلسطين الديمقراطية هي فكرة مضادة تمتد جذورها إلى وجدان كل فلسطيني، وتعبر عن إرادة شعب لن يتراجع عن حقه في العيش الحر والكريم.

المضي نحو دولة ديمقراطية واحدة على كامل التراب الفلسطيني لن يكون سهلاً؛ فالمقاومة والتحرر دائماً ما تواجه تحديات وصعوبات. من القوانين العنصرية التي يفرضها الاحتلال، إلى تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على الفلسطينيين، يواجه المشروع التحرري عوائق يومية. ولكن، كما أثبتت المقاومة المسلحة والسياسية عبر العقود الماضية، فإن إرادة الشعب أقوى من أي سلاح، وأن استمرار المقاومة بجميع أشكالها، هو السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق.

الشعب الفلسطيني الذي صمد في مخيمات اللجوء، وتحدى الحصار في غزة، ووقف بصلابة في مدن الضفة، ورفض التجنيد القسري في القدس المحتلة، هو اليوم أكثر إصراراً على تحقيق حلم الدولة الواحدة الديمقراطية. التضحيات الجسام التي قُدمت على مدى عقود ليست عبثاً، بل هي بناء لأساس متين لدولة فلسطينية تشمل الجميع.

المرحلة المقبلة هي مرحلة قرار حاسم، ويُختصر الخيار أمام الفلسطينيين بعبارة بسيطة: "إما نحن أو نحن". فالاختيار ليس بين خيارات متعددة، بل هو مصير محتوم لا بد من السعي لتحقيقه. لقد حاول الاحتلال، ومعه المجتمع الدولي، زرع اليأس بين الفلسطينيين، والترويج لفكرة أن التحرير الشامل مستحيل، ولكن الشعب الفلسطيني يثبت يوماً بعد يوم أن العدل قد يتأخر، لكنه لا يضيع.

المشروع التحرري لا يستهدف "التعايش" مع المستعمر، بل يستهدف إزالته وإنهاء وجوده كقوة احتلالية على أرض فلسطين. فلسطين الديمقراطية هي الخيار الوحيد الذي لا يقبل القسمة على اثنين؛ فهي دولة للعدالة، حق العودة، السيادة الكاملة، والمساواة بين الجميع.

 المستقبل " إما نحن أو نحن " والعدالة حتمية

إننا، وبعد مرور قرن على وعد بلفور، نقف اليوم أمام فرصة تاريخية لتحقيق حلم العودة والتحرر. العالم قد يتغير، وتوازنات القوى قد تختلف، لكن الحق في العودة والكرامة لن يتغير. لقد فشلت كل المحاولات لفرض تسوية سلمية تخدم الاحتلال وتهمش الشعب الفلسطيني، وآن الأوان للانتقال إلى مشروع لا يقبل المساومة أو التجزئة، مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني.

أن مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية هو المشروع الذي يتحدى الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني. فبينما يستند المشروع الصهيوني إلى الطرد والإقصاء، فإن الدولة الديمقراطية تقوم على مبدأ العودة والتعايش العادل بين جميع سكان الأرض التاريخية. لن يكون هناك مكان في هذه الدولة لمن ارتكب الجرائم ونكّل بالشعب الفلسطيني لعقود، ولن يتم التسامح مع أي مظاهر من مظاهر الاستعمار الاستيطاني. "إما نحن أو نحن"، فإما أن يستعيد الفلسطينيون أرضهم وحقوقهم، أو ستظل هذه المنطقة تعاني من الصراع والفوضى إلى أن يتحقق العدل.

هذا المشروع، الذي كان حلماً مؤجلاً لعقود، بات الآن ضرورة حتمية في ظل فشل حل الدولتين وتكشف حقيقة الكيان الصهيوني ككيان عنصري استعماري لا يمكن إصلاحه أو التعامل معه بسلام حقيقي. فحل الدولتين لم يكن يوماً سوى خدعة تهدف إلى تقسيم فلسطين وتثبيت مشروع الاستيطان على ما تبقى من الأرض الفلسطينية، معزولة ومجزأة.

لذلك، فإن خيار الدولة الواحدة الديمقراطية هو الخيار الجذري الذي لا يقبل أنصاف الحلول أو التنازلات. هو خيار يعيد الحقوق المسلوبة لأصحابها، وينهي فصلاً دامياً من الاحتلال والاستعمار. فهذا المشروع لا يُبنى على التهجير والتطهير العرقي، بل على العدالة وحق العودة والمساواة في وطن حر يسوده السلام.

الطريق قد يكون مليئاً بالتحديات، لكن إرادة الشعب الفلسطيني الذي صمد على مدى عقود أمام آلة القتل الصهيونية ستظل أقوى من أي مؤامرة أو مخطط. الشعب الفلسطيني اليوم لا يكتفي بحلم التحرير، بل يسعى إلى بناء مجتمع عادل ديمقراطي يضمن الكرامة للجميع، مجتمع يعيد للقدس مكانتها كعاصمة للحرية، ويعيد لكل قرية ومدينة فلسطينية هويتها التي حاول الاحتلال محوها.

إذن، ليست هذه الحرب سوى محطة جديدة نحو دولة واحدة، نحو فلسطين الحرة.

نشر هذا المقال بالتعاون مع موقع 180 تحقيقات