Menu

ترامب والسنوات العجاف في الشرق الأوسط

رضي الموسوي

نشر في مجلة الهدف العدد (67) (1541)

"لطالما دفع الفلسطينيون في غزة وما وراءها ثمن هذا الاستثناء بحياتهم.. وأن الأمريكيين يدفعون الثمن أيضاً.. وقد يكلف الأمريكيين حريتهم".

(الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمز" بيتر بينارت)

لكن الرئيس الأمريكي المنتخب ليس في هذا الوارد. لقد رتب إدارته القادمة على مقاس الشعارات التي رفعها في دورته الأولى، وبعد فوزه واستعداده للعودة إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني محاطاً بفريق عمل أكثر صهيونية من أي إدارة سابقة، رغم أن الدولة العميقة هي التي تحدد علاقاتها الخارجية بناء على مصلحتها بغض النظر عن "طحشات" الرئيس أو هفواته. فالولايات المتحدة تحكمها مؤسسات وليس أفراداً على طريقة العالم الثالث.

صحيح أن دونالد ترامب شعبوي وجيّش أنصاره على إعادة الوهج إلى "أمريكا العظيمة" بعد أن هزم الهرِم جو بايدن الذي وضع "بيضه" كله في سلة الأكثر إجراماً وتوحشاً بنيامين نتنياهو وعصابته وقدم دعمه المطلق وفتح له مخازن السلاح وزاد عليها بعد خطاب الأخير في الكونغرس ودعا إدارة البيت الأبيض لإرسال المزيد من أسلحة التدمير والقنابل الخارقة بسرعة لكي ينجز المهمة المتمثلة في مضاعفة حرب الإبادة الجماعية في غزة ثم لبنان بجريمة "البيجر" واغتيال أغلب قادة الصف الأول في حزب الله وفي مقدمهم أمينه العام السيد حسن نصر الله، لكن الصحيح أيضاً أن المعادلة ليست من طرف واحد، حيث تنتصب المقاومة في غزة لتسجل نصراً مبيناً على الكيان بإفشال أهداف الفاشية العنصرية الصهيونية، وتحقق اتفاقاً لوقف إطلاق النار وصفه العدو بأنه "عالي الكلفة". وفي لبنان كانت المقاومة ورغم جراحها الكبيرة إلا أنها تمكنت من فرض وقف لإطلاق النار وقطع الطريق على المشروع الصهيوني الذي يهدف لاحتلال المزيد من أراضي الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني.

كأن إدارة الرئيس الامريكي السابق جو بايدن أرادت السبق فقدمت كل شيء للكيان في حرب الإبادة الجماعية ومنها مساعدات تزيد على22 مليار دولار من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024، فضلاً عن الدعم اللوجستي وتحريك القطع الحربية في البحار صوب شواطئ فلسطين، وركزت أقمار تجسسها على المناطق المستهدفة في الإبادة الجماعية.

لكن الصحيح أيضاً أن دونالد ترامب القادم بقوة للبيت الأبيض يعبر عن حالة الانكسار في الحزب الديمقراطي المنافس كنتيجة منطقية للتحول الذي اعتمل في الشارع الشبابي الأمريكي بشكل رئيسي وقاد، بسبب الوقوف الأعمى للإدارة الأمريكية السابقة مع حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. يؤكد ذلك ما أشارت له الإحصائيات بأن هناك تحولاً صادماً، ليس بين الشباب الأمريكي فحسب، بل في صفوف المراهقين من اليهود الأمريكان والتي بينت أن 42 بالمئة منهم يعتقدون أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة، وأن 37 بالمئة يتعاطفون مع حركة حماس ، وأن 60 بالمئة من الشباب الأمريكيين يرون أن هجوم 7 أكتوبر كان مبرراً، وأن 50 بالمئة منهم عبروا عن تأييدهم للمقاومة، وأن 51 بالمئة يفضلون حل الدولة الواحدة، أي إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية.

لم تلتفت إلى هذه الأرقام والإحصائيات، لا الإدارة الأمريكية السابقة، ولا تفعل ذلك الإدارة الحالية بقيادة دونالد ترامب التي تتشكل من عتاة اليمين المتصهين، ولا تأخذها على محمل الجد، بل أن الدولة الأمريكية العميقة ترسم وتخطط وتنفذ سياساتها بناء على مصالحها. لكن اللافت هو تحول المزاج الشعبي في الولايات المتحدة وبدء تكسير أعمدة السردية الصهيونية حول عملية الصراع العربي الصهيوني، وبروز السردية العربية الفلسطينية لتبدأ في إزاحة التزييف والتزوير واحتلال نسبة مهمة من الحقيقة مكانها. ربما كان هذا التحول من الأسباب التي قادت إلى هزيمة مرشحة الحزب الديمقراطي بسبب مشاركة الإدارة السابقة في حرب الإبادة الجماعية التي بدأت في غزة وامتدت إلى جنوب لبنان والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت.. وإلى العاصمة اللبنانية نفسها.

