عندما انطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كانون الأول ديسمبر1967، من رحم حركة القوميين العرب، كان على كادرها القيادي الإجابة عن عدة أسئلة مركزية ومحورية تتعلق بالصراع العربي الصهيوني، من طراز البنية الفكرية والسياسية والاجتماعية للجبهة والبناء التنظيمي لها. حينها، كانت نكسة حزيران لا تزال ساخنة وتفعل فعلتها، والإحباط العربي بلغ أوجه باحتلال كل فلسطين وأراض عربية في مصر وسورية، وكان لا بد من وضع مصدات كبرى ورافعات عملاقة لنقل الوعي من حالة اليأس التي سادت الهزيمة للنظام الناصري الذي شكل حالة وهج في الشارع العربي حتى جاءت النكسة وقصمت ظهره.
كانت الساحة الفلسطينية والعربية تغلي، والجماهير تبحث عن مخارج للوضع البائس وتتطلع لمنقذ يخرجها من حالة التيه التي وصلت إليها. وبالتوازي كانت حركة القوميين العرب تأخذ أشكالها الجديدة وتتموضع جبهاتها وأحزابها القُطرية لإعادة التشكيل واستيعاب التوجه الجديد بالاسترشاد وتبني النظرية الماركسية ال لينين ية منهاج عمل وتحليل للواقع ومنطلقاً لوضع الحلول للقضايا والأزمات وخصوصاً القضية الفلسطينية ووحدة الأمة، فكان هذا التبني الباحث عن مخارج حقيقية من أجل توحيد طاقات الأمة وإبراز القضية الفلسطينية كقضية مركزية لها.
في السياق ذاته شكل الإعلام الجبهوي ركيزة أساسية لإيصال الفكر والموقف، وإثر التطورات الدراماتيكية في واقع الجبهة، وانشقاق "الديمقراطية" ذهبت مجلة "الحرية" التي كانت لسان حال حركة القوميين العرب لها، وكان لا بد من إطلاق مجلة ناطقة باسم الجبهة الشعبية في بعدها القومي وحالتها الفلسطينية، وقرار تأسيس "الهدف" ورفعها شعارها الشهير والمهم "كل الحقيقة للجماهير".
صدرت الهدف في 26 يوليو/تموز 1969، ورأس تحريرها الشهيد الأديب غسان كنفاني حتى استشهاده على أيدي الصهاينة وعملائهم في بيروت في يوليو/تموز1972، وخلفه بسام أبو شريف في رئاسة التحرير ثم الشهيد عمر قطيش حتى ما بعد الغزو الصهيوني للبنان صيف 1982، وبعد الخروج ترأس تحريرها صابر محي الدين، وهكذا توالى بعد ذلك العديد من الكوادر الإعلامية رئاسة تحريرها.
في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، شكلت "الهدف" حالة مصغرة من حركة القوميين العرب بفكرها وتوجهها الجديد، حيث ضمت الكثير من الكوادر الإعلامية العربية من العراق والبحرين وتونس والمغرب وسورية ولبنان، وغيرها من البلدان العربية التي كان لحركة القوميين العرب منظمة أو جماعة قطرية تؤمن بفكرها. وهي تشبه إلى حد بعيد مجلة الطليعة الكويتية التي كانت تعتبر لسان حركة القوميين العرب في الخليج والجزيرة العربية، والتي أسسها المرحوم سامي المنيس بمعية المرحوم الدكتور أحمد الخطيب أحد مؤسسي حركة القوميين العرب بجانب الحكيم الدكتور جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي.
تتوزع "الهدف" إلى دوائر: الدائرة الفلسطينية، الدائرة العربية والدائرة الدولية. والدائرة العربية مقسمة إلى دوائر مصغرة، وكنت مسؤولاً عن الدائرة الخليجية بعد انتقالي من الطليعة الكويتية التي كنت أعمل فيها، إلى بيروت مطلع الثمانينات حتى الغزو الصهيوني للبنان، وانتقال المجلة إلى دمشق ثم قبرص فالعودة إلى دمشق.
