تستحضر مظلومية الأسرى الفلسطينيين شهادة الرئيس الأرغواني السابق، خوسيه موخيكا، الملقّب بـ(Pepe) أو بيبّيه[1]، الذي قضى في سجون نظام الإرهاب السياسي والديكتاتورية العسكرية في الأرغواي نحو 13 عاماً (1973-1985) بسبب انتمائه لحركة التوباماروس اليسارية الثورية، مكث 10 سنوات منها في العزل الانفرادي، وسبعاً دون قراءة كتاب، علاوة على استخدامه في بعض مفاصلها كرهينة أيضاً، مهدَّدَاً بالقتل في أيّ لحظة، في محاولة الديكتاتورية قمع المعارضة، تماماً كما يعيش الأسرى الفلسطينيون.
عُزل بيبّيه في قبو تحت الأرض، وحسب مذكراته المعنونة بـ"الثورة الصامتة (Calm Revolution)"، فقد عاش قرابة السنتين في بئر عميقة، محروماً من أي تواصل إنساني، سوى الحديث مع الحشرات والضفادع، ويذكُرُ أنه قد طوّر استراتيجيات تبقيه على قيد الحياة، وقام بمحاولات للصمود والحفاظ على أهليته النفسية والذهنية، كمحاولته استذكار قصائد وأغانٍ يحافظ بترديدها على ذاكرته، كما أنه مارس إعادة كتابة نصوص في ذهنه، بسبب منعه عن القراءة والكتابة، وطوّر نظام تواصل سرّي مع رفاقه كترميز الضربات على جدران الزنزانة.
جسدياً، وحسب مقابلة مع صحيفة الجارديان، وأفلام سيرته الذاتية، تعرّض بيبّيه لتجويع وتعطيش شديدين، اضطر تحت وطأتهما إلى التكيّف عبر ابتداع آليات صمود تحافظ على قدراته الجسدية وتركيبته البيولوجية. فحسب تصريحاته في فيلم جسّد سيرته الذاتية[2]، اضطر بيبّيه في بعض المرّات إلى شرب بوله المعبّأ في قناني المبولة، بعد انتظار استكانة أملاحه. وفي مقاربة لواقع الحال مع اختلاف قسرية الفعْل وقساوته، وما يرشح لنا من شهادات أسرانا؛ أُجبر الأسرى الفلسطينيون على شرب بول جنود الاحتلال ضمن ممارسات التعذيب الممنهجة ضدهم، والتي تصاعدت وتيرتها أضعافاً بعد السابع من أكتوبر 2023.
"أسرى حرب"
قبل السابع من أكتوبر بعقود طوال، ناضل الفلسطينيون عبر المؤسسات الحقوقية في المحافل الدولية من أجل الاعتراف بالحالة القانونية للأسرى "كأسرى حرب" و"مقاتلين من أجل الحرية"، ومعاملتهم على هذا الأساس، وهو الأمر الذي رفضته السلطات الإسرائيلية القائمة بالاحتلال على الدوام، متذرعة بادعائها أن الأسرى "لا ينتمون لطرف في النزاع"، حيث باتت أرضية المعاملة في الإطار القانوني مختلة وعاقة حكماً، حتى بعد انضمام فلسطين لاتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها في 2014، وارتقائها إلى دولة طرف؛ إذ لم يعد للسلطات الإسرائيلية أي مسوغ قانوني يبرر عدم تطبيقها لإحدى الاتفاقيتين أو كلتيهما.
ما يجري على أرض الواقع هو اعتقال الأسرى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بناء على التشريعات الجزائية وأنظمة الطوارئ التي كانت سارية قبل نكسة 1967، والتي يوظف الاحتلال ما يبغى منها مستنداً على قوانين الانتداب البريطاني - بما فيها الاعتقال الإداري[3] العقيم - والقانون الأردني، فضلاً عن سلسلة من آلاف الأوامر العسكرية التي تطبقها قوات الاحتلال على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتلك المبتدعة التي تعكس حقيقة اسرائيل كنظام فصل عنصري، مثل قانون تامير، وقانون مكافحة الإرهاب وغيرها من القوانين التعسفية والمصممة بتعصب وعنصرية مفرطة ضد فلسطينيي الداخل، ما يزيد الهوة بين أسرانا وحريّتهم وينتزع حقوقهم في شتى الأمور الحياتية، وبالتالي، وبحكم التأطير القانوني الهجين للكانتونات المختلفة في عموم فلسطين المحتلة؛ تتقلّص مساحة الأسرى والمحررين منهم، في ممارسة مواطنتهم والتمتع بكامل الحقوق الدستورية الأصيلة من مدنية واجتماعية ونقابية، تلك التي كفلها القانون الأساسي الفلسطيني وكافة القوانين الدولية، وتعتبر مدخلاً أولياً لحقوق الإنسان.
