مَرّ أكثر من عام على انطلاق طوفان الأقصى (7 تشرين اول/ اكتوبر 2023)، وخلاله تعرى، ما جرى بأثر الطوفان وما بعده، أو محصلة، من مواقف ووقائع ومعلومات عن مؤسسات ومنظمات وحكومات لها صلة بالأمر، أو متداخلة بالمجريات، وأحدث في الوقت نفسه متغيرات ووقائع جديدة. وقد سميتها في وقتها طوفانات متوالية ومتوالدة من الطوفان الأساسي، طوفانات الطلبة، والوعد الصادق والغضب الشعبي العالمي والهدهد ومتوالياتها، وفرض الطوفان صورا أخرى لم تحصل قبله. وفي الوقت نفسه سجل الطوفان غضبا وحماسة في الحراك الشعبي، عالميا وعربيا. وفي كل هذه المتغيرات برزت أهمية الوقوف أمامها بوعي وتقدير موضوعي واستفادة منها في اغتنام الفرص منها ومواكبتها بما يخدم التقدم والتطور والتغيير، ومواجهة الهجمة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية وممارساتها النازفاشية (النازية والفاشية) الجديدة أو المتولدة منها، وكسر التحالفات الامبريالية، والصهيونية العالمية، والرجعية العربية، ومن يتخادم مع هذه التحالفات السوداء.
حصل خلال ذلك أيضا ما هو مواز للطوفان، في جبهتنا، ولكن في إطار السلب منه، عند الشعوب العربية وفي حدود الوطن العربي خصوصا وما أحاط به، تلخص في نجاح الإمبريالية وأداتها أو قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في منطقتنا، في اغتيال القيادات التي عولت عليها الشعوب في إطار الطوفانات المتتالية، وإثبات التفوق التقني والأمني والتجسس بكل أساليبه وتفرعاته، فقد خسرت الأمة العربية والإسلامية قيادات لها، كانت تلعب دورا كبيرا في إدارة الطوفانات، من جهة وحركة التحرر الوطني من جهة أخرى. ابتدأت من اغتيال القائد الفلسطيني الشهيد صالح العاروري في الضاحية الجنوبية من بيروت، وما عناه هذا الأسلوب وما قدمه من رسالة تحد، لم يؤخذ الحذر المرجو منها والاعتبار من تمكن العدو وقدرته على الوصول والتنفيذ بدم بارد، ومن ثم استطاع العدو أن يفجر أجهزة البيجر واللاسلكي العائدة لأعضاء في حزب الله أو المقربين منه، وأدى إلى إصابة أكثر من ثلاثة آلاف مستخدم لها بإصابات مؤلمة متنوعة، وهذه العملية خطيرة واختراق أمنى صارخ يثير أكثر من سؤال واستفهام واتهام. لحقه اغتيال الزعيم الفلسطيني، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، اسماعيل هنية، في العاصمة طهران، في فترة استشهاد رموز لبنانية في قيادة الجناح العسكري للمقاومة الإسلامية في لبنان، وطليعتها حزب الله، ومن ثم تمكن العدو الطبقي والسياسي والأمني للأمة والوطن من الوصول إلى القيادة المباشرة، الشهيد، القائد الأممي، السيد حسن نصر الله، وتلاه الشهيد السيد هاشم صفي الدين وبعدهما مباشرة جاء استشهاد القائد الفلسطيني، والمنظم لطوفان الأقصى والمتصدي للحرب العدوانية الصهيو غربية على غزة، الشهيد يحيى السنوار، كل هذا سجل نقاطا لصالح العدو وضربات متتالية لمحور المقاومة ضد محور الامبريالية الصهيوغربية، وتعمد بدم الشهداء وكاد يوزع خيبة كبيرة في طبيعة الصراع الدموي الذي يجري اليوم في المنطقة أساسا وفي العالم ضمن ارتداداته العلنية والسرية. رغم أن تلك القيادات لم تترك الساحات فارغة بعدها، بل قد غرزت جيلا مواصلا لدورها ومكانتها وموقعها الاستراتيجي في المقاومة والمواجهة والمجابهة، مع اعتراف وإدراك للفوارق في الإمكانات والمعدات والتقنيات والموازنات، وعلى صعد مختلفة، لكن منظومة الأعداء تفتقر لما عند محور الممانعة والمقاومة من وعي كبير بمهماته وقناعات إيمانية بمدد وعدد وسبل النصر العقيدي والروح الاستشهادي المميز والدافع المعنوي والقيمي في ثناياه.
