Menu

تحليلمعطلات النّهوض العربي الرّاهن

د. سامي الشيخ محمد

كتب د. سامي الشيخ محمد

    تستهدف هذهِ الدّراسة تشخيص الواقع العربيّ بجوانبهِ المختلفة ووضع الحلول المقترحة للمشكلات المزمنة الّتي يُعاني منها، فثمّة حقائق تتعلّق بتخلّف العرب عن الالتحاق والمشاركة في بناء الحضارة الإنسانيّة المعاصرة ينبغي التوقّف عندها، بهدف الإفادة منها في إطار السّعي لاكتشاف السّبل المؤدّية للنّهوض العربيّ، والتّفاعل مع هذه الحضارة بما يعيد للعرب مكانتهم التّاريخيّة المفقودة منذ قرون خلت، فالحديث عن الواقع العربيّ المأزوم، وسبل النّهوض به من أهم الموضوعات الّتي شغلت أذهـان المفكّرين العرب منذ منتصف القرن التّاسع عشر حتّى يومنا هذا، نتيجة لحالة التّخلّف والانحطاط والجهــل والضّعف والتّبعيّة والتأخر، الّتي نعيشُها، وعجزِنا عن مواكبة التطوّر المتلاحق والسّريع للعديد من دول العالم.

   إنَّ الاعترافَ بعجزنا وبالمشكلات المُعطّلةِ لنهوضنا - وهي في معظمها مشكلات داخليّة لا علاقة للعالم الخارجيّ بها- يُشكِّلُ خطوةً ضروريّة للخروج من أزمتنا الرّاهنة بأقلّ التّكاليف، واللّحاق بالحضارة الإنسانيّة المعاصرة. فالاعتراف بالعجز عن حلِّ مشكلاتنا وتجاوز أزماتنا المُعَطّلة للنّهوض يُعدُّ أوّل درجات الخلاص ممّا نحنُ فيهِ، فقد أصبحنا خارج مضمار صناعة التّاريخ، وفي أحسن الحالات على أطرافهِ، نرقب التقدّم الحضاريّ للأمم المتمدّنة بروح اللاّمبالاة أو الأسف والنّدم، لأنّنا كنّا ذات يوم صانعين للتّاريخ منتجين له، ولم نعد اليوم كذلك: فرفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وفرنسيس فتح الله مراش، وبطرس البستاني، وسليم البستاني، وأمين البستاني، وأديب اسحق، وأحمد فراس الشّدياق، وناصيف اليازجي، وإبراهيم اليازجي، ورزق الله حسني، ويعقوب صرّوف، وفارس نمر، وعلي مبارك، وجرجي زيدان ،وعبد الله نديم، وشبلي شميل، والشّيخ رشيد رضا، وفرح أنطون، وسليم بو حاجب، ومحمد بيرم الخاسي، وبشير صغار، إلى عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد كرد علي، وعبد الحميد الزهراوي، وأمين الريحـاني، انتهاءً بالمفكّرين المعاصرين: علي عبد الرّازق، ولطفي السيّد، وسلامة موسى، ومصطفى كامل، وجبران خليل جبران، وزكي الأرسوزي، وطه حسين، وعبّاس محمود العقّاد، ومحمد حسنين هيكل، ومحمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وساطع الحصري، وزكي نجيب محمود، ويوسف كرم، وعثمان أمين، وعبد الرحمن بدوي، وعبد العزيز الحبّابي، وكمال يوسف الحاج، وحسين مروّة، ومهدي عامل، وهشام شرابي، والطيّب تيزيني، وحسن حنفي، وحسن التّرابي، وصادق جلال العظم، وعبد الله عبد الدّايم، وعلي حرب، و أحمد برقاوي، ويوسف سلامة، وعبد الله النّفيسي، وآخرون، انصبَّ جهدهم على تشخيص الحال العربي ووضع تصوراتهم الفلسفية والسّياسيّة ووصْفاتِهِم العلاجيّة لتجاوز حالة الضعف والتمزق والتّخلّف والتبعية، والانتقال بالأمّة العربيّة إلى مصاف الأمم المتقدمـة الرّاقية، بوصفهـا ذاتاً قوميّة لها إسهامات كبيرة في صنع الحضارة الإنسانيّة في برهاتٍ تاريخيّة معيّنة .

  ثمّة أسئلةٍ تطـرح نفسها بقوّة: ما المعوّقات الّتي تحول دون تحقيق نهوضٍ عربيٍّ تّقدّميٍّ فاعلٍ وملموس؟ وهل بوسعنا تحقيق نهضة عربية معاصرة تباري نهضة الأمم المتقدمة؟ ومن أين نبدأ؟ .

    من شأن نظرةٍ فاحصةٍ لواقعنا العربيّ إظهار نوع وطبيعة المعوّقات المعطّلة لنهوضه وتقدّمه، تلك المعوّقات تنقسم إلى: معوّقاتٍ داخليـة ومعوّقاتٍ خارجية، أمّا الداخلية فتتمثّل في: عجز الـوعي بالواقع، الفساد السّياسي والاجتماعي، الفساد الاقتصادي، عجز النّظام القضائي، الفساد الإداري، الفساد الدّيني والأخلاقي، عجز النّظام التّعليمي، وعجز النّظام الثّقافي والإعلامي. وأمّا المعوّقات الخارجيّة فتتمثّل في: التّبعيّة السّياسيّة والاقتصادية والأمنيّة لمعظم الدّول العربيّة لصالح البلدان صاحبة القوّة والنّفوذ وعلى رأسِها الولايات المتّحدة الأمريكيّة. والعجز عن مقاومة المشروع الصّهيوني وقاعدته المتقدّمة في المنطقة العربيّة (إسرائيل).

المعوّقات الدّاخليّة:

أوّلاً: عجز الوعي بالواقع:

   من مظاهر هذا العجز: قصور الوعي عن إدراك حقيقة واقعنا، والتّحدّيات الّتي تواجـهنا حاضراً ومستقبلاً. فالعجـز عن النّفاذ إلى صميم المشكلات المصيريّة في حياتنا يسمُ وعيَنا بالسّطحيّة، ويجعلَنا نرقدُ في أسرّتنا نرقب رحمة السّماء بقدوم مخلّص منتظر، يتولّى حلّ مشكلاتنا الّتي عجزنا عن إيجاد حلولٍ عمليّةٍ ملائمةٍ لها.

   في ضوء ذلك هل في وسعِنا التّأسيس لواقعٍ جديدٍ باستخدام أدواتٍ متطوّرةٍ ومعايير حضاريّة متقدّمة؟‍! .

   لكي يصبحَ وعينا قادراً على تجاوز أزماته، وتحديد الأهداف الّتي نروم تحقيقها، والسّير بنا نحو التّغيير المنشود، ينبغي أن يكون وعياً نقديّاً، له القدرة على التّحليل والتّركيب والخلق والتّشخيص الدّقيق للمشكلات المعطّلةِ لنهوضنا وتقدّمنا .

   وواقع الحال أنَّنا بحاجة لصدمةٍ قويّةٍ توقظـنا من سباتنا، وتدفع بنا نحو التّفكير الجادّ والعمل الدّؤوب للنّهوض من كبوتنا الرّاهنة، والتأسيس لفكرة حضارية جديدة ملموسة الأثر، مستفيدين من تراثنا الحضاري، وتراث الإنسانيّة المعاصرة.

    ينقسمُ حديثنا عن إشكاليّة النّهوض العربيّ إلى قسمين متداخلين، الأوّل معوّقات النّهوض والثّاني مقوّمات النّهوض، من خلال تشخيصٍ دقيقٍ للمشكلاتِ المعطّلةِ لتقدّمنا، واكتشاف الحلول الصّحيحة لتلك المشكلات، وهذا ليس بالشّيء الهيّنِ واليسير.

ثانياً: الفساد السّياسي والاجتماعي والاقتصادي:

ثمّة أسباب منتجة للفساد السّياسيّ والاجتماعيّ العربيّ، أبرزها: غياب الحريّة بأوجهها المتعدّدة، والدّيمقراطيّة القائمة على التعدّديّة السياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، والمشاركة الفعليّة في النّظام السّياسي، والفرقة والانقسام، وعلاقة الدّولة بالمجتمع، والنّيل من العدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانيّة .

- الفساد السّياسي:

من أبرز مظاهر الفساد السّياسي في الوطن العربي:

1-  غياب الحريّة:

   الحريّة حقٌّ مقدّسٌ لجميع أفراد المجتمع حكّاماً ومحكومين، في ظلّ المواطنةِ وسيادة القانون، وبالتّالي فقَصر هذه الحرّيّة على فئة دون أخرى من شأنه أن يفضي إلى العبوديّة الّتي ليس في وسعها الإسهام في عملية البناء والنّهوض والتّنمية، فلكي يسهم جميع أبناء الوطن في تقدّمه ورفعته يتعيّن عليهم أن يكونوا متساوين في حرّيّاتهم المدنيّة والسّياسيّة، ناهيك عن أنَّ سلب حرّيّة الإنسان يتعارض مع الفطـرة الإنسانيّة الّتي يولد البشر بموجبها أحراراً، بل إنَّ من شأن سلـب حريته الإفضاء إلى الكراهية والحقـد والانتقام إزاء مَن ضيّق عليه حرّيته أو استلبها منه، الأمر الّذي يهدد وحـدة المجتمع وقوته وثباته وتقدمه، بأفدح الأخطار والعواقب .

    والسّؤال: هل بوسعنا النّهوض من كبوتنا الحضاريـة والّلحاق بركـب الحضارات المتقدّمة في الوقت الّذي نكابد فيه التّضييق علـى حريّتنا ؟ الحقيقة الّتي لا شكَّ فيها أنَّ الحريّةَ ضرورةٌ ملحّةٌ ينبغي العملُ على تجسيدهـا إلى واقعٍ حيٍ ملمـوس بوصفها لازمةً من لوازم النّهوض والتّقدّم . ولكـن ما أوجه الحرّية الّتي نحتاجُها؟ .