أما على صعيد المعاملة، فلم تأبه "اسرائيل" أصلاً بشأن أصول معاملة المعتقلين الفلسطينيين، فلطالما كانت جزءاً من نظام استعماري يقوم على الأبارتايد، ترتكب ضد الأسرى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مطبقة عليهم كافة أساليب التعذيب والفوقية، كما حدث مع الأسير عرفات البرغوثي، وسامر العربيد، وعبد الرازق فراج، ويزن مغامس، وقسام البرغوثي، وغيرهم من المناضلين. والجدير بالذكر هنا، أن أصول المعاملة فرضتها الحركة الأسيرة بقوة وصلابة على إدارة مصلحة السجون، من خلال تنظيم نفسها بنفسها، وترتيب أمورها الحياتية، ما مكّن الأسرى من انتزاع حقوقهم اليومية، وأنّ جلّ ما حققته الحركة الأسيرة في السجون الصهيونية من إنجازات، جاء نتيجة نضالات ومعارك ودماء الأسرى وأمعائهم الخاوية في السجون.
تحويل الأسرى إلى رهائن
بعد السابع من أكتوبر، وتحت طائلة الحقد والانتقام الخالِصَيْن؛ جرّدت إدارة مصلحة السجون، وبإيعاز من المستوى السياسي وعلى رأسه إيتمار بن غفير (ما يسمى بوزير الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق)، كافة الأسرى السياسيين من حقوقهم، وما حققته الحركة الأسيرة من إنجازات ونضالات في السابق، بل أسقطت عنهم الصفة الإنسانية، وتفنّنت بتعذيبهم في معسكرات الاعتقال العلنية والسرية، وبذلك؛ حوّلت منظومة الاحتلال الاستعمارية الأسرى إلى مجرد رهائن لدى مصلحة السجون، مستغلة الإبادة والنحر القائم في القطاع، ومتفرّغة بكل ما فيها من تلذذ ساديّ على الأسرى، مع تبجّح جنود الاحتلال وتصويرهم مقاطع فيديوهات وبثها على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، توحي بكمية استمتاع غير آدمية على الإطلاق في عملية التعذيب، حيث أمعنت المنظومة بكلّ مكوّناتها قصداً في إسقاط أقسى أشكال التعذيب والاضطهاد والدونية عليهم، ما يعكس، وبدلالة جميع استطلاعات الرأي الإسرائيلية الفادحة في مؤشرها، مجتمعاً مريضاً، يروّج لقتل الفلسطيني ويهلّل لإبادته، مستكملاً جرائم الإبادة في مسارح السجون، وممعناً في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
بتحويل الأسرى إلى رهائن، تُحْكِمُ "إسرائيل" قبضتها عليهم وعلى عائلاتهم، مستخدمة قضيتهم كورقة للمساومة والابتزاز السياسي، وفرض سياسة الأمر الواقع، وتتركهم كي يَفْعَلُ بهم السجان ما يشاء، دون حسيب أو رقيب. وقد شكّلت روايات وشهادات المعتقلين، تحوّلاً بارزاً عَكَسَ مستوىً غير مسبوق في توحش منظومة الاحتلال وجرائم الإبادة الممتدة للسجون، والتي تنوّعت ما بين القتل، والتّعذيب، وعمليات التّنكيل والحرمان من أساسيات الحياة، وإطلاق الكلاب والتفتيش والضرب بالعصيّ والصعق بالكهرباء، والتّجويع والتبريد، بالإضافة إلى الجرائم الطبيّة الممنهجة، والاعتداءات الجنسية التي وصلت حد الاغتصاب، واستخدام الأسرى دروعا بشرية، وكل ما تدنو إليه وحشية وساديّة السجّان من جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي أدت وتؤدي إلى استشهاد العشرات من المعتقلين الذين وصل عددهم إلى 63 شهيداً[4].
هاغاناه Promax
بعيداً عن التوصيفات الإجرائية للحالة؛ وَحْدهم الأسرى يدركون، جرّاء جَلَدهم وما يعايشونه يومياً، حقيقة أنهم رهائن عند عصابات صهيونية. وتعكس جميع شهادات الأسرى المحررين في الإعلام بؤس الحال التي عاشوها داخل قلاع الأسر، وتؤكد أنهم رهائن لدى عصابات تتحكم بها مزاجيتها وحقدها المسبق تجاه كلّ ما هو فلسطيني، ما يجعلها في الحقيقة نسخاً محدّثة عن (الهاغاناه)، يدفعها الوهم بالحقّ في الوجود على حساب الفلسطيني، مع كامل الطمع بإحلال نفسها ومن شابهها مكانه.
تواطؤ الإعلام الغربي وضرورة وضوح الخطاب الفلسطيني
تشنّ ماكينة الإعلام الصهيونية حرب إبادة على الرواية الفلسطينية، مفبركة الحقائق ومشوّهة الأحداث التاريخية، وكأن أصل الحكاية بدأ في السابع من أكتوبر فقط، حيث تعمّم هذه الآلة مصطلحاتها على الأبواق الغربية من الإعلام المتواطئ. وبالرغم من فيديوهات القصف والإبادة التي حدثت وتُنقل على الهواء مباشرة ومن الصور القبلية والبعدية التي خرجت لعشرات الفلسطينيين من الأسرى المحررين، إلا أن الإعلام الغربي يهمّش شهاداتهم، ويتعمد التعتيم عليها، في ممارسة مضلّلة تحجب السرديات الدقيقة عن الشعوب. إضافة لذلك، منعت الرقابة العسكرية الأسرى الإسرائيليين (من الجنود) و/أو الرهائن الإسرائيليين (من المدنيين) - إذا أردنا الاحتكام للقانون، بحكم اختطافهم ودعوى مقابَلَة الإفراج عنهم بآخرين وفق شروط معينة لدى فصائل المقاومة المختلفة - من الظهور الإعلامي والحديث عن تجربتهم في الأسر، ولم تسمح هذه الرقابة إلا بمقتطفات مجتزأة ومركّبة، تهدف إلى تصوير آسريهم بالصورة التي يريدونها.
ولا ننسى كيف قدّمت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) اعتذارًا لإسرائيل عن استخدام المذيع نيكي شيلر لفظة "السجناء" على الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وذلك خلال بث مباشر لعملية تبادل أسرى "طوفان الأحرار". وفي أعقاب ذلك، وبعد أيام وجيزة، لم يسكت اللوبي الصهيوني عمّا وصّفته القناة بمجسّات رقابتها الشخصية على أنه "سقطة إعلامية" من ماكينة إعلام مساندة بالكامل لمنظومة الاحتلال، فجاء الاعتذار بعد ستة أيام من الحدث، ما ينبئنا بأهمية استخدام لغة مهنية واضحة ودقيقة مع ضرورة التأسيس لانتقاء مصطلحات سرديتنا في الحكاية، ما يدفعنا بوعي صرف، وبحكم المهنية وواقع الحال، لتبنّي مصطلح (رهائن) لتوصيف الحال بملء أفواهنا وبالبنط العريض، كأن نقول: "لدينا 10,400 رهينة فلسطينية في سجون الاحتلال".
الإخفاء القسري
وفي معرض الحديث عن الرهائن، وما تذوّقه بيبّيه وآلاف الأورغوانيين من إخفاء قسري، ما يزال لدينا 10,400 رهينة فلسطينية في السجون[5]، ناهيك عن الغزيين المخفيين قسراً، حيث استحدث الاحتلال عدة معسكرات خاصة لاحتجازهم، أعدم جزءاً منهم إعداماً ميدانياً، بينما اقتاد في العراء آلافاً آخرين بعد أن حملهم بالشاحنات إلى معسكرات اعتقال إلى جانب السجون المركزية، مثل معسكر (سديه تيمان)، و(عناتوت)، ومعسكر استحدث مؤخراً في حيّز (عوفر)، وآخر يدعى (نفتالي)، واستحدث الاحتلال تصنيفاً جديداً لعذاباتهم وأطّرهم "قانونياً" بتسميتهم (مقاتلين غير شرعيين). وحسب هيئة الأسرى ونادي الأسير، لا يوجد تقدير واضح يحدد عدد المعتقلين من غزة في سجون الاحتلال، في حين لم تتمكن المؤسسات الحقوقية حتى اللحظة من رصد عدد حالات الاعتقال من غزة، في ضوء جريمة الإخفاء القسري التي فرضها الاحتلال على معتقلي غزة منذ بدء الحرب، ويقدر عددهم بالآلاف.
على غرار المحارق التي مورست في معسكرات الاعتقال في فلسطين المحتلة، وعلى نحو مماثل تاريخياً؛ تعرّض السجناء السياسيون الأورغوانيون للتعذيب المنهجي في سجن ليبرتا[6](Penal de Libertad)، والذي كان من أكثر السجون شهرةً في قمع المعارضين، إضافة لقاعدة باسو ديلوستوروس العسكرية، ناهيك عن المعتقلات السرية التي كانت تديرها قوات الأمن والمخابرات. أمعنت الدكتاتورية العسكرية في ممارسة التعذيب على المعتقلين كتطبيق عملي لنظرية الصدمة[7]، يعرِّض الفاعل – وهو المتحكّم ببيئة وظروف الضحية (المفعول به) - الضحية لتعذيب هائل يفوق درجة الاستيعاب، كضربٍ أقرب إلى الجنون، يتمكّن من خلاله الفاعل بإعادة تشكيل هوية المعتقل على النحو الذي يريده، كإعادة ضبط إعدادات العقل مرة أخرى والسيطرة عليها، أو برمجته من جديد وفق أهوائه الخاصة. وتفنّنت الحكومة العسكرية في استخدام تقنيات التعذيب على معارضيها، كالصعق الكهربائي، وإغراق الرأس في المياه، والاغتصاب، والعزل والتجويع، تماماً كما يحدث مع الرهائن الفلسطينيين.
تماهي أدوات الاستعمار في المعمورة
حصلت حوادث مشابهة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ حيث مارست الديكتاتورية العسكرية في الأوروغواي الإخفاء القسري على مستويات متقدمة عابرة لحدود البلاد، واختطفت الآلاف ونقلتهم إلى سجون سرية، كما سلّمت البعض إلى أنظمة دكتاتورية أخرى في أمريكا الجنوبية ضمن ما يُعرف بـ"عملية كوندور الجاسوسية"، والتي هدفت إلى اقتلاع اليساريين، والنقابيين، والكتّاب، والصحافيين، وحركات المقاومة التي كانت تعارضها. علاوة على النفي خارج الحدود، شاركت الحكومات المتواطئة من دول الجوار في أمريكا اللاتينية، وجارة كندا، وبعض الدول الأوروبية بالاغتيالات العلنية للشخصيات البارزة في المعارضة، وكذلك بشنّ حملة على السياسيين المنفيين في محاولة لتسليمهم إلى حكومات بلادهم ليتم تعذيبهم أو تصفيتهم، تماماً كما حدث ل عمر النايف الذي اغتيل حتى بعد احتمائه في سفارة فلسطين في بلغاريا.
وكما حدث في الأوروغواي، فقد حدثت في بعض الدول ممارسات تعذيب وقتل، مثل جعل المعارضين السياسيين يتدلون من الطائرات أو رميهم في المحيط الأطلسي لإخفاء جثثهم، وهو ما يذكرنا بأسلوب التعذيب الذي استخدمته المخابرات الإسرائيلية مع المناضل الراحل نادر العفوري من نابلس لانتزاع اعتراف منه، حيث ربطوه بالحبال وأنزلوه من طائرة عمودية[8]، وهي تطير به فوق قرى نابلس.
ويقدر عدد الذين لقَوا حتفهم قتلاً على يد الديكتاتورية الأوروغوانية البوليسية وأتباعها في عملية الكوندور ما بين 50-80 ألف شخص، بينما تعرض 400 ألف شخص للاعتقال والتعذيب، وهناك 30 ألف مفقود لم يتم العثور على أثر لهم حتى اليوم، بالرغم من حملات المساءلة، التي سعت جاهدة لمحاسبة القتلة على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. نستدل من جميع ما سبق، ومع الإخفاء القسري لآلاف الغزيين في حرب الإبادة، عن تماهي أدوات الاستعمار في أقاصي الأرض، واستخدامها ضد المناضلين.
وإلى الكربون تعود
وعلى نحو مماثل، وبعد وقف إطلاق النار المتعثّر في القطاع، وعودة الغزيين إلى الشمال، واجتيازهم محور "نتساريم" البغيض الذي يقسّم غزة إلى قسمين؛ يجد الغزيّون في طريقهم الكثير من الهياكل العظمية لأشخاص أعدموا وباتوا مفقودين لدى أهاليهم، حيث لا حصر لهؤلاء، بالرغم من إعلان وزارة الصحة في قطاع غزة عن فقدان 14 ألف شخص في عداد الشهداء، ناهيك عن أقسى اختفاء، لمن لن يكون له شاهدة قبر أو ما شابه، والذين يقدرّون بأكثر من حوالي 2,800 شهيدٍ في غزة، ممّن أعلن الدفاع المدني عن تبخّر أجسادهم في الهواء، وتحرّرهم الكونيّ على هيئة كربون.
التمايز في "الشرط الاستعماري" لفلسطين
بالرغم من الممارسات التعسفية والأساليب القمعية المتشابهة والمشتركة للنظامين الواردة أعلاه، إلا أن هناك اختلافاً يتمثل في تباين تطابق الأهداف والمساعي لكل منهما، حيث أن الفارق الجوهري والمختلف في كلتا الحالتين يتجسّد في وجود الشرط الاستعماري لفلسطين التاريخية، وهو ما تغيّبَ في هيكل النظام الديكتاتوري العسكري في الأوروغواي، والسياق السياسي الذي تدرّج قبله وصولاً إليه.
تكرّس في الأوروغواي نظام ديكتاتورية عسكرية محلية، استهدف إخضاع أفراد المجتمع الموحد عرقيا وثقافيا، وفرض الهيمنة السياسية وضبط الفضاء المدني لصالح اللون الواحد. ولفهم السياق أكثر، يجدر بنا على الأقل العودة عقدين من الزمان إلى الوراء، قبل الفترة التي نضع ممارساتها العنفية تحت المجهر (1973-1985). ففي أوائل الخمسينيات، كانت الأوروغواي توصف "بسويسرا الأمريكيتين"، حسبما نشر في صحيفة نيويورك تايمز عام 1951، الوصف الذي أُطلق عليها لنظامها الديمقراطي المستقر وازدهارها الاجتماعي النسبي واستقرارها المالي، ما عكس حالة من الحياد السياسي. فمنذ أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه، تبنّت الأوروغواي نموذج دولة الرفاه الاجتماعي تحت حكم حزب كولورادو، حيث أُنشئت مؤسسات قوية وحظت الحقوق الاجتماعية في مجالات التعليم والرعاية الصحية والعمل على نحو متقدّم، وتبنّت الأوروغواي قوانين مصرفية مستوحاة من النموذج السويسري، ما جعلها ملاذًا جاذبًا لرؤوس الأموال الهاربة من أوروبا بعد الحرب، لكن سرعان ما تبدد ذلك وتدهورت الأوضاع حال بزوغ أزمات اقتصادية وسياسية وتوترات اجتماعية مع تصاعد البطالة والتضخم، برزت على إثرها شرائح مجتمعية بفجوات طبقية جلية بينها، الأمر الذي شكّل اعتلالاً عضوياً شلّ حيوية المصفوفة التي كانت يوماً ما مزدهرة، وأدى في نهاية المطاف إلى انقلاب داخلي، اتصف فيما بعد بالديكتاتورية العسكرية.
مثلما حصل مع المناضلين الأوروغوانيين بُعيد تحررهم من السجون العسكرية في 1985، لاقى الأسرى المحررون دعما شعبياً ومجتمعياً وتوجيهاً لمسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، حيث احتضنتهم الكