كتب الرفيق مروان عبد العال
أتذكرون؟ عندما كانت كلمة فلسطين، كلمة محرّمة، هوية مشتهاة، مجرد لفظها خطأ ورايتها خطيئة، ولم يزدها هذا إلا إغراءً، ولم يزدنا إلا عشقاً؟ كانت الممنوع المرغوب! مثل النشيد والقسم، يؤديه التلامذة سراً داخل أسوار المدارس، وكم من معلم مدرسة اعتقل أو أبعِدَ عن المخيم بسبب أنه لقن الأطفال درساً في الوطنية الخارجة عن المنهج المقرر من سادة الأمم المتحدة!
حتى تنفس الجميع يوم ولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة وكانت انطلاقتنا كضرورة وطنية وقومية وأممية، ممتدة في الزمان والمكان وصار الفدائي يساوي فلسطين والمقاومة محورها فلسطين، فلسطين في كل شيء كهوية وانتماء وغاية وقضية حرية.
جيل النكبة وعندما ضاع الوطن، يعرف قيمة الوطنية كحاجة تعكس ماهيته الشخصية والاجتماعية والحقوقية، فكانت الهوية تحارب، تقطع رقاب ويسجن بشر، وتزهق أرواح! كانت الكلمة التي نتناقلها بيننا سراً كاللصوص.
فهناك من كان يخفي هويته الأصلية، فالانطلاقة هي ترجمة لفكرة الوطنية الفلسطينية، في البدايات تنافست الفصائل في إعلاء الهوية، وفاضت وثائقها وأدبياتها النظرية بتمجيد الوحدة الوطنية الفلسطينية، وبوحها بفلسطينيتها وأهدافها "الوطنية".
مع استدراك أن الوطنية الفلسطينية ليست "انعزالية" أو انكفاءً على الذات، لإنما وعياً للخصوصيات الوطنية التي قد تتناقض مع الهوية القومية، العام لا ينتهك فيها الخاص ولا يصادر الخاص يتكامل مع العام، وعياً وممارسة ثورية، نحتاجه من جديد في ظل:
أولاً : معاداة الفلسطينيين مثيرة للاشمئزاز من الناحية الأخلاقية وضعت مقابلها مقولة "معاداة السامية" كغطاء لممارسة أفظع أشكال العنصرية والتطهير والتمييز.
التجربة النضالية التاريخية، أظهرت أن "الفلسطينيزم / Palestinism " هي "أيديولوجيا" التحرر الإنساني بامتياز، تصارع - "الصهيونيزم Zionism "، والتي تمثل بالمقابل "أيديولوجيا" القهر والحروب والإبادة والهيمنة الرأسمالية والعنصرية والاستعمار على النظام الدولي.
ثانياً: الوطنية الفلسطينية، لأن الإنسانية لا تتجزأ، وتعبيرها المكثف بإنصاف الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة والعودة، ورفض التآمر الاستعماري لمنع ممارسة هذا الحق، وانتهاكات الصهيونية الوقحة للقانون الدولي والتهرب من محكمة الجنايات الدولية لتبرير ارتكاب الإبادة والعقاب الجماعي للفلسطينيين.
ثالثاً: الوطنية كقيمة أخلاقية لا تتجزأ أيضاً، مهما بدأ كفر الجغرافيا واستبداد التاريخ، وحتى مع طغيان الخطاب الفصائلي الفئوي على الخطاب الوطني، وكما يظهر في فقر الأدبيات الجادة الصادرة عنها التي تتهرب من الاسئلة الحقيقية عن سبب وضع الهوية التنظيمية في مواجهة الهوية الوطنية، تقديس الوسيلة على الغاية، ربما غياب الأجوبة عن الأزمة يفسر حالة التشتت والانقسام والتآكل الذاتي وحجم التراجعات.
لتنتصر الوطنية "الفلسطينزم"
سياقنا الفلسفي من الانطلاقة إلى الثورة والانتفاضة، فالطوفان، ثم إلى ارتداداتها الزلزالية على عموم المنطقة، فالشرق الأوسط الجديد الذي يخطط له المستعمر هو تفكيك الهوية الجامعة العربية ثم الوطنية، وتحويل بلادنا إلى جزئيات، وبدون الوطنية يسهل عليه هضم الأوطان..!
نحن نمسك براية الفلسطينية، الوطنية الحقّة المتصالحة مع عروبتها وإنسانيتها ومهما حصل، لأننا نقف في موقع الشمس لا في مدار القمر!، الفلسطينية ليست هوية إقليمية بل هوية نضالية، وطنية وقومية وروحية وإنسانية، تنتصر لمن ينتصر لها ويناصرها ويساندها، ومنها تستمد الوطنية ومعنى الحرية، لأنها تستحق انطلاقنا وصمودنا ومقاومتنا وطاقتنا ووحدتنا وشموخ إرادتنا، وبها نحفظ نُبل الحق وقوة الوجود وشرعية البقاء والعطاء.