    ثمة أوجه للحريّة، أبرزها: الوجه السياسي، الوجه الاقتصادي، الوجه الاجتماعي، الوجه الثقافي. أمّا الوجه السياسي، فينصب على علاقة الحاكم بالمحكوم، والمحكوم بالحاكم، بوصفها علاقة دستوريّة، قائمة على مبدأي التعاقد الحرّ والاحتكام للدستور، واعتماد الوسيلة الديمقراطية ـ القائمة على مبدأ الانتخاب الديمقراطي الحرّ والنّزيه ـ في اختيار الحاكم وعزله، وأن يعطى الأفرادُ الحق في تشكيل واختيار الأُطر السّياسيّة والنّقابيّة والمجتمعيّة الّتي تعبِّر عن مصالحهم وأهدافهم الخاصّة في إطـار المصلحتين الخاصّة والعامّة، (الوطنيّة والقوميّة).والحريّة بالمعنى السّياسي هي الوصفة السّحريّة للتخلّص من التسلّط والاستبداد في المجتمعات الّتي يكون فيها نظامُ الحكم أوتوقراطيّاً يتصرّف في حقوق المواطنين والمجتمع دون ".. خوف تَبِعَةٍ أو احترام شريعةٍ إلهية أو قانون بشريّ " (1) .

   وأمّا الوجه الاقتصادي، فقوامهُ جعل النشاط الاقتصادي نشاطـاً حرّاً يفسح المجال أمام مشاركة جميع أبناء الوطن، بمعزلٍ عن احتكار أي فئة اجتماعيّةٍ لهـذا النشاط بمفردها، وعلى أساسٍ من العلاقة المتوازنة بين أفـراد النشاط الاقتصادي والدّولة بما يكفل تحقيق مصالح كـلٍ منهُما، من خلال المشاركـة المجتمعيّة الواسعـة في وضع القوانين والتشريعات الاقتصادية وتنفيذها، وهو ما نفتقد إليه في معظم البلدان العربيّة. آخذيـن بالاعتبار أنّه كلّما كانت القوانين والتشريعات عصريةً تعبّر عن مصالح المجتمع وتستجيبُ لمتطلبات التنمية شهـدت الحياة الاقتصادية نهوضـاً وتقدمّاً ملحوظين. أمّا الوجه الاجتماعي، فمعناه أن تكون العلاقة الاجتماعية بين الفرد ومحيطه الاجتماعي ابتداءً بالأسرة وانتهاءً بالمجتمع، علاقـةً حرّةً مسؤولـةً تنطوي على نبذ جميع أشكال القسر والإقصاء والاضطهاد، من خلال امتلاك حرية الرأي إزاء مجمل القضايا الاجتماعية، وفي هذا السّياق تعد المشاركة في الأنشطة الاجتماعيّة المختلفة لجميع أفراد المجتمع رجالاً ونساءً من مظاهـر الحريـة الاجتماعية المنشودة، كما أنَّ إعـادة النّظر في كثيرٍ من الطقوسِ والعـاداتِ والتّقاليد، بما ينسجم ومنطق التطور وروح العصر دون خوفٍ أو مهابة، مظهرٌ آخر من مظاهر الحرّيّة الاجتماعيّة، فثمّة مظهر من مظاهر التّخلّف والانحطـاط لا يزال قائمـاً في حياتنا الاجتماعيّة ينبغي التّخلّص منه بقوة وثبات، لأنّه في واقـع الأمر ليس مظهراً أصيلاً يدعونا للتمسّك به والعمل بمقتضاه .

    إنَّ من شأن الحريّة الاجتماعيّة تقوية الروابط الاجتماعيّة، وتفعيل الحوار الاجتماعي بين جميع أفراد المجتمع، دون النّظر للاختلافـات الاجتماعيـّة والاقتصاديّة والسّياسية والمذهبية والعرقيّة الثّقافيّة فيما بينهم، والاعتراف بالآخر من حيث هو كائن لا من حيث ما ينبغي أن يكون عليه، وهو ما تفتقد إليه معظم مجتمعاتنا العربية .

    أخيراً وليس آخـراً الوجه الثّقافي، الّذي يعد التنوع فيه مصـدر إثراء لثقافـة الأمّة وازدهـارها ، فمن حق كـل فرد أن يختار الثّقافة الّتي يريد، سواءٌ أكانت ثقافـة قوميّة أم دينيّة أم ليبراليّة أم غير ذلك، بمعنى ينبغي امتلاك حرّية الكلمة، والسّماح للأفكـار المتعارضـة بالظّهور، بعيداً عن الخـوف والاضطهاد والممانعة، على أساس الحرّيّة الثّقافيّة المسؤولـة الملتزمة بآداب النّقـد والنّقض والحذف والإضافة، والنّظر إلى اختلاف الأفكار والثّقافات على أنّهُ مصدر تنوّعٍ وإثراء في إطار الهويّة الثّقافيّة الواحدة ،فيصبح تقبّل الآخر تقبلاً جدلياً لا إلغائياً، قائماً على الاحترام المتبادل بما يمكّن المثقّف العربي الحرِّ لعـب دورٍ نهضويٍّ هامٍّ في نقده للواقع بهدف الارتقاء به نحـو الأفضل، في حين لا تزال كثير من الثقافات النخبوية في مجتمعاتنا العربية قائمة على مبدأي الإقصاء والإلغاء، ممّا يعقّد فرص الحـوار والتّفاعل فيما بينهـا وبين المجتمع من ناحية، والآخر من ناحية أخرى، ويهدّد الوحدة الثّقافيّة الوطنيّة والقوميّة. ناهيك عن أنَّ غياب الحريّة الثّقافيّة من شأنهِ تضييق مساحة الحوار بين الأفكار المختلفة والمتعارضة، وتهيئة المناخ لولادة الأفكار والحركات المتطرّفة الهادمة بغضّ النّظر عن مرجعيّتها الفكريّة، فتسود ثقافة رفض الآخر والتّعايش معهُ، والحضّ على ممارسة العنف والاستيلاء على ممتلكاته. فكلّما تجذّرت الحريّة الثّقافيّة في المجتمع واتّسعت مساحاتها، انحسرت الأفكار المتطرّفة واضمحلّت فاعليّتها، وفاعليّة المؤمنين بها، أفراداً وجماعات. من هنا تُعدُّ الحريّة الثّقافيّة بما تنطوي عليه من سماحٍ للأفكار المتعارضة بالظّهور والحوار، وإجازة النّظر العقليّ بموروثنا الثّقافي الاجتماعي والسّياسيّ والدّيني والأخلاقيّ وفاقاً لروح العصر، وصفة العلاج المبتكرة للتخلّص من التطرّف وأهلهِ، وتعزيز ثقافة الاعتدال والتّسامح، والتّعايش مع ثقافة المجتمعات الإنسانيّة على قاعدتي التّقاطع والاختلاف، والاحترام المتبادل .

2-  غياب الدّيمقراطيّة:

    تخضع الديمقراطيّة في العالم العربيّ لتقنين شديد يكاد يفقدها جوهرها وروحها، ناهيكَ عن القول بأنّها تفتقدُ أهم الأسس والمقوّمات الضّروريّة لوجودها وهي: المشاركـة الفاعلةُ، والتعددية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالنيل من المشاركـة والتعددية المذكورةِ من شأنه أن يحول دون تحقيق نهضة داخلية حقيقية، ويترك مصير المجتمع بأيدي القلّة السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية المسيطرة على مقاليد الحكم فيه، رغم أنَّ هذهِ الأقليّة أثبتت عجزها عن الاضطـلاع بمهمّة النهوض والتنمية منذ منتصف القرن العشرين ـ وما دون ـ حتى أيامنا هذه، فنجمَ عن ذلك أضرار فادحة بما في ذلك هجرة الكثيرين من أبناء الأمّة الموهوبين والمؤهلين إلى البلدان الغربية المتقدّمة، لأنّهم وجـدوا فيها المناخات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المناسبة للمشاركـة وتحقيق الّذات .

    كذلك يُلحظُ غياب وجود تعدّديّةٍ سياسيّةٍ اقتصاديّة فاعلةٍ في أنظمة الحكم العربيّة، وحصرها _أي أنظمة الحكم _ إمّا بالعائلة أو بالعشيرة أو بالحزب بمشاركةٍ ضيّقةٍ ومحدودة من جانب بعض القوى والأحزاب السّياسيّة المؤتلفة مع نظام الحكم القائم، رغم أنَّ الحاجةَ ماسّةٌ لبناءِ نظامٍ سياسيٍّ تعدّديّ، يُتيح المجال لمشاركة أوسع للأحزاب والقوى الممثّلة للطّيف السّياسيّ للمجتمع، على أساس التّمثيل النّسبي، وتحديد علاقتها بالدّولة والمجتمع، وبهذا الخصوص تبرز الحاجة لصياغة قوانين ناظمة لقيام الأحزاب وتشكّلها وحلّها.

   وبالتّالي فغياب الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعيّة في أرجاء كثيرة من الوطن العربي، ناجمٌ عن احتكـار السّلطةِ السّياسيّة من جانب بعض الفئات السّياسيّة والجهويّة، وحرمـان باقي فئات المجتمـع من المشاركة الفعلية فيها، الأمر الّذي يجعل من مهمـة تحقيق النّهوض الوطني والقومي مهمّـة عسيرة وشاقّة .

   ناهيك عن أنَّ استئثار بعض الفئات الاجتماعيّة _ ( سياسيّة أو جهويّة ) _ بالسلطة السّياسيّة، من شأنهِ جعـل السّلم الاجتماعي والأهلي داخل بلدانها مهدّداً بالخطر وعرضـةً للصّراع والتّناحر، ونشوء الأحقاد والكراهية والبغضاء، وتوفّر الظروف الملائمة لحدوث اختراقات خارجيّة معادية للمصالح الوطنيّة والقوميّة، ممّا يُضعِف المجتمع ويحول دون انخراط جميع أفراده في عمليّة نهوضه وتنميته وتقدّمه .

3-  الفرقة والانقسام:

   لا يخفى حجم الأثر النّاجم عن الفرقة والانقسام في العالم العربيّ، فقد أضعفـا الأمّة، وجعلاهَا نهباً للطّامعين والمستعمرين، وفرَضا عليها الذلّة والمسكنة والهوان والتبعيّة، وعمّقا روح الانعزال وال قطر يّة، بل إنّ واقع الحال بلغ بنا من السّوء حدّاً لا يبعث على التفاؤل، فمثلمـا أنّه يستحيل بعث الحيـاة في الأشلاء المبعثرة، فإنّه يستحيل نهوض الأمّة من كبوتـها الحضاريّة في ظلّ حالة الفرقة والانقسام، والضّياع، بخاصّة في زمن يشهد تكتلات اقتصاديّة وسياسية عملاقة بين مجموعـة الكيانات السياسيّة والاقتصاديّة العالميّة، فـلا يكون بوسع الأنظمـة الصّغيرة المبعثرة إلاّ الامتثال والخضوع لمشيئة تلك التكتلات اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاَ، الأمر الّذي يهـدد هويّتها الحضاريّة بالاندثار، ويجعلها نهباً للطّامعين، ومتخلّفةً عن الّلحاق بركاب الأمم المتقدّمة، من هنا ليس من سبيل لتجـاوز الأمّة أزمتها التّاريخيّة الرّاهنة، والنّهوض بحاضرها ومستقبلها، إلاَّ بالعمل على إعادة لحمتها وحشد طاقاتها في مواجهة عملاق العولمة المعاصر الّذي لا يوجد فيهِ مكاناً يستحقُّ الذّكر للضّعفاء والمساكين، بل يسحق كل الكيانات الصغيرة الّتي تعترض سبيله، وعليه فالفرقة بين الكيانات السياسية العربيّة اليوم، تنذر بالكارثة الّتي لن يسلم أحدٌ منها، آخذين بالاعتبار وجود بعض الأصوات العنصريّة والصّهيونية الّتي تنظّر إلى صـراع الحضـارات بين الأمم عوضاً عن حـوارها، صراعٌ يتصدّرُ العرب والمسلمون فيه المرتبة الأولى .

    لذا فالحاجةُ ماسّةٌ لإنهاء الفرقة والانقسام، وتعميق مفهوم الدّيمقراطيّة الّذي من مبادئه: التعدّدية السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة للعناصر المكوّنة للمجتمع، والمشاركة الفاعلة في إنتاج النّظام السيّاسيّ للحكم، وتحديد علاقة الدّولة بالمجتمع .

   بهدف تجميع طاقات المجتمع والإفادة منها في عمليّة النّهوض والتّنمية، والوقوف صفّاً واحداً في وجه الأطماع والتّهديدات الّتي يطلقهـا بعض سادات النّظام العالمي الجديد بين الفينة والفينة ضـد بعض الأقطـار العربيّة الّتي تنتهجُ سياسات وطنيّة وقوميّة تتعارض مع السّياسات الظّالمة للولايات المتّحدة وحلفائها، وفي مقدّمتهم (إسرائيل) .

4-  علاقة الدّولة بالمجتمع:

   علاقة الدّولة بالمجتمع واحدة من المشكلات المعطّلة للنّهوض والتقدّم في معظم البلدان العربيّة، فغياب تحديد طبيعة ومجال عمل كلٍّ منهما، أدّى إلى طغيان الدّولة على المجتمع وتهميشه من المشاركة الفعليّة في تقرير مصيره، رغم أنَّ مهمّة الدولة في الأصل رعاية المصالح المختلفة للمجتمع، وتوفير الأمن والحماية اللاّزمة لهُ، فالدّولة المجتمعيّة ديمقراطيّةٌ بطبيعتها باعتبارها ثمرة للتّعاقد الحرّ بين كافّة أفراده .

   والدّولةُ بوصفها جهازاً سياسيّاً وإداريّاً وقانونيّاً تُعنى بإدارة شؤون المجتمع والتّفاعل المثمر بينها وبين مؤسّساته وهيئاته المجتمعيّة المختلفة. وطبيعة العلاقة بين الدّولة والمجتمع تقوم أساساً على فكرة أنَّ الغاية النّهائيّة من وجود الدّولة هي خدمة المجتمع بكافّة أطيافه السّياسيّة والمذهبيّة والعرقيّة، فخدمة المجتمع والنّهوض به والعمل على تقدّمه هي الغاية الأساسيّة من وجود الدّولة، بهذا المعنى ليست الدّولةُ وثناً مقدّساً في حدِّ ذاتها، فهي مُنتَجٌ اجتماعيٌّ قابل للتّغير، بتغيّر المجتمع المنتج لها.

    وتتجلّى علاقة المجتمع بالدّولة المجتمعيّة، في أحسن صورها من خلال حرصه على التمسّك بها وتفاعلهِ الخلاّق معها باعتبارها ملكيّة عامّة لجميعِ أفراده، وُجِدَت لأجلِ رعاية مصالحهِ، والوقوف على خدمتهِ، من هنا فالمجتمع والدّولة في ظاهرهما كيانان مستقلّان وفي جوهرهما كيانٌ واحد . وبناءً على ذلك يُفسَّرُ حرص المجتمع على التمسّك بالدّولةِ من زاوية حرصه على التمسّك بذاته . وواقع الحال أنَّ الدّولة في العالم العربيّ كيانٌ مستقلٌ عن المجتمع، منزلتها من المجتمع بمثابة منزلة السّيّد من العبد، والحاكم بأمره من المحكوم بأمره، فلا سلطة فاعلة للمجتمع على الدّولة في العالم العربيّ، وعوضاً عن أن تكون الدّولة في خدمة المجتمع فإنَّ المجتمع يضع نفسه في خدمة الدّولة على أساسٍ غير متوازنٍ من العلاقة غير المتكافئة بينهما.

   بهذا المعنى الدّولةُ العربيّة المعاصرةُ أقرب للملكيّة الفرديّة والفئويّة الخاصّة منها للملكيّة المجتمعيّة العامّة، تضعُ نفسها في خدمةِ الفئة الحاكمة لا المجتمع، رغم الفوارق الموجودة بين بعض الكيانات السّياسيّة في العالم العربيّ. وفي هذا السّياق فقد وفّرت الدّولة في العديد من البلدان العربيّة المناخ الملائم أمام تشكّل جماعات ضغطٍ تتحكّم في صنع واتّخاذ العديد من القرارات الحكوميّة خدمةً لمصالحها المختلفة، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ إذ أخذت بعض هذهِ الجماعات في التحوّل من جماعات ضغط إلى جماعات ترعى الجريمة المنظّمة في بلدانها، على مرأى ومسمع من الدّولة والمجتمع. الأمر الّذي انعكس سلباً على علاقةِ الدّولةِ بالمجتمع في تلك البلدان، فأصبحت علاقةً مشحونةً بالتّوتّر مشوبة بالخطر، لعلّة عدم خضوع الدّولة للمجتمع في تشكُّلِها وأَدائِها، لذا تبرزُ الحاجة إلى وضع الدّولة في خدمة المجتمع، وليس في إخضاعهِ والحدّ من فاعليّته، بل لتفعيله والوقوف على مصالحه المختلفة. وهذا لن يتحقّق إلاّ بالشّروع الفوريّ بعمليّة إصلاحٍ سيّاسيٍّ شاملة، تعيد الدّولة للمجتمع بوصفه المصدر الرّئيس للسّلطات التّشريعيّة والقضائيّة والتّنفيذيّة .

-  الفساد الاجتماعي:

   ثمّة ما يدعو للإصلاح الاجتماعيّ في العالم العربيّ، فالكثير من الممارسات الاجتماعيّة الخاطئة بما في ذلك العادات والتّقاليد ، انعكاسٌ للوعي الاجتماعيّ المستمدّ من الموروث الثّقافي للمجتمع، الأمر الّذي يدعو إلى إعادة النّظر في الكثيرِ من العناصر المكوّنة لوعينا الاجتماعي، ووضعها موضع فحص عقليٍّ علميٍّ دقيق، بهدف التّخلي عمّا هو سلبيّ وضار وغير نافع فيها، وتطوير ما هو إيجابيٌّ ونافع بغية التّأسيس لوعيٍ مجتمعيٍّ حداثيٍّ معاصر، فمثلما للأفراد أعمارٌ محدّدة كذلك للأفكار والموروث الاجتماعيّ الثّقافيّ أعمارٌ محدّدة أيضاً، فمِن الأعمار ما يتجدّد عبر الولادة المستمرّة لأفراد النّوع، ومنها ما يندثر لعلّة عدم قدرتها على الانتقال والتّجدّد. ومن مظاهر الفساد الاجتماعيّ النّيل من العدالة الاجتماعيّة والكرامة الشّخصيّة .

 • النّيل من العدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانيّة :

   تُشكّل العدالة إحدى الركائز الضرورية للنهوض العـربي ،ولها أوجـهٌ متعدّدةٌ أبرزها: العدالة في توزيع الثروة، العدالة في توفير فرص العمل، العدالة في الاستثمار، والعدالة في علاقة الدولة بالمواطن والمواطن بالدّولة، على نحوٍ لا يقعُ فيهِ الظّلم والحيف على أيٍّ من الطّرفين على يد الطّرف الآخر، والسّبيل لتحقيق هذا النّوع من العدالة، وضع تشريعاتٍ قانونيّة تأخذ في الحسبان توازن الحقوق والواجبات بينهما، على أنّه من غير الممكن الحديث عن العدالة بين المواطن والدّولة والمواطنين أنفسِهِم إلاّ في ظلِّ سيادة القانون والقضاء، هذه السيادة الّتي يتساوى في ظلّها جميع الأفراد حكّاماً ومحكومين، ولا تخضع لأي تأثير سلبيٍّ من جانب السلطات التنفيذية وأجهزتها السياسية والأمنية والإدارية تحت أي ظرفٍ أو اعتبار .

    وعليه ينبغي أن تكون سيادة القانون سيادة فعليّة، وإلاّ تحوَّلت إلى سيادة شكليّة منفعلةٍ وقاصرة، وبالطبع فإنَّ السيادة الفعلية للقانون تشكّل القاعدة الماديّة للعدالة والشّرط الضّروريّ لتحقّقها، الأمر الّذي يؤدي إلى توطيد أواصر العلاقة بين المواطنين أنفُسِهِم من جهة والدولة من جهة أخرى، والعمل بروحٍ الفريق الواحد من أجـل تحقيق رفعـة الوطن والأمّة .

   والسؤال الّذي يطـرح نفسه: هل يحظى المواطنون العرب بالعدالة الاجتماعيّة في أوطانهم؟ وهل بوسع من لا يحظون بها الإسهام في نهوض الوطن والأمّة ؟. بالطبع تتفاوت الإجابة من بلدٍ عربي لآخر، لكن واقع الحـال لا يبعث على التفاؤل في معظم البلدان العربية. ناهيك عن القول بأنَّ المظلومين والمقهورين والمنبوذين غيرُ مؤهّلين للإسهام في نهضة بلادِهِم وأُمَّتِهِم، قبل أن يرتفعَ الظّلم والجور والقهر والنّبذ عنهم، فَيُعادُ الاعتبارُ إليهم والعملُ على تأهيلِهِم للاضطّلاع بمهمّةٍ نبيلةٍ كهذه .

   كذلك يعدُّ النّيل من الكرامة الشّخصيّة والوطنيّة والقوميّة ، من بين الأسباب المعطّلة للنّهوض العربيّ، فطالما أنَّ البشر وحدهم صانعو تاريخهم وحضاراتهم ، فإنَّه يتعيّن على بلدانهم صون كرامتهم، لا النّيل منها، فكرامة الإنسان جوهرُ وجودهِ من النّاحيتين الإنسانية والأخلاقيّة، وبدونها يتعذّر الإفصاح عن مواهبه وقدراته وإبداعاته المختلفة، ومشاركته الفاعلة في النّهوض المنشود، ناهيك عن القول بأنَّ النيل من كرامة الفرد من شأنه أن يدفع به إمّا إلى السّقوط الذّاتي والسّلبيّة، وإمّا إلى الثّأر ممّن تسبّب في حدوثه، فيحلّ الانتقام والثّأر، بدلاً من الاحترام والتّعاون . وبالطّبع فالكرامـة ليست معزولة عن الحرّية والديمقراطية والعدالة، فالفرد لا يشعر بكرامته، إلاّ إذا كان حرّاً، ومشاركاً ومُنْصَفَاً . والسؤال : ألا يعاني المواطن العربي من عَوَزٍ مقلقٍ في كرامته بفعل الاعتداء المتكرر عليها؟ في ضوء الإجابة علـى هذا السّؤال يصبح بالإمكان التأكّد من جدوى الحديثِ عن تعزيز كرامة الفرد وصونها، وأثر ذلك على المشاركة في عمليّة النّهوض الشّامل للوطن والأمّة . ومّما لا شكَّ فيه أنَّ عمليّة الإصلاح الاجتماعيّ تستغرق وقتاً طويلاً وتحتاج إلى جهدٍ مُكثّفٍ ومركّب، يشترك فيه الفرد، والأسرة، والمجتمع بمؤسّساته التّربويّة والتّعليميّة والثّقافيّة والإعلاميّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة المختلفة .

-  الفساد الاقتصادي:

   يتبدّى فساد النّظام الاقتصادي العربي في العديد من المظاهر، أبرزها : انتشار البطالة والفقر، التّخلّف الصّناعي التّقني، تخلّف التّشريعات والقوانين الاقتصاديّة، سوء توزيع الثّروة، انتشار الفساد على نطاقٍ واسع. وهجرة العقول والأيدي العاملة العربيّة خارج بلدانها .

 1- انتشار والبطالة الفقر:

   رغم وفرة الثّروات الاقتصاديّة والخيرات الطّبيعيّة في وطننا العربيّ، نلحظ انتشار ظاهرتي البطالة والفقر على نطاقٍ واسعٍ، فأعداد المواطنين الّذين يعيشون في فقرٍ مدقعٍ وبطالة فعليّة مؤشّرٌ مُقلِقٌ وخطير في معظم البلدان العربيّة ذات الكثافة السّكّانيّة المرتفعة، والأسبابُ المنتجةُ لهذهِ الظّاهرة: احتكار ثروات البلاد ومقدّراتها لصالحِ فئة قليلة من الأفراد، فالسّمةُ العامّة لرأس المال العربيّ أنَّه رأس مال أفرادٍ لا مجتمع، يستوطن أسواق المال والاستثمار والبنوك الأجنبيّة بنسبةٍ كبيرةٍ منه، ناهيك عن سوء إدارة الموارد العامّة للبلاد وعدم توزيعها توزيعاً عادلاً بين المواطنين، وتخلّف القوانين والتّشريعات الاقتصاديّة عن مواكبة روح العصر، الأمر الّذي انعكسَ سلباً على حركة الاستثمار الدّاخليّ والخارجي في كافّة المجالات فأضعفها بدرجةٍ كبيرة.

   وفي هذا الشّأن تجدر الإشارة إلى الدّور التّنمويّ للثّروة في المجتمعات الغربيّة والرّأسماليّة، بوصفها ثروةً قوميّة عامّة، خلافاً لِما هو عليهِ الحال في معظم مجتمعاتنا العربيّة، الأمر الّذي أدّى إلى إفقار البلاد والعباد . ولعلَّ العلاج الملائم للتخلّص من انتشار ظاهرتي البطالةِ و الفقر يكمن في إعادة توزيع الثّروة توزيعاً عادلاً باعتبارها ثروةً وطنيّة عامّة لا خاصّة .

 2- التّخلّف التّقني :

   العرب متخلّفون تقنيّاً، وهذا لا يحتاج للإثبات، فمظاهر التخلّف في هذا المضمار بادية بوضوحٍ وجلاء، أبرزها : عجزنا عن صناعة الأدوات الخفيفة والثّقيلة، الدّقيقة والمعقّدة، ابتداءً بالإبرة وانتهاءً بالآلات والمعدّات، والفضل في توفير المنتجات التقنيّة: الإبرة، المفتاح ،الدّرّاجات الهوائيّة والنّاريّة، السّاعة، الرّاديو، التّلفزيون، التّلفون، الكمبيوتر، أجهزة الاتّصال، المعدّات الطبيّة والصّناعيّة، السيّارات، الطّائرات، المركبات الفضائيّة، والصّناعات العسكريّة المختلفة، يعود للبلدان الأجنبيّة المتقدّمة .

   من هنا يحتاج الوضع الاقتصادي في العالم العربي إلى عمليّة إصلاحٍ شاملة تستهدف، تفعيل الحياة الاقتصاديّة والنّهوض بها، بالشّروع في اتّخاذ العديد من الخطوات العمليّة كتوزيع الثّروة الاقتصاديّة توزيعاً عادلاً بين أفراد المجتمع، تشجيع الاستثمارات الرّأس ماليّة الماليّة للرّأس مال العربي والأجنبي في الميادين الاستثماريّة المختلفةـ صناعة، زراعة، تجارة، اتّصالات، خدمات، سنّ التّشريعات والقوانين اللاّزمة لتشجيعِ وحماية الاستثمارات المحليّة والخارجيّة في البلدان العربيّة والأجنبيّة، إطلاق يد القطّاع الخاص في عمليّة البناء الاقتصادي والحدّ من التدخّلات السّلبيّة للدّولة في حركة السّوق الاستثماري على أراضيها، خصخصة مؤسّسات القطّاع الحكوميّ للدّولة بهدف الانتقال بها من الخسارة إلى الرّبح عبر تحسين إنتاجها وأدائِها الاستثماريّ الصّناعيّ والزّراعيّ والماليّ .

    فواقع الحال يشير إلى مستوى متدنٍ للسّوق الاقتصاديّة العربيّة، فالتّخلّف الصّناعي التّقنيّ، وسوء الاستثمار الزّراعي والتّجاري، والتّهافت على ميدان الصّناعات التّحويليّة والغذائيّة البسيطة، والتدخّل السّافر للدّولة في العمليّة الاقتصاديّة الاستثماريّة، وعجز التّشريعات والقوانين الاستثماريّة غير المتطوّرة والمنافِسة، عن تفعيل رأس المال المحليّ واستقدام رؤوس الأموال العربيّة الطّائلة من البنوك وأسواق المال العالميّة، وتحفيز رأس المال الأجنبيّ للاستثمار في البلدان العربيّة، وانتشار المديونيّة والفساد في المؤسّسات الاستثماريّة الحكوميّة، من أبرز معوّقات النّهوض الاقتصاديّ العربيّ بوصفهِ الأساس الماديّ لقيام نهضة عربيّة معاصرة فاعلة .

3-  هجرة العقول للبلدان الأجنبيّة:

   نتيجة لارتفاع معدّلات الفقر والبطالة، والاستخفاف بالعقول والكفاءات العلميّة والتّقنيّة، وانعدام تكافؤ الفرص وتحقيق الذّات، يضطرّ الكثير من المبدعين وأصحاب الكفاءات العرب إلى الهجرة الخارجيّة للبلدان الأجنبيّة، فيحقّقون نجاحاً لافتاً فيها، الأمر الّذي يحرم مجتمعاتنا العربيّة الإفادة من تلك الطّاقات التنمويّة الخلاّقة، وبطبيعة الحال فهذهِ الطّاقات لا تحظى باهتمام الحكومات العربيّة، بما يؤدّي للمحافظة عليها واستثمارها في النّهوض والتّنمية الشّاملة. فحتّى هذهِ اللّحظة تعدُّ البلدان العربيّة بلداناً طاردة للموارد البشريّة في الوقت الّذي تعدُّ فيهِ البلدان الأجنبيّة بلداناً جاذبةً لها .

   إنَّ عدم مبالاة الدّول العربية بالعقول المبدعة وأصحاب الكفاءات في بلدانها، نتيجة طبيعيّة للطبيعة الانعزاليّة لهذه الدّول في علاقتها بمجتمعاتها، والحلُّ لهذهِ المشكلة يكمن في تغيير الطّابع الانعزاليّ لها، والأسس والمبادئ الإداريّة والقانونيّة النّاظمة لعملها، بحيث تصبحُ الدولةُ دولةً لكلّ مواطنيها، فبدولة المواطنة تتغيّر الصّفة الاجتماعيّة والقانونيّة للسكّان باعتبارِهِم مواطنين لا رعايا، يتمتّعون بكافّة الحقوق والواجبات في ظلّ العدالة والمساواة وسيادة القانون .

4-  عجز النّظام القضائي:

  يتمثّلُ عجز النّظام القضائي في تبعيّة السّلطتين التّشريعيّة والقضائيّة للسّلطة التّنفيذيّة، فثمّة خللٌ يعتري الجهاز القضائي العربي بأنظمته وأدواته وقوانينه وتشريعاته وأساليبه المختلفة، كنتيجةٍ موضوعيّة لفساد النّظام السّياسيّ العربيّ ذاته . وتدخّله المباشر وغير المباشر في عمل هذا الجهاز، بكافّة مستوياته .

   فخلافاً لما هو عليهِ الحال في النّظم السّياسيّة في البلدان المتقدّمة، فإنَّ السّلطتين التّشريعيّة والقضائيّة في عالمنا العربيّ، تخضعان للسّلطة التّنفيذيّة للنّظام السّياسيّ بأجهزته المختلفة، الأمر الّذي يحول دون استقلال وسيادة التّشريع والقضاء في المجتمع، فالسّلطة العليا من النّاحية الواقعيّة هي السلطة التّنفيذيّة لا السلطة التّشريعيّة والقضائيّة، بدليل أنَّ الكثير من الإجراءات الجزائيّة والعقابيّة المتّخذة بحقّ المواطنين تتمّ على أيدي السّلطة التّنفيذيّة لا القضائيّة، حتّى في مستوى النّظر بالقضايا المدنيّة العامّة فإنَّ سلطة القضاء تتوقّف عند حدود معيّنة لا تستطيعُ تجاوزها دونما تدخّل مباشرٍ أو غير مباشرٍ للسّلطة التّنفيذيّة فيها، وفي ظلِّ هذهِ الأوضاعٍ تصبحُ الأجهزةُ القضائيّة العربيّة عرضةً للوقوع في الكثير من النّواقص والثّغرات غير القانونيّة، باعتبارها أجهزةً غير مستقلّة في عملها .

   وعليه فمن غير الممكن الحديث عن سيادة القانون دون الحديث عن استقلال وسيادة السّلطتين التّشريعيّة والقضائيّة، بوصفهما سلطتين متكاملتين عضوياً ووظيفيّاً، فالسّلطة التّشريعيّة هي الجهة المخوّلة لسنّ التّشريعات والقوانين، والسّلطة القضائيّة هي السّلطة الوحيدةُ صاحبة الاختصاص في اتّخاذ وإصدار الأحكام القضائيّة طبقاً لتلك التّشريعات والقوانين وبما لا يتعارضُ معها .

   وبهذا الخصوص ينبغي الإشارة إلى ضرورة إصلاح التّشريعات والقوانين النّافذة في العالم العربيّ وتطويرها بما يتلاءَم وروح العصر، والتغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة فيه، فالكثير من القوانين والتّشريعات لم تعد قادرة على مواكبة اللحظة التّاريخيّة الرّاهنة للمجتمع العربيّ ممّا أفقدها صلاحيّتها من النّاحية الموضوعيّة.

   لذا تبرزُ الحاجةُ لإصلاح السّلطة التّشريعيّة في النّظام السّياسي العربي، من خلال البدء بعمليّة إصلاحٍ شاملٍ للمؤسّسةِ البرلمانيّةِ العربيّةِ واللّجانِ التشّريعيّة والدّستوريّة فيها، على أساس تطبيق مبدأ الانتخاب الدّيمقراطي الحرّ، وهو ما تفتقد إليهِ معظم البلدان العربيّة. فإصلاح الجهة صاحبة الاختصاص في سنِّ التّشريعات والقوانين، شرطٌ ضروريٌّ لإصلاحها .

-  الفساد الإداري:

   يتسّم النّظام الإداري العربي بالتّخلف وإنتاج الفساد في كثيرٍ مظاهره، لعلّة عجزه عن الأخذ بمبادئ الإدارة الحديثة، بما في ذلك ابتكار نظامٍ إداريٍّ فاعلٍ لتسيير شؤون الدّولة والمواطنين بصورةٍ حضاريّة متطوّرة، فطغيان أسلوب الإدارة المتخلّف عن مواكبة روح العصر وثورة الاتّصالات، وسيادة الجمود البيروقراطيّ في الأجهزة الحكوميّة المختلفة، يجعل من التّواصل بين الفرد وبينها تواصلاً ضعيفاً ومنقطعاً في أغلب الأحيان، فلا تجد معظم المشكلات والقضايا المدنيّة للمواطنين اهتماماً كافياً بها من جانب الموظّفين والأجهزة الإداريّة والعاملين لديها، وكثيراً ما تضيعُ مصالح وحقوق المواطنين جرّاء غياب وجود نظامٍ إداريٍّ فاعلٍ متطوّر. وفي ظلّ غياب هذا النّظام، تفتقد معظم الأجهزة والمؤسّسات والوزارات وجود خططٍ فتريّةٍ قصيرةٍ، ومتوسّطةٍ، وبعيدة الأجل للنّهوض بالأعمال المنوطة بها، حتّى إن وُجِدَت مثل هذهِ الخطط تبقى في حيّز الكتابة لا التّنفيذ في الجزء الأكبر منها، لعلّة غياب متابعة ومساءَلة القائمين عليها.

-  الفساد الدّيني والأخلاقي:

   أوّلاً: الفساد الدّيني:

   ثمّة ما يدعو للقيام بإصلاحٍ دينيٍّ شاملٍ، يستهدف إعادة النّظر بالموروث الدّيني التّقليدي، والكثير من الممارسات الدّينيّة الخاطئةِ لدى رجال الدّين والجمهور على حدٍّ سواء، ليس بهدف الإساءة والتّشهير إنّما بهدف الإصلاح، فقد أصبحت المظاهر الدّينيّة والطّقوس الشّكليّة للعبادة، تطغى على جوهر الدّين الصّحيح، فنجم عنها ولادة أفكار خاطئة وممارسات شاذّة باسم الدّين والدّين منها براء، وما التطرّف والعنف المستخدم من جانب بعض الجماعات الدّينيّة حيال أبناء الدّين الواحد وأتباع الدّيانات المختلفة، ورفض تقبّل الآخر والتّعايش معه ـ باسم الدّين ـ إلاَّ تعيّنات واقعيّة لتلك الأفكار والممارسات .

   نعم يتعيّن علينا النّظر العقليّ في ذهنيّتنا الدّينيّة وتنقيتها من الشّوائب الّتي ألمّت بها طيلة القرون الماضية، فالنّصوص التّاريخيّة والتّفاسير الدّينيّة والكتب اللاّهوتيّة ليست أوثاناً مقدّسةً لا يجوز الاقتراب منها، فلا عصمة للموروث الدّينيّ الإنساني الصّادر عن الذّات الإنسانيّة أمام سلطة العقل _ شأنهُ في ذلك شأن الموروث الثّقافي بوجهٍ عام _ على اعتبار أنَّ الله عزَّ وجَلّ قد أنزل دينه على قومٍ يعقلون ، فالعقل المؤيّد ببراهين علميّة ، بوسعه تأكيد أو نفي صحّة أيٍّ من الرّوايات المتوارثة والأفكار البشريّة المضافة للدّين القويم (فقه، سيرة، روايات، لاهوت ) منذ عشرين قرناً إلى اليوم .

    إنَّ من شأن القيام بحركة إصلاحٍ دينيٍّ شامل، خدمة الفرد والمجتمع والدّين على أسسٍ عقلانيّة وعلميّة وإيمانيّة ، خصوصاً في ظلّ تجذّر اتّجاهٍ دينيٍّ محافظٍ متشدّد ينظر بعين القداسة لكلِّ كلمةٍ وحرفٍ في كتب الفقه والسّيرة والرّوايات، واللاّهوت، فلا يجيز إعمال العقل في أيٍّ منها، بل يكتفي بالدّعوة لالتزام الاتّباع والتّقليد، ورفض النّقد والتّجديد، بدعوى أنَّ الحقيقةَ قد اكتملت على أيدي السّلف ، فكلَّ تجديدٍ بدعةٌ وضلالةٌ وكفر وهرطقة، يستحقّ إنزال القصاص العادل به وبأهلهِ من جانب أتباع هذا الاتّجاه المنتشر على نطاقٍ واسعٍ في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة والمسيحيّة . بالمقابل ينشط اتّجاهٌ مضادٌّ لكلّ ما هو ديني، فيرفض الاعتراف بدور الدّين في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة، ويدعو إلى قطع علاقة الدّين بالدّولة، ويحمّل الفكر الدّينيّ مسؤوليّة ولادةِ الأفكار المتطرّفة والحركات الدّينيّة المتشدّدة، والتخلّف والانحطاط الّذي آل إليه العرب منذ عدّة قرون إلى يومنا هذا .

   رغم تجذّر الاتّجاه الأوّل وانتشار الاتّجاه الثّاني، فإنّنا نقعُ على اتّجاهٍ ثالثٍ، إسلاميٍّ مسيحيٍّ تنويريٍّ ليبراليّ، لا يقبل كلّ ما ورد في كتب التّراث الدّيني على أنّهُ صحيح، كما لا يرفض كلّ ما ورد فيها من أفكارٍ دينيّةٍ تستجيب لروح العصر ومتطلّباته، ولا يرى في ذلكَ خروجاً عن كتاب الله تعالى، فيتّخذ من القرآن الكريم والإنجيلِ معياراً لجميع الأفكار والرّوايات الدّينيّة الواردة في كتب الفقه والسّيرة واللاّهوت، فيقبل منها ما اتّفق معهما، وينكر ما اختلف منها معهما كذلك، مستفيداً من معطيات العلم والمنطق العقليّ السّليم. ويدعو إلى تجديد الخطاب الدّينيّ من منطلق صلاحيّة الدّين لكلّ زمانٍ ومكان، وبأنَّ لدى الخلف اجتهاداته الّتي لم يدركها السّلف بفعل تغير عنصريّ الزّمان والمكان، ورغم محدوديّة انتشار هذا الاتّجاه في الأوساط الدّينيّة في المجتمع إلاَّ أنّهُ يحظى بقبول حسنٍ لدى الاتّجاهات العقلانيّة والتّنويريّة الأخرى لأنَّه يتعامل مع الدّين على أنّه رحمة ونعمة وليس لعنة ونقمة، وأنَّ الغايةَ من وجودهِ إسعاد الإنسان وتهذيب سلوكه الأخلاقيّ حيال نفسهِ ومجتمعه، وأنَّ الإنسانَ حرٌّ في قبولِ هذا الدّين أو رفضه طبقاً لقولهِ تعالى: " لا إكراه في الدّين " . من هنا تبرز أهميّة الدّعوة للقيام بإصلاحٍ دينيٍّ شاملٍ على أساس المبادئ والأفكار الكليّة السّامية للقرآن الكريم والإنجيلِ، كي نتمكّن من النّهوض بأفكارنا ومعتقداتنا الّتي يحظى الدّين بمساحةٍ ليست بالقليلة فيها .