شكلت "الهدف" رأس حربة الإعلام المقاوم كجزء من جبهة الرفض التي تشكلت بعيد زيارة السادات للقدس وتوقيعه اتفاقيات كامب ديفيد، وكان وضع النظام الرسمي العربي متشرذماً ومرتبكاً بعد طرد مصر من الجامعة العربية التي تم نقل مقرها إلى تونس، وكانت الأجواء ملبدة من حيث الضغوطات التي مارستها واشنطن على العواصم العربية من أجل السير على طريق السادات وتصفية القضية الفلسطينية، وعندما حان موعد انعقاد القمة العربية في فاس بالمغرب 1981، تم اقتراح مبادرات تسووية لم يجرِ التوافق عليها في القمة فتم تأجيلها. وقتها صدرت "الهدف" بلوحة غلاف اعتبر من أقوى وأجمل الأغلفة بين الصحف وهو عبارة عن فأس يشق ورقة "المبادرة" لتبدو على شكل رقم 7 بالعربي، إشارة إلى البند السابع من المبادرة التي قدمت للقمة وفحواه الاعتراف بالكيان الصهيوني. كانت انعكاسات ذلك العدد بموضوعاته الدسمة والعميقة محط نقاشات في بيروت وخصوصاً في الأوساط الفلسطينية، إذ تبين أن أداء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم يكن في مستوى الحدث، في الوقت الذي كانت فيه "الشعبية" تُحمّل المسؤولية لقيادة المنظمة. تسببت هذه الأجواء في أزمة بين حركة فتح وبين الجبهة الشعبية وحدثت توترات في بيروت الغربية وخصوصاً في منطقة الجامعة العربية، حيث بادر اليمين الفلسطيني للتحريض على الجبهة وأراد أن تصل الأمور إلى الاقتتال الداخلي بين الأخوة، إلا أن رجاحة العقل هي التي تغلبت في نهاية المطاف وتم تفويت الفرصة على أولئك الذين أرادوا الاصطياد في المياه العكرة لإراقة الدم الفلسطيني وخلق إرباك إضافي فوق الإرباك الذي كانت تعاني منه الساحة الفلسطينية وخصوصاً في لبنان.
في ذلك الوقت وجدت الجبهة الشعبية نفسها أمام مهمات واستحقاقات خطيرة، فلعبت دوراً ريادياً بارزاً في تعزيز الصمود والتصدي للمشاريع التسووية التي أراد الكيان الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تمريرها على الجانب الفلسطيني والعربي. انعكس ذلك في إعلامها وخصوصاً على صفحات مجلة الهدف التي شكلت فعلاً صحفياً كبيراً في مواجهة المخططات الصهيونية والإمبريالية. وكانت افتتاحياتها بمثابة تعميم علني لكوادر الجبهة وأصدقائها، تسجل فيه الموقف المراد التمسك به والدفاع عنه إزاء القضايا الساخنة التي كانت المجلة تنشرها. وكانت الهدف توزع في أغلب دول الشتات العربي والأوروبي والأمريكي، وشكلت مادة تثقيفية ومحطة للنقاشات والحوارات في أوساط حركة التحرر العربية، وفي الوسط الطلابي في مختلف العواصم.
لم يكن شعار "كل الحقيقة للجماهير" الذي وضعته "الهدف" في أعلى أغلفتها خاوياً، بل ترجمة حقيقية لحالة الوعي المتقدمة التي كان كادر "الشعبية" القيادي يتمتع بها، وهو شعار مرادف ومكمل لشعار "وراء العدو في كل مكان"، الذي رفعته الجبهة إبان العمليات الخارجية التي هزت العالم منذ نهاية ستينات القرن الماضي حتى عقد سبعيناته. فحين يرفع مثل هذا الشعار في المجلة، يكون القائمون عليها قد وضعوا تحدياً مهنياً وسياسياً كبيراً. التحدي المهني يكمن في قدرة كادر المجلة على نقل الحقيقة التي هي العمود الفقري للصحافة وللإعلام المهني، فحين تكون مهنياً صادقاً تقدم الحقيقة للمتلقي كما هي، فإن ذلك يعني أن المجلة أوصلت الجزء الأكبر من رسالتها في البحث عن الحقيقة. والجماهير التي كانت تتلقف "الهدف" شعرت بالاطمئنان بأن الحقيقة ستكون على صفحاتها رغم كل الصعوبات التي كانت تمر بها. صعوبات من طراز ضعف الإمكانات المادية والتضييق وحجم الاختراق الذي كانت ولا تزال تعاني منه الساحة اللبنانية، بانتشار جواسيس الموساد وغيرهم من الأجهزة المخابراتية العربية والدولية المعادية للثورة الفلسطينية، ما يشكل خطراً على كوادر الثورة ومنهم الصحافيون الذين يسعون للوصول للحقيقة ويقدمون موضوعات ومقالات تلامس مشاعر الناس وترفع من وعيهم ومعنوياتهم. ولأن بيروت مستهدفة بسبب مكانتها واحتضانها لحركات التحرر في العالم، وعلى رأسهم الثورة الفلسطينية وفصائلها، فقد كان الجواسيس الصهاينة يتنقلون بجوازات سفر أوروبية، وقد حضر أحدهم مؤتمراً صحفياً للحكيم جورج حبش في مقر صحيفة الهدف بمنطقة المزرعة ببيروت اثناء الغزو الصهيوني للبنان، ونشر تغطية في إحدى الصحف الصهيونية في اليوم التالي.
بعد خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية من بيروت، كنت أسير في أحد الشوارع الفرعية بمنطقة الحمراء، تقابلت وجهاً لوجه مع الشهيد عمر قطيش، الذي كان رئيس تحرير "الهدف" أثناء عملي فيها. تفاجأ كل منا بالآخر، فقد كان الوضع الأمني مأزوماً والقوات الانعزالية المدعومة من الجيش تجوب الشوارع وتعتقل على الهوية. لم نتمكن من مصافحة بعضنا، ولم يتحدث أحدنا للآخر، بل أشاح كل منا بوجهه بعيداً بينما كانت التوجسات تراودنا.
لا شك أن العصر الذهبي للهدف في تلك السنوات كان غنياً بكثير من الموضوعات والمواقف التي أصلت لفكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لقد أسهمت المجلة المركزية للجبهة في إيصال الموقف في أوانه بموضوعية واتزان حصل على تأييد الجماهير التي تتوق لاقتناء "الهدف".
اليوم وبعد أن شهد الإعلام طفرات كبرى من التطور التقني والمعرفي أزاحت خلاله وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الصحف والمجلات العريقة من دربها، واستخدِم الذكاء الاصطناعي للقيام بمهام الصحفيين البشر وتوجيه المواقف، يكون على عاتق القائمين على "الهدف" والإعلام الفلسطيني والعربي المقاوم مهمات كبرى ينبغي سبر غورها بالعلم والمعرفة والقدرة على مواكبة التطورات الحاصلة في هذا الحقل المهم والخطير. فالكلمة لا تقل خطورة عن الرصاصة، بل أن حروباً حسمها الإعلام قبل أن تحسم عسكرياً على الأرض، ولنا في سقوط بغداد بواسطة الإعلام الامريكي درساً وتجربة.
لقد شكلت "الهدف" منذ صدور عددها الأول في 1969 منفاخ حداد، تصقل فيها الفكرة وتنسج الكلمات والجمل كما تُطرز المرأة الفلسطينية ثوباً مقدسياً تراثياً جميلاً، حيث يسعى الاحتلال لسرقته والادعاء بأنه من تراثه. ولا شك أن الكادر الصحفي القائم على الهدف اليوم يدرك حجم المهمات الكبرى التي على كاهله ويسعى لأن تحافظ "الهدف" على مكانتها وتطورها وفق متطلبات العصر ومعطيات الصراع العربي الصهيوني الذي يحتاج إلى إعلام مؤثر قادر على الوصول إلى أكبر عدد من القراء رغم المنغصات والصعوبات الجمة. فهي نمودج للإعلام المقاوم الذي يشق طريقه الوعر نحو شمس الحقيقة والتحرير.