في المشهد الظاهري العام تضغط إدارة جو بايدن على الكيان لتسريع إنهاء المهمة. وهذه يقصد بها إنجاز عملية التطهير العرقي والتشريد والتدمير المخطط لها في قطاع غزة واحتلال مساحات في الجنوب حتى شمال نهر الليطاني وبناء مستوطنات تشكل حاجزاً في وجه المقاومة التي أكدت جدارتها في صد العدوان الحالي.

عودة ترامب

ما يحدث منذ اليوم التالي للطوفان يعتبر، من وجهة النظر الصهيونية والأمريكية، مقدمات ضرورية لإعادة تشكيل المنطقة وفق المخططات التي تمت حياكتها في الغرف السوداء، بما فيها مواصلة دونالد ترامب ممارسة ضغوطاته على دول المنطقة غير المطبعة مع الكيان بعد، وفرض مواقف إدارته عليها باستخدام سياسة العصا والجزرة.

عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بقوة ومارس دوره كرئيس حتى قبل حلول العشرين من يناير/ كانون الثاني، موعد تنصيب الرئيس، ليتمتع بحق استخدام إزرار الأسلحة النووية واتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية، والعدوان على الدول الأخرى الخارجة عن الفلك الأمريكي. المنطقة العربية في عمق إستراتيجية الابتزاز التي ستمارسها الإدارة الجديدة وقد بدأتها، وخصوصاً الضغوطات على دول الخليج العربي وفي مقدمها السعودية التي طالبها ترامب في قمة دافوس يوم 23 يناير الماضي باستثمار تريليون دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، وسيضغط على باقي دول مجلس التعاون الخليجي لتحول عائدات النفط وضخها في الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من صعوبات تتعلق بالعجز الدائم في الميزانية العامة بما يتجاوز 6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتضخم الدين العام ليقترب بسرعة من 100 بالمئة من الحجم الاقتصادي.

قبل الانتخابات، أكد ترامب أنه إذا لم يفز فستحل الفوضى في أمريكا. الفوضى التي تجلت في هجوم أنصاره على مبنى الكابيتول عندما خسر في الانتخابات السابقة قبل أربع سنوات. وفي حملته الأخيرة قدم وعوداً وزعها على الداخل والخارج. ادّعى أنه سيوقف الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، لكنه لم يفصح كيف سيقوم بهذا الفعل المتناقض وطبيعة الولايات المتحدة التي قامت على الحروب منذ تأسيسها بإبادة السكان الأصليين، الهنود الحمر، مروراً بحروب الهند الصينية وخصوصاً فيتنام التي منيت فيها واشنطن بخسارة لا تزال تسجلها أفلام هوليود، مروراً بحربي الخليج وغزو العراق وأفغانستان والتورط في سورية واحتلال بعض من أراضيها وسرقة ثروتها النفطية وتدمير زراعة القمح.

تصرف دونالد ترامب كطاغية عصره، بين 2016 إلى 2020، فنقل السفارة الأمريكية في الكيان من تل أبيب إلى القدس وأعلن أن القدس الموحدة هي عاصمة الدولة العبرية، في خطوة لم يجرأ عليها أي رئيس أمريكي قبله، علماً أن قرار النقل قد اتخذ منذ سنوات طويلة. كما منح هضبة الجولان السورية للكيان وكأنه يتصرف في عقار من عقاراته في أمريكا. وحاول تمرير صفقة القرن التي هندسها صهره كوشنر وكان هدفها تطهير الأرض الفلسطينية المتبقية والتوسع في بناء المستوطنات وإسقاط حق العودة وحصر اللاجئين في بضعة آلاف فلسطيني بدلاً من الملايين المنتشرة في دول الجوار والعالم. وفوق كل ذلك كان يهدد دول الخليج برفع الحماية عنها وإسقاط أنظمتها في أسبوعين إن لم تدفع أثمان الحماية، فحصد نصف تريليون دولار في أول زيارة له خارج الولايات المتحدة هي عبارة عن صفقات تجارية وأمنية وعسكرية، ودعا الكيان إلى ضرب المفاعل النووي الإيراني بعد هجوم إيران الصاروخي على الكيان. وعندما فاز أعلن أن المساحة الحالية للكيان الحالية لا تكفي لاستيعاب المستوطنين ودعا إلى ضم الضفة الغربية وقطاع غزة واحتلال أراض عربية أخرى في لبنان وسورية.. وفي مصر والأردن أيضاً.