جاء طوفان الأقصى ليجدد عدالة القضية الفلسطينية ومظلوميتها ويضعها أمام العالم، كما يعيدها إلى الوعي العربي والإقليمي، ويفضح بها هشاشة القاعدة العسكرية التي كرست ذاتها كقوة رادعة للأمة العربية ومن يتعاون معها، سواء من الأمم أو الشعوب. كما فضح الرد الوحشي على الطوفان ليس وحشية القاعدة الصهيوإمبريالية، الكيان الإسرائيلي الاحتلالي الاستيطاني التوسعي، وحسب، في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير الجماعي والتخريب والتدمير والهدم والسجن والاعتقال والأسر والاضطهاد والتجويع والحرمان، بل وعرى الحكومات الامبريالية والرأسمالية العالمية في ازدواجية المعايير والعنصرية والتناقض في قيمها وقوانينها ودساتيرها وادعاءاتها وخداعها وتضليلها وفشلها في التغطية والتعتيم والتشويش للوقائع والأحداث الدموية الماثلة والمنقولة بوقتها صورة وصوتا في الفضائيات وكل وسائل الإعلام والتواصل الإعلامي والاجتماعي.
ما المطلوب الآن؟، بعد كل هذا وبعد مرور تلك الفترة الزمنية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وباقي فلسطين وجبهات المساندة من حزب الله في لبنان، ومن أنصار الله في اليمن ومن الحشد الشعبي في العراق وسورية وفصائل مسلحة أخرى تتوجه بالسياق نفسه ورأي عام يسهم في مقاومة العدو الصهيو امبريالي في مختلف المستويات والمجالات، وتتحدى هذه الفصائل بقدراتها أكبر آلة عسكرية حربية عدوانية ومجمعات صناعية ولوبيات لها تأثيرها في القرارات المتداولة في العدوان والحرب القائمة وعالميا، بعد كل هذا يستعيد محور المقاومة بكل فصائله جاهزيته ودوره ومهامه المنوط بها، والتي يقوم بها عمليا.
يوضح الصراع الدموي القائم الآن في فلسطين، أبعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لأشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن يأتي بعدها بالتسلسل أو بالتقارب الجغراسياسي ويعكس أبعاد الهيمنة والمشاريع الرأسمالية والدول الامبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الاستراتيجي. وللأسف انعكس هذا الأمر سلبا أو تفشى ضعفا أو غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والإسلامي، في أغلب التيارات والاتجاهات والأحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه إلى السطح بشكل كارثي لا يخدم الأهداف والمناهج التي اقتنع بها وأنتج الإيمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي أدت إلى الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة.
يعيد الواقع الحالي التفكير بنظرية تقسيم الشعب والأمة العربية إلى تشكيلتين أو قسمين، إيجابيا وسلبيا، تقدميا ورجعيا، متطورا ومتخلفا، يؤدي نضالا أو عمالة، مقاومة ومجابهة أو خضوعا واستسلاما، أفقيا وعموديا، وتبدو هذه النظرية رغم قسوتها هي واقع الحال، اليوم، وتوشح المشهد السياسي والفكري والاجتماعي، وإنكارها لا يغير منها ولا يفيد في ترقيعها، وتظهر في المنظمات الإقليمية والأحزاب السياسية بتياراتها المختلفة والهيئات العامة والنقابات ووسائل الإعلام والاتصال وحتى داخل العائلة الواحدة، أو القبول في الفتنة والانشطار والتفتت وترويجها عموما، علنيا أو سريا، بوعي وإدراك أو بجهل وغباء، الأمر الذي يطلب من الجميع ومن يهمه الأمر أساسا، في القرار والقيادة والمسؤولية والحرص على الوجود في التأريخ مع التقدم والتطور أن يأخذها بجدية ويعمل من أجل إعادة البناء وإدراك حقيقة الصراع القائم والمهمات المطلوبة في التحرر الوطني والقومي بروح ثورية علمية تفتح الافاق وتعيد الثقة بالطاقات والإمكانات الكامنة في أمتنا ووطننا والحلفاء الذين تعهدوا ذات المنهج والطريق، وتتجاوز المصالح الذاتية والزبائنية الحزبية أو الجمود الفكري أو التحجر الثقافي، وهنا الوردة، فلنرقص معا.