ثانياً: الفساد الأخلاقي:

   ربَّ قائلٍ يقول: لماذا التّقليلُ من شأننا؟ .. صحيحٌ أنّنا متخلّفون تقنيّاً بالقياس للأمم المتقدّمة، وأنصاف المتقدّمة، لكنّنا متقدّمون أخلاقيّاً عليها. فهل نحن متقدّمون أخلاقيّاً ؟! لعلَّ الإجابة على الأسئلة التّالية تجمل الإجابة على السّؤال بنعم أو لا. هل نحن أوفياء، صادقون، غَيُورون، ذوو شهامة ومروءة ونخوة وكرامة، ويحترم بعضنا البعض الآخر؟! هل نحن متضامنون، متكافلون، متسامحون، نقيم وزناً لحقوق الإنسان؟! هل نحترم العقل والعلم والعلماء؟! هل نحن أحرار في أقوالنا وتنقّلاتنا داخل وطننا العربي؟!.

   يفيد واقع الحال بأنَّ معظمنا كارهون بعضنا البعض، منقسمون، متشرذمون، متآمرون، متخاذلون، كاذبون، حاقدون، طاردون للعقل وأهله، مستعبَدون مستبدّون، لا نقيم وزناً للإنسان وحقوقهِ، فاسدون. فقدس أقداس العرب تنتهك ولا نحرّكُ ساكناً، وبلدانٍ عربيّة يُعتدى عليها، ونحن إمّا ضالعون ووشاة، أو متفرّجون عاجزون، دماؤنا تُستباح وأعراضنا تنتهك على مرأى ومسمع منّا وكأنَّ شيئاً لم يكن، القلّة في رفاه والكثرةُ في بؤسٍ وشقاء، مقهورون، محتقرون، غرباءُ في أوطاننا، حالمون .

   فهل نحن متقدّمون أخلاقيّاً على الأمم المتقدّمة تقنيّاً؟!!!. ينبغي التّأسيس لبناء نظامٍ أخلاقيٍّ للفرد والأسرة والمجتمع، إلى جانب المجالات المختلفة للنّهوض الاقتصادي والسّياسي والاجتماعي والثّقافي .

-  قصور النّظام التّعليمي (إصلاح مناهج التربية والتّعليم):

   البلدان العربيّة في أمسّ الحاجة لإصلاح مناهج التّربية والتّعليم فيها، نظراً لتخلّف الكثير من المناهج المعمول بها عن مواكبة علوم العصر ومعارفه المتطوّرة، فمعظم المناهج المتّبعة في المدارس منذ المرحلة الابتدائيّة لغاية المرحلة الثّانويّة، تتّسم بالشّموليّة غير المجديةِ لتطوّر البلاد وتقدّمها، أمّا التّخصّص فيأتي في المراحل التّالية للتّعليم الثّانويّ، وهو دون المستوى المطلوب، من هنا ينبغي إعادة النّظر في المناهج والأدوات والطّرق الوسائل التّعليميّة بشكلٍ مستمرٍّ، لتكون قادرةً على مواكبة التطوّرات العلميّة المتلاحقة. بالإضافة إلى اعتماد مبدأ التخصّص في التّعليم منذ المرحلة الثّانويّة، حتّى يكون بالإمكان إعداد أجيال تخصّصيّة قادرة على البحث والإبداع والابتكار في الاختصاصات العلميّة المختلفة كلٌّ حسب اختصاصه.

   من ناحية أخرى يتعيّن على وزارات التّربية والتّعليم العربيّة، اعتماد إستراتيجيّة تعليميّةٍ تنمويّةٍ لتشجيع البحوث والدّراسات والاكتشافات والاختراعات العلميّة، وربط الاختصاصات العلميّة المختلفة بعجلة التّنمية والمجتمع، على أساسٍ متوازنٍ من الحاجات الضّروريّة لتقدّمِ المجتمع ونهوضه .

-  القصور الثّقافي والإعلامي:

   من شأن وقفةٍ تأمّليّة حيال الثّقافة والإعلام العربيّ بأدواتهما وأساليبهما المعمول بها، ووسائلهما المختلفة، المسموعة والمرئيّة والمكتوبة، يمكننا استخلاص النّتائج التّالية: هيمنة ثقافة النّخبة والإعلام الحكوميّ على السّاحة الثّقافيّة والإعلاميّة العربيّة، فرض قيود صارمة على الحريّة الثّقافيّة والإعلاميّة بفرض سلطة الرّقيب عليها، في وقتٍ لم يعد فيه حاجة لوجود الرّقابة الثّقافيّة والإعلاميّة من النّاحية العمليّة والموضوعيّة بفعل عولمة الاتّصالات واستخدام شبكة الإنترنت ومشاهدة ما يمكن لسلطة الرّقيب حجبه عن المواطن العربيّ، لقد أصبحت المعلومة متوفّرة للجميع وبسرعة زمنيّة قصيرة جدّاً، الحدّ من منح التّراخيص لإنشاء منتدياتٍ ثقافيّة مجتمعيّة ومؤسّسات إعلاميّة خاصّة في معظم البلدان العربيّة، ممّا يجعل معظم أصحاب التّراخيص الإعلاميّة ومراكز البحوث الخاصّة يتوجّهون للدّول الغربيّة للحصول عليها ومزاولة العمل الإعلاميّ المقنّن في العالم العربيّ بموجبها. في وقتٍ نحنُ أحوج ما نكون فيهِ لبناء مؤسّسات ثقافيّة وفتح جبهات إعلاميّة عربيّة ودوليّة واسعة. فوجود المؤسّسات الثّقافيّة الفاعلة والصّروح الإعلاميّة المعتبرة، يشكّلُ أساساً مهمّاً للنّهوض الثّقافي والإعلامي العربي، وتغيير الذّهنيّة التّقليديّة البالية في التّعامل مع قضايا الثّقافة والإعلام المختلفة .

المعوّقات الخارجيّة:

 - التّبعيّة السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة:

   تُشكّل التبعيّة السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة للغالبيّة العظمى من البلدان العربيّة للقوى الدّوليّة صاحبة النّفوذ، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، أحد أبرز المعوّقات الخارجيّة للنّهوض العربيّ، ومظاهر هذهِ التّبعيّة، عدم قدرة تلك البلدان على رفض السّياسات المعادية، والظّالمة لتلك القوى، أو حتّى اتّخاذ مواقف حياديّة منها حيال العديد من القضايا العربيّة والعالميّة، كالموقف من الصّراع العربي الإسرائيلي، والحرب على العراق، والموقف الأمريكيّ من سورية والسّلطة الفلسطينيّة، وحزب الله، والجامعة العربيّة، والسّودان، والمقاومة الفلسطينيّة، والعراقيّة، فالخضوع لتلك السّياسات سواءٌ بتبنّيها أو بعدم ممانعتها دليلٌ على عمق التّبعيّة السّياسيّة للنّظام العربيّ لتلك القوى، وعجزه عن الوقوف في وجهها .

   إنَّ خطورة التّبعيّة السّياسيّة للنّظام العربي، تمتدّ للدّاخل العربيّ، فتعزّز روح الانقسام والعداء والكراهية بين الدّول العربيّة، ممّا يحول دون اجتماع زعمائها في قمّة عربيّة واحدة، خشية إغضاب الولايات المتّحدة الأمريكيّة ومن يقف معها، فيتأكّدُ بذلك غياب استقلال النّظام السّياسيّ العربيّ كنظامٍ قائمٍ بذاته، الأمر الّذي يُشَكّلُ عقبةً أمام عمليّة النّهوض والتّقدّم. أمّا التّبعيّة الاقتصاديّة فمن مظاهرها: استحواذ القوى الدّوليّة صاحبة النّفوذ على الثّروات العربيّة النّفطيّة والرّأسماليّة وأسواقها، فالأرصدة والأموال مودعةٌ في البنوك الأجنبيّة، و التّجارة الداّخليّة بين البلدان العربيّة ضعيفةٌ لا تستحقّ الذّكر، بسبب تقييد حركة انتقال السّلع والبضائع داخل أسواقها، في الوقت الّذي تتدفّق فيه السّلع الأجنبيّة عليها، كذلك تهميش الصّناعة العربيّة وإبقاؤها محصورة في نطاق الصّناعات التّحويليّة والتّركيبيّة البسيطة، بما يحول دون تحقيق نهضة اقتصاديّة عربيّة حقيقيّة فاعلة . ربَّ قائلٍ يقول : إنَّ أسباب تخلّف النّهوض الاقتصادي العربيِّ هي أسبابٌ خارجيّة محضة . وهذا غيرُ صحيحٍ بشكلٍ كلّيٍّ على إطلاقهِ رغم ما ينطوي عليهِ من صحّةٍ جزئيّة باعتبار أنَّ مصلحة الدّول الكبرى صاحبة الامتيازات والنّفوذ في العالم العربي تقتضي تكريس مطلب التّبعيّة الاقتصاديّة العربيّة لها، لكنّها لا تستطيع الوقوف في وجهِ أيِّ عمليّة نموّ ونهوضٍ اقتصاديٍّ عربيٍّ إذا قرّرَ النّظام السّياسي العربي الشّروع فيها، من هنا فالتّبعيّة الاقتصاديّة للغرب الرّأسماليّ هي مطلبٌ عربيٌّ لأقطاب النّظام السّياسيّ العربيّ في المقام الأوّل والأخير. أمّا التّبعيّة الأمنيّة فمظاهرها كثيرةٌ، أبرزُها: التّنسيق الأمني رفيع المستوى مع أجهزة الأمن في البلدان صاحبة القوّة والنّفوذ، وفاقاً لنوع التّنسيق الأمني الّذي تطلبهُ من أجهزة أمن الدّول العربيّة التّابعة لها تحت شعار حماية مصالح الدّول الأجنبيّة ومكافحة الإرهاب ،بما في ذلك تسليم المواطنين العرب المشتبهِ فيهِم من جانب حكوماتِهِم لتلك الدّول، و تسهيل حريّة حركة الأجهزة الأمنيّة الغربيّة في الدّول الخاضعة لبلدانِها متى أرادت ذلك، زرع القواعد العسكريّة الأمريكيّة في العديد من البلدان العربيّة، ومنح تسهيلات عسكريّة و لوجستيّة للقوّات الأجنبيّة في حربها ضدّ أيِّ بلدٍ عربيٍّ، وآخرها التّسهيلات الّتي مُنِحَت لقوّات التّحالف في شنِّ حربها على العراق. الأمر الّذي أدّى إلى نزعِ ثقة المواطن العربيّ بحكوماتهِ وقدرتها على تحقيقِ النّهوض والتّقدّم .

-  السيطرة الإسرائيليّة الصّهيونيّة على العالم العربي:

    تعدُّ السّيطرة الإسرائيليّة على المنطقة العربيّة إحدى المعوّقات الخارجيّة للنّهوض والتّقدّم في العالم العربيّ، ومن يتحمّل هذه السّيطرة المدعومة أمريكيّاً ودوليّاً النّظام السّياسيّ العربيّ في المقام الأوّل، بفعلِ عجزه عن الوقوف في وجهها، وتهافت عددٍ من الدّول العربيّة ـ ليس بالقليل ـ على الاعتراف بـ(إسرائيل) والتّطبيع السّياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ معها، والتّخلّي عن تقديم الدّعم السّياسيّ والاقتصادي للشّعب العربيّ الفلسطينيّ في مقاومته الاحتلال الإسرائيليّ لأرضه وجرائم التّصفية والإبادة الّتي يتعرّض لها على أيدي هذا الاحتلال وآلته العسكريّة.

   نعم الدّول العربيّة عاجزةٌ عن وضعِ حدٍّ للانتهاكات الإسرائيليّة المتواصلة للكرامة العربيّة والمقدّسات الإسلاميّة والمسيحيّة في المدن الفلسطينيّة بصفة عامّة ومدينة القدس بصفةٍ خاصّة، والتّهديد المستمرّ بالعدوان على بعض الدّول العربيّة المعادية لـ(إسرائيل)، رغم تمسّكها بخيار السّلام العادل والشّامل .

    وممّا يجدر الإشارةُ إليه أنَّ (إسرائيل) لا تُشكّلُ خطراً على فلسطين والفلسطينيّين فحسب، بل على الأمّة العربيّة من الماء إلى الماء، انطلاقاً من الأيديولوجيا العنصريّة الصّهيونيّة المستمدّة من العقيدة اليهوديّة، القائمة على التّسليم بأنَّ أرض (إسرائيل) هي الأرض الممتدّة من الفرات إلى النّيل وتشمل أراضي ستّة دولٍ عربيّة هي: العراق، وسورية، ولبنان، والأردنّ، وفلسطين، ومصر، والدّليلُ على ذلك، المعنى السّياسيّ للعلم الرّسميّ لـ(دولة إسرائيل) المعترف به دوليّاً .

    هذا الخطر من أهمّ المعوّقات الخارجيّة للنّهوض العربيّ، الّذي لن يتحقّق دون امتلاك تقنيّة عربيّةٍ متطوّرة، وهو ما تسعى (إسرائيل) إلى منع حدوثِه وضربه إن لم يكن بدّ منه، والشّواهد على ذلك كثيرة أبرزها : ضرب المفاعل العراقي في العام 1979 وتدمير منشآته البحثيّة والعلميّة واغتيال علمائهِ في الحرب المستمرّة عليه، وتدمير معمل للأدوية في السّودان بذريعة أنّهُ معمل لإنتاج الأسلحة الكيميائيّة، وإفشال توقيع اتّفاق الشّراكة السّوريّة الأوروبيّة واستصدار قانون محاسبة سورية، وممارسة الضّغوط على إيران وتركيّا، وإغراق عددٍ من الدّول العربيّة بالمديونيّة حتّى تظلَّ خاضعةً للسّيطرة الإسرائيليّة إلى أجلٍ غير مسمّى . لكن ذلك كلّهِ لن يُفلحَ أمام إصرار العرب لو أرادوا بناء قاعدةٍ تقنيّة متطوّرةٍ بالتّعاون والتّنسيق مع العديدِ من الدّول المتقدّمة صاحبة القوّة والنّفوذ على المسرح السّياسيّ الدّوليّ، ممّن لن تجرؤ (إسرائيل) على الوقوف في وجهها والنّيل من مصالِحِها .

   من هنا تبرز أهميّة التّفوّق العربيّ على (إسرائيل) خصوصاً أنَّ العديدِ من عناصر القوّة العربيّة متوفّرةٌ : مساحة الأرض، عدد السّكان، الثّروات الباطنيّة، وضخامة أسواق الاستهلاك، وهي عناصرٌ تفتقدُ إليها (دولة إسرائيل) صغيرة المساحة، قليلة السّكّان، قليلة الثّروات، ضئيلة السّكّان . لكنَّ تلك العناصر المتوفّرة لدينا لن تكون مجديةً إلاَّ إذا امتلكنا إرادة فاعلة تستثمرها بطريقةٍ تنقلنا من حالة الضّعف إلى حالة القوّة :

الإرادة الفاعلة:

   الإرادةُ الفاعلةُ نوعان: إرادةٌ عاقلةٌ ملتزمةٌ، وإرادةٌ منفلتةٌ مغامرةٌ يجمع بينهما القدرة على الفعل، كلتاهما منتجتان للأفعال خيرها وشرّها، حسنها وقبيحها، أمّا الإرادةُ العاقلةُ الملتزمةُ فتتّصف بكونها : إرادةٌ حرّةٌ عاقلةٌ رشيدةٌ قادرةٌ سيّدةٌ على نفسها وعلى الأفعال الّتي تصدر عنها ، فهي مريدةٌ مختارةٌ للموضوعات الّتي تقع في نطاق اهتماماتها، مبدعةٌ مبتكرةٌ، نشيطةٌ، واعية، صانعة للتّاريخ الإنسانيّ، صاعدةٌ باستمرار، غير منفلتة في حركتها، إنّها القدرة الذاتيّة للإنسان، باطنيّة في منشئها ظاهريّةٌ في أفعالها، مكانها النّفس والعقل لا الجسد، فكم من الأجساد الرّقيقة تسكنها إرادةٌ قويّةٌ وكم من الأجساد الغليظة تسكنها إرادةٌ ضعيفة، هذهِ الإرادةُ عاقلةٌ تختارُ الأدوات الملائمة للأفعال الّتي تقوم بها. وهي قادرةٌ على تحويل التصوّرات والمتمثّلات الّتي تتمثّلها إلى تعيّناتٍ ملموسة. وبالتّالي فهي قوّة حيّة تسكن الإنسان، وقدرةٌ لا متناهية على الفعل والحركة. راشدة منتصرة، نافعة، أفعالها أخلاقيّةٌ لأنّها ملتزمة، هذا النّوعُ من الإرادة هو ما نحتاج إليه للنّهوض بواقعنا ومباراة الأمم المتقدّمة، إرادةٌ عقلانيّةٌ أخلاقيّة فاعلة .

   وأما الإرادة المنفلتةُ المغامرة، ففضلاً عن كونها فاعلة، إلاَّ أنّها متحلّلةٌ من أيِّ التزاماتٍ عقليّة وأخلاقيّة، من هنا فهي عرضةٌ للوقوع في الضّلال، وارتكاب الشّرور والمعصية، وهي عشوائيّةٌ، يتجاوز ضررها نفعها، تُعوِّلُ على تحقيق الفعل دون الالتفات لوجهته الأخلاقيّة، منتجةٌ للخوف والرّعب والكوارث، ساحقةٌ ماحِقةٌ لكلّ ما يعترض سبيلها، من صنوف الجمادِ والإنسان والحيوان والنّبات، أجَلُها قصيرٌ وانهيارها سريع سواءٌ كانت على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدّولة.

   لذا ينبغي التّنبّه لخطورة هذا النّوع من الإرادةِ المنفلتة المغامرة، بواسطةِ النّأي عنها وعدم السّماح لأنفسنا الوقوع فيها .

 • الإرادة المنفعلة:

   لا نُبالغُ إذا قلنا أنَّ مجتمعاتنا العربيّة تخضع لسلطان الإرادة المنفعلة في فكرها وأقوالِها وأفعالِها، فالشّعاريّة والمنبريّة الانفعاليّة السّمة الأبرز للخطاب السّياسيّ والإعلامي والثّقافيّ العربيّ، وبطبيعة الحال فنحن لا ننكرُ حقّنا في أن نحلم وننفعل باعتبار ذلك حاجة إنسانيّةً، لكنّنا ننكر أن تنأى أحلامنا وانفعالاتنا بنا عن الواقع ومتطلّبات إحداثِ فعلٍ تاريخيٍّ فيه، فإذا لم نحوّل أحلامنا وانفعالاتنا إلى وقائعَ حيّةٍ ملموسةٍ، فإنّهُ لا جدوى عمليّة منها في سعينا للنّهوض بواقعنا إلى مصاف الأمم المتقدّمة. من هنا علينا الاعتراف بأنَّ إرادتنا المنفعلة عاجزة عن القيام بأفعالٍ تاريخيّةٍ هامّة فهي إرادةٌ لا تقوى على الصّعود، نكوصيّة، مستباحةٌ أو محافظة، تميل بطبعها للاتّباع والتّقليد، تبريريّة، سقيمة، تقف عند حدود الموروث من الأمور فتقدّسهُ، متخلّفة، قاصرة، خَرِفةٌ، خَرِبةٌ، تالفةٌ، فاسدة، مهزومة، ضارّة، ينبغي الانعتاق منها لصالحِ امتلاكنا إرادةً فاعلةً رشيدةٍ ملتزمة .