المأساة والمهزلة

في روايته التاريخية الجميلة "نيرون طاغية روما"، كثف الكاتب الأمريكي جاكوب أبوت، ولخص حالة الطاغية التي تشبه حالة ترامب. يقول أبوت في مقطع من الرواية: "عندما يجد "زعيم الشعب" نفسه سيداً مطاعاً فإنه لا يجد غضاضة في سفك دماء أهله (قتل أمريكان في واقعة الكابيتول، وتقديمه وعود باحتمال العفو عن ألف شخص متهمين بالهجوم على المبنى إذا فاز في الانتخابات.. وقد فعل في سابقة لم يفعلها أسلافه)، فهو يسوقهم إلى المحاكمة بتهم باطلة، وهي طريقة مألوفة لدى هذه الفئة من البشر. إنه يحتقر القوانين المكتوبة وغير المكتوبة (أعلن ترامب أنه لن يعترف بنتائج الانتخابات إذا خسر)، ولما لم يكن شيء يقف في وجه الطاغية المستبد فإنه يصبح عبد الجنون أو ينقلب حكمه إلى كارثة، فهو يقتل المواطنين ظلماً وطغياناً، ويذوق بلسان وفم دنسين دماء أهله ويشردهم (طرد المهاجرين وبناء الحاجز على الحدود مع المكسيك)، وعندئد يصبح هذا الرجل طاغية ويتحول إلى ذئب كما يصفه أفلاطون".

لم يتأخر ترامب عن إعلان دعمه للكيان حتى قبل انتخابه. فقد أخبر المتبرعين لحملته الانتخابية بأنه "سوف يقوم بسحق الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الولايات المتحدة وترحيل المتظاهرين"، وفق صحيفة واشنطن بوست. بل تمادى وأعلن إنه "يؤيد حق "إسرائيل" في مواصلة هجومها على غزة"، حسب الصحيفة نفسها.

يتجه ترامب في ولايته الثانية إلى تكملة ما أنهى به عهده في دورته الأولى (2016-2020)، لجهة فرض التطبيع على المنطقة العربية، ويستهدف أولاً السعودية التي تشكل ثقلاً اقتصادياً وسياسياً ودينياً مؤثراً في المنطقة. ويرى الإعلام الصهيوني أن فوز ترامب فرصة جديدة لاستعادة وهج التطبيع مع السعودية وتطوير الاتفاقات الإبراهيمية التي أبرمت في 2020، وإعادة إنتاج صفقة القرن، وزيادة التشدد وفرض المزيد من العقوبات ضد إيران وحلفائها في المنطقة. وفي هذا الصدد لا يختلف الديمقراطيون عن الجمهوريين في مسألة التطبيع ودعم الكيان وتمكينه ليكون القوة العظمى في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن فتحت واشنطن جبهتي روسيا والصين. ويربط البيت الأبيض مسألة توقيع اتفاقية أمنية دفاعية مع السعودية بشرط التطبيع مع الكيان، دون النظر إلى مطلب الرياض المعلن والمحدد في إقامة دولة فلسطينية على أراضي حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

ومع مجيء ترامب ثانية للبيت الأبيض، فإن الترحيب به من قبل قادة المنطقة، ليس بالضرورة تعبير عن سعادتهم بفوزه، بقدر ما هو مزيج من التوجس عما يفكر فيه في السنوات الأربع المقبلة والتي من المرجح أن تكون عجافاً على المنطقة العربية، حيث سيعمد ترامب إلى ابتزاز قادة المنطقة كما فعل في دورته الأولى وأكثر، وسيفرض تقديم أثمان باهظة مقابل ما يسميه سيد البيت الأبيض القديم الجديد بالحماية والحفاظ على العروش. وفي هذا التوجه خطر على ثروات المنطقة واستقرارها. فقد تسربت أنباء عن خطة واسعة النطاق بعد جلوس ترامب على كرسي الرئاسة مفادها الموافقة على تصاريح تصدير الغاز الطبيعي المسال وزيادة التنقيب عن النفط. هذا يرجح إغراق الأسواق العالمية والضرب في مقتل أسعار النفط والغاز التي تعتمد عليها الدول المصدرة لهاتين السلعتين المهمتين للاقتصاد العالمي، ومنها روسيا ودول الخليج العربي، وقد بدأ ذلك في منتدى دافوس.