تحملني الذاكرة إلى الماضي غير القريب وتحديداً إلى أواسط ستينيات القرن الماضي. كنت حينها في سنواتي الثمانية من العمر. وأشحذ الذاكرة الآن لأنقب عن بقايا ما بقي من أحداث ومواقف عشتها في قريتي سلوان جارة القدس وحامية أقصاه.
ومن تلك الذكريات التي لها علاقة بابن عمنا القائد المشتبك والثوري الراسخ القدمين في النضال وميادين القتال ودروب الكفاح أبو أحمد فؤاد أو كما نطلق عليه وبلهجة قريتنا داهود مراغة.
من أولى صفحات الذاكرة التي لا يزال يختزنها الفكر وتعيش في الروح تلك الحادثة التي وصلت أخبارها إلى (حارة آل مراغة) التي تطل على (بير أيوب) وتجاور (حارة اليهود اليمنيين) التي سكنوها قبل إنشاء دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
تلك الأخبار القادمة من القدس والتي أفادت باعتقال داهود مراغة الذي كان يشارك في إحدى المظاهرات في المدينة المقدسة، ولأسمع من رجال العائلة أن سبب الاعتقال لأنه قومي عربي، وكان يشارك في مظاهرة تأييداً لحركة القوميين العرب وللرئيس المصري الخالد جمال عبد الناصر.
كلام كبير كان عصي الفهم على صبي لم يغادر ملاعب الطفولة ومراتع الصبا ويغيب داهود مراغة في سجون النظام الأردني لعدة أشهر وأظنها ثلاثة، وعند إطلاق سراحه وقدومه إلى منزل العائلة أذكر أنه تم له استقبال حافل، وإلى الآن أذكر الأسلاك الكهربائية التي تحمل مصابيح الإنارة التي انتشرت وعلقت على مدخل البيت وامتدت إلى ساحة منزل العائلة.
وينقطع شريط الذكريات عند هذه الحادثة، ولتحدث بعد سنوات نكسة حزيران في العام 1967 ولنغادر قريتنا سلوان ويكون النزوح إلى الأردن لعلة عمل والدي الذي كان ضابطاً في الجيش الأردني.
وفي الأردن انقطع التواصل الحقيقي مع أبو أحمد داهود مراغة لوجوده أكثر الوقت كقائد عسكري في الجبهة الشعبية، حيث كان تمركزه في أغوار الأردن على تخوم فلسطين.
ومن الأحداث التي عرفتها وسمعتها في تلك الفترة أنه كان دائم اللقاءات والتواصل مع ابن عمومته (أبو موسى) الضابط في لواء الأميرة عالية والذي كان متموضعاً في منطقة الأغوار الأردنية وفي قرى الكرامة والشونة وما جاورهما.
ولأن أبو موسى كان على تواصل مع الفدائيين الذين كانت قواعدهم تنتشر في تلك المنطقة وهو الذي كان ينقلهم بسيارته إلى مناطق قريبة من نهر الأردن في طريقهم إلى داخل فلسطين لتنفيذ عملياتهم الفدائية داخل الأرض المحتلة.
وفي هذه الأثناء يلتقي الاثنان أبو موسى وأبو أحمد والذي عرفه في تلك الفترة على المناضل الوطني الدكتور جورج حبش وأبو علي مصطفى وغيرهم من قيادات الجبهة التي كانت تزور قواعد الفدائيين في الأغوار الأردنية.
المناضل والفدائي والثائر أبو أحمد والذي كان يمضي جل وقته متنقلاً بين القواعد في الأغوار وبين كمائن المقاتلين ومشاغله السياسية والتنظيمية والعسكرية في تلك الفترة قبل أيلول عام 1970، كان يقتنص سويعات قليلة يعود فيها إلى عمان العاصمة، ليأخذ قسطاً من الراحة في بيت عمته في أحد جبال عمان (جبل النظيف) وحيث كنا نسكن أيضاً، وأذكر أني شاهدته مرة يزورها برفقته شاب آخر يقال له عبد الرحيم ملوح، والذي كان يقود سيارة نوع فولكس فاجن أتى بها الاثنان إلى تلك الزيارة القصيرة.
وبعد أحداث أيلول عام 1970 في الأردن وانتقال فصائل الثورة الفلسطينية إلى سورية ولبنان، وبطبيعة الحال انتقلنا نحن كعائلة إلى سورية بعد أن انضم والدي إلى الثورة الفلسطينية تاركاً المناصب والمكاسب والرتب في الجيش الأردني دفاعاً عن الثورة ومصطفاً إلى جانب كل المناضلين من أخوته ورفاقه الذين انضموا كذلك إلى قوات الثورة الفلسطينية.
وفي سورية تصبح العلاقة أقرب وأكثر تواصلاً مع أبي أحمد، خاصة أن ظروفه لم تكن تسمح لا بشراء منزل ولا استئجار آخر.
وأقمنا نحن كعائلة في إحدى مناطق دمشق (حي ركن الدين) وفي تلك الفترة 1970/ 1971 يقرر أبو أحمد الزواج، وكانت شريكته في هذا المشروع المناضلة والفدائية إحسان برناوي شقيقة الفدائية والأسيرة الأولى فاطمة برناوي.
ونظراً للظروف التي أسلفت، نعطي لأبي أحمد وعروسه غرفة في الشقة التي كنا نستأجرها في تلك الفترة.
صحيح أنه لم يكن يقيم كثيراً في البيت، وأكثر أوقاته في المواقع ومكاتب الجبهة حيث كان العمل النضالي مستحوذاً على جل وقته، وفي تلك الفترة يرزق أبو أحمد وزوجه بطفلتهما (عبير) التي تربت بيننا وكواحدة من أفراد العائلة وبعدها بفترة قصيرة ينتقل أبو أحمد وعائلته إلى لبنان حيث استقر هناك.
ولعلي أتذكر الآن وبعد زواجه بفترة قصيرة، أراد أن يخرج مع زوجته الجديدة في مشوار خاص، واتفقا أن يذهبا إلى إحدى دور السينما، وباعتباره لا يعرف شيئاً عن دور السينما انتدبني لأرافقهما وأدلهما إلى إحدى تلك صالات العرض السينمائية في دمشق، وقادتني قدماي إلى منطقة الصالحية وتحديداً إلى إحدى دور السينما والتي تحمل اسم سينما دنيا، وإلى اليوم وبعد مرور ما يقارب أكثر من خمسين سنة لا زلت أذكر اسم الفلم الإنكليزي وبطله الممثل الكوميدي (نورمان ويسدوم) وحمل الفلم اسم بائع الحليب...
وفي لبنان وفي جنوبه تحديدا حيث انتشرت قوات الثورة الفلسطينية لمختلف الفصائل ...وجمع الميدان النضالي والكفاح المسلح ابناء العم ابو موسى وابو أحمد فؤاد .الأول من خلال قيادته الكتيبة الأولى في قوات اليرموك. وبعدها قائدا لقوات العاصفة في جنوب لبنان ومن ثم كقائد للقوات المشتركة الفلسطينية والوطنية اللبنانية. وابو أحمد فؤاد كقائد عسكري في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ...واجتمعا أيضا في المجلس العسكري لقوات الثورة الفلسطينية...وكثيرا ما كان يحتد النقاش في هكذا مواقف وكل يمثل الفصيل الذي ينتمي اليه..ولكن كان الاثنان يغلبان الانتماء لفلسطين وللقربى العائلية..فوق اي انتماء..
ويقول أبو موسى بعفويته ودماثته لن أختلف ولن أخاصم أبو أحمد حتى لا يقول رجال ونساء آل مراغة في سلوان : " إن أبوموسى خاصم ابن عمومته أمام الغرباء...".
وبعد خروج الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982، عاد أبو أحمد واستقر في سورية، وهذه المرة من دون عائلة حيث حدث الطلاق وسفر الابنة الوحيدة واستقرارها في عمان نظراً لظروف عملها.
وفي تسعينيات القرن الماضي يقرر أبو أحمد من جديد تطليق حياة العزوبية وليقع اختياره على إحدى بنات مختار آل موعد في مخيم اليرموك، ولتذهب جاهة لطلب القرب من آل موعد وكان على رأس تلك الجاهة القائدان الكبيران الراحلان أبو موسى وأبو علي مصطفى رحمهما الله، وكنت شخصياً حاضراً والتي تكللت بالزواج وإنجاب ثلاثة أبناء.
كانت هذه بعض المحطات والأحداث التي اختزنتها الذاكرة، وشذرات من مواقف بقيت عالقة في تلافيف القلب والروح.
والذي يعرف عن أبي أحمد فؤاد أنه وهب وقته وحياته وفكره للعمل والنضال، ولم يكن يأبه لحياته الشخصية ولا للمكاسب الذاتية، وكم كان والدنا رحمه الله يدعوه إلى منزلنا عندما كانت المرحومة الوالدة تطهو شيئاً من الأكلات الفلسطينية الشهيرة في المناسبات، ولكن رحمه الله إما كان يعتذر أو يحضر متأخراً مفوتاً على نفسه أكل وجبة الجريشة أو المسخن وذلك كرمى لعيون فلسطين وكرمى التزاماته العملية.
رحمك الله أبو أحمد ولذكراك الخلود..