لا شك بأن التطورات الإقليمية ستلقي بظلالها على المنطقة العربية كلها من المحيط إلى الخليج، وقد تحدد وجهتها المقبلة باتجاهات معادية لطموحات جماهيرها في الحرية والديموقراطية والتقدم الاجتماعي، وأن تداعياتها لن تبقى محصورة في رقعة جغرافية محددة. حيث إن المشروع الإمبريالي الأكبر وملحقاته الإقليمية قائم بالأساس على إستراتيجية تتخطى في مضمونها الساحات العربية الملتهبة حالياً، لجهة تركيع الأمة العربية وفرض السيطرة المطلقة على مقدراتها الوطنية وإعادة رسم خارطتها السياسية والاجتماعية على أسس تؤمن وجودها أطول مدة ممكنة، وانطلاقاً من هذه القاعدة فإنه لن يشفع للذين اندفعوا في تنفيذ مخططاته في مرحلة من المراحل مهما كان حجم الخدمات التي قدموها، ومن المعروف والمعلن والملموس بأن بعض الأنظمة الخليجية كانت في طليعة القوى الإقليمية التي ساهمت في تنفيذ هذه الإستراتيجية المرسومة من قبل الدوائر الاستخباراتية الغربية والصهيونية، ولم يكن مستغرباً أو مستبعداً كل تلك الحيوية السياسية والإعلامية والزج بكل تلك الطاقات والإمكانات اللوجستية والمالية والروحية في تنشيط العصبيات والنعرات العرقية والمذهبية والطائفية المقيتة، هذا المخطط الجهنمي هو من صنع الإمبريالية الكولونيالية، بيد أنها عاجزة عن تحقيقه بتلك البساطة دون ظهير محلي يدعمه بشكل قسري في تفاصيل الحياة الشخصية ومفرداتها اليومية، بحيث تتحول إلى ممارسة حياتية اعتيادية يراد لها أن تكون طبيعية من حيث المظهر والسلوك والخطاب الإعلامي والثقافي، بحيث تغيب الوجود الاستعماري وكافة أشكال الاضطهاد والاستغلال والاستعباد والقهر الطبقي والقومي، ولعل الانزلاق نحو هذا المنحى هو أخطر ما واجهته الأمة العربية في تاريخها الطويل بل وأصعب بآلاف المرات من التجزئة والاحتلال العسكري والتبعية الاقتصادية والسياسية التي كانت ومازالت قائمة. غير أن الدور الخليجي الذي يراه البعض منسجماً مع الالتزام التاريخي بالإستراتيجية الأمريكية، لا يخلو من الحسابات والتقديرات الخاصة، أهمها تصدير أزماتها الداخلية وإبعاد شبح التغيير السياسي قدر الإمكان، ولا ريب بأن الارتدادات الناجمة عن التحولات الإقليمية وتفاعلاتها والتي كان لها دور بارز في تشكيل ملامحها السياسية الراهنة ستعكس نفسها - بخلاف توقعاتها - على دورها وفعاليتها وبما يقلل من أهميتها، حيث إن تدمير الأقطار العربية التي يمكن أن تقف في وجه الأطماع الإمبريالية الكولونيالية والصهيونية والإقليمية ذات النزعات التوسعية ليس مكسباً، بل هو أقصر الطرق إلى منابع الطاقة التي تستأثر بحصة كبيرة من عائداتها دون حسيب أو رقيب، وإن زوال الأسباب التي وضعتها من الناحية التاريخية في دائرة الاهتمام الإمبريالي والصهيوني ستضعف مكانتها الوظيفية، حيث إن القوى السياسية الجديدة وإن كانت تتقاطع معها في الخط السياسي العام لديها برامجها وأجندتها الخاصة وعندما تستقر أوضاعها الداخلية ستتطلع لأدوار محورية في عموم الإقليم ولن تبقى أداة بيد الأدوات، وبحكم جملة خصائص ذاتية وموضوعية ربما تكون قادرة على تسويق خدماتها للقوى الإمبريالية بشكل أفضل، سواء من حيث الاستعدادات أو الإمكانات لتعميق الشرخ النفسي الوطني والقومي، الذي هو كنه الإستراتيجية الإمبريالية والصهيونية، هذا لو فرضنا جدلاً بأن هذا السيناريو سيأخذ مجراه دون معوقات، الأمر الذي قد يفرض على القوى الإمبريالية المراجعة والتقييم ومجاراتها حتى تتمكن من تقليم عناصر وعوامل الصمود الفكري والسياسي والثقافي، ولا نقول اقتلاعها كما تحلم القوى الاستعمارية، لأن ذلك مستبعد نهائياً، وبمجرد ملامسة هذا البعد المفصلي المتجذر والمتأصل في عمق الذهنية الإمبريالية والصهيونية بالتأكيد سيعلي من شأنها، وبما أن شبكة التحالفات الإمبريالية والصهيونية الواسعة والمعقدة لا تعرف الثبات، فإنها لن تجد حاجة ماسة لمراعاتها بعد انتفاء الدواعي التي أملتها ظروف ومعطيات لم تعد موجودة. علاوة على ذلك فإن التعبئة والشحن المذهبي التي قطعت أشواطاً متقدمة في الأوساط الشعبية ستكون عملية ضبطها والسيطرة عليها مكلفة، وستشكل التحولات الإقليمية المستجدة بيئة حاضنة لمثل هذا التوجه العقائدي، وبما أن المسائل متداخلة وتأثيرها متبادل فإن الضخ المالي الهائل الذي قدم للجماعات المسلحة خلال العقدين الماضيين كان على حساب القضايا والمعضلات الاجتماعية الأساسية وقد ولدت بالفعل حالة احتقان لدى قطاعات اجتماعية عريضة أصبحت مضغوطة بالهموم المعيشية، ومن الطبيعي أن تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل أكثر حدة من ذي قبل، ومن جانب ستخلق تربة خصبة تنعش الخلايا الأصولية بتلاوينها وصبغتها المذهبية المتشددة، ومن جانب آخر يمكن أن توفر الأرضية الموضوعية للنضالات الوطنية المطلبية والسياسية، وبطبيعة الحال فإن هشاشة تكوينها السياسي والاقتصادي من المرجح أن تجعل منها الحلقة الأضعف في سلم التحالفات الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وبحسب المؤشرات الأولية وبعيداً عن التباهي والإنشراح والحبور ووفقاً لمعادلات الربح والخسارة ومعاييرها يمكن إدراجها وإن بدرجات متفاوتة في عداد الخاسرين، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتمكن الجماهير الشعبية الخليجية من استثمار مأزقها التاريخي؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القادمة.