 • استخلاص:

   ممّا تقدّم يمكننا استخلاص التّالي : إنَّ الإرادةَ مفتاحُ صعود الأمّة وهبوطها، مفتاحُ صعودٍ عندما تكونُ إرادةً فاعلةً عاقلةً ملتزمة، ومفتاحُ هبوط عندما تكون منفلتةً مغامرةً منفعلة، فمنذ سقوط قرطاجة حتّى ظهور الإسلام ومنذ سقوط الأندلس إلى هذا اليوم، نخضع إمّا لسلطان إرادة منفعلة أو لسلطانِ إرادةٍ فاعلةٍ منفلتةٍ مغامرة منتجةٍ للاستبداد والدّيكتاتوريّة والكوارث والهلاك، فالفرقة والتمزّق والضّعف والتّخلّف والجهل، وعدم القدرة على مقاومة التّلوّث الّذي تحدثهُ الأمم المتقدّمة فينا، وخروجنا من مسارات صناعة التّاريخ، السّمة الأبرز لنا، رغم أنّنا عشنا عصوراً من التقدّم والرّقيّ والازدهار وصناعة التّاريخ طيلة أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة عام قبل حلول القرن الثّاني قبل الميلاد (سقوط قرطاجة). ومنذ الفتوحات العربية الإسلاميّة في القرن السّابع الميلادي حتّى سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر .

  ولطالما لا يتحقّق صعود الأمم إلاَّ بامتلاكها إرادةً فاعلةً رشيدة، فإنَّه لن تقوم للعرب قائمة إلاَّ إذا امتلكوا إرادةً فاعلةً تحلُّ محلَّ إرادتهِم المنفعلة. ووجود هذهِ الإرادة ينبعُ من ذات الأمّة نفسها، ولعلَّ ماهيّة التحدّيات المصيريّة الّتي تواجه العرب في عالم اليوم تكفي لإنتاج هكذا إرادة، وأولى علامات ولادتها، وفاة الإرادة المنفعلة فيهِم، وصناعةِ وعيٍ عقلانيٍّ فاعلٍ مثمر ، يعيد للإرادة الفاعلة كرامتها . لقد طغت الخطابيةُ والمنبريّةُ والشّعاريّةُ، والانفعاليّةُ على وعي العرب وسلوكِهِم قروناً طويلةً ولا تزال حتّى وقتنا الرّاهن ، فأنتجت ضروباً من الضّعف والجبن والتّخاذلِ والاستبداد واحتقار الذّات، والتّبعيّة للآخر، واغتيال كلّ إرادةٍ فرديّة فاعلة في الأمّة . والعمل على وأد إرادة الحياة لدى الأمّة في مهدها من جانب معظم الفئات العادمة فيها. رغم ذلك فالأمل في ولادة إرادة عربيّة فاعلةٍ قابلةٍ للحياة قائمٌ في داخلِ الأمّةِ ذاتِها، ومن إمارات ذلك ولادة ظاهرة المقاومة العربيّة في أكثرِ من قطرٍ عربيّ في مواجهةِ أعداء الأمّة، سواءٌ في فلسطين أو لبنان أو العراق. فالمقاومة صناعةُ الأحرار، وتعبيرٌ حقيقيٌّ عن ولادة الإرادة الفاعلة الحرّةِ في الأمّة، فالمقاومون في تلك الأقطار، جهاديّون استشهاديّون ، سادة لا عبيد، فاعلون لا منفعلون، قادرون على إلحاق الهزيمة بالأعداء، وبالموت الّذي يفرُّ منهُ الجبناءُ والمهزومونَ المستبدّون، نعم الإرادةُ العربيّةُ الفاعلةُ آخذةٌ في الاتّساع، على أنقاض إرادةٍ منفعلةٍ آخذةٍ بالزّوال.

   وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الأمّة العربيّة لم تعدم وجود بعض الإرادات الفاعلة فيها طيلةَ الخمسة قرون الماضية، والدّليلُ على ذلك بروز حركات المقاومة العربيّة في مواجهةِ الاحتلالين العثماني والأوروبي وخوض حروب الاستقلال في مواجهة القوى الاستعماريّة الحديثة والمعاصرة في عددٍ من البلدان العربيّة، وآخرها حرب تشرين التّحريريّة في العام 1973 والتصدّي للغزو الصّهيوني للبنان في العام 1982 واندلاع انتفاضتي الشّعب الفلسطيني في العام 1987 والعام 2000، مروراً بإلحاق الهزيمة بالاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان ، وتصاعد أعمال المقاومة المسلّحة للاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق . بمعنى أنَّ الإرادة العربيّة الفاعلة لم تنعدم منذ سقوط الخلافة العربيّة الإسلاميّة حتّى يومنا هذا، فهي إرادةٌ آخذةٌ في التّجذّر والاتّساع، لكنّها لم تبلغ الحدّ الّذي يجعلُ منها إرادة كليّةً موحّدةً تجعلُ من العرب قوّةً عالميّةً يُحسبُ حسابها، وتعيد لهم كرامتهم ومكانتهم الّتي يستحقّونها بين الأمم .

   من هنا يتعيّن على العرب التّركيز على الأفعال لا الأقوال، على العقل والعلم، لا على التّقليد والخرافات، على العمل المنتج والتّقانة لا على التّنظير الأجوف والاستهلاك، ولكن من الجهة المعنيّةُ بتفعيل الإرادة العربيّة والانتقال بها من مستوياتٍ جزئيّة منخفضةٍ إلى مستوياتٍ كليّةٍ متقدّمة؟! الشّعوبُ أم قادتُها؟!. تؤكّد تجارب البشريّة عبر تاريخها أنَّ قادة الشّعوب وطلائعها هم الجهةُ الوحيدة القادرة على تثوير إرادتها، والانتقال بها من طور الانفعال إلى الفعل، ومن الفعل غير المنظّم إلى الفعل المنظّم، بمعنى أنَّ ترشيد الإرادة الجماهيريّة الفاعلة يقع على كاهل تلك الجهة.

   من هنا تبرز أهميّة الدّور الّذي يضطّلعُ بهِ القائد في تفعيل إرادة المجتمع والانتقال به من وضعيّة الهبوط إلى وضعيّة الصّعود، وبالطّبع لا يعدم العرب وجود قادة أكفاء للنّهوض بهم من واقِعِهم المأزوم ، لكنَّ المعضلة بهذا الشّأن أنَّ معظم القادة العرب ليسوا مؤهّلين لإنجاز هذهِ المهمّة، من هنا تصبحُ مهمّة إنتاج قادة نهضويين يعبّرون عن مصالح شعوبهِم تتصدّرُ أولويّات العمل للخروج من أزمتنا الحضاريّة الرّاهنة، على أنَّ إنتاج هؤلاء القادة ينبغي أن يكون ثمرةً لعمليّةٍ مجتمعيّةٍ في المقام الأوّل والأخير بمعنى أن تظلّ سلطة القائد خاضعةً لسلطة المجتمع تفادياً لحدوث التفرّد والاستبداد، بوصفهما داءً عضالاً يحول دون نهوض المجتمع وتقدّمه، من هنا ينبغي أن يحظى القائد بثقة الشّعب وأن يكون بوسع الشّعب عبر مؤسّساتهِ وممثّليه حجب الثّقة عنه متى وجد في ذلكَ مصلحةً لهُ .

   من ناحية أخرى ينبغي أن تكون الإرادة العربيّة الفاعلة إرادةً رشيدة، كي لا تقع في الضّلال فتُستَخدم للقيام في أفعالٍ شرّيرةٍ، تفضي للدّمار والتّهلكة. فثمّة إرادات فاعلة غير رشيدةٍ كان مصيرها الزّوال.

  أمّا المعوّقات الخارجيّة فأبرزها: الهيمنة السياسية والاقتصادية لعدد من الدّول الغربية، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة على معظم البلدان العربية، إلى درجـة يصعب معهـا الشروع في تأسيس نظام سياسي اقتصادي عربي مستقل قابل للحياة، وقادرٍ علـى تخطي العقبات التي تحول دون نهوضه وازدهاره. كذلك الخطر الناجم عن وجود الكيان الصهيوني في المنطقة وارتباطه العضوي بالنظام الإمبريالي العالمي، وما يترتب على ذلك من استنزاف للقدرات الاقتصادية لبعض البلدان العربية الواقعة على خط المواجهة في إطار سعيها لتعزيز قدراتهـا الدفاعية والعمل على امتلاك الأسلحـة الحديثة باهظة التكاليف على حساب خطط التنمية وإقامة المشاريع الاقتصادية الكبرى للوقـوف في وجه الأطماع والتهديدات الصّهيونيّة المستمـرّة، بمعنى أنَّ المعوقات الخارجية للمشروع النهضوي العربي يمكن حصرها في معوقين اثنين: الأول، الهيمنة الأجنبية، والثاني: وجود دولة الكيان الصّهيوني وتهديدها للأمن القومـي والتنمية العربيين، وعليـه فلا يمكن للنّهوض العربي أن يرى النّور إلاَّ في ظلِّ وجود أيديولوجية قوميّة لدى جميع البلدان العربيّة تضـع في أولوياتها: تحرير إرادة الإنسان العربي، ومشاركته في عمليتي البناء والتنمية ،وممارسته للديمقراطية، والذّود عن كرامته، وتحقيق العدالة والمساواة بين كافة أفراد المجتمع، وتحشيد طاقات الأمّة للانعتاق الكلّي من السيطرة الأجنبية وهيمنتها السياسية والاقتصادية، واقتلاع الكيان الصّهيوني من المنطقة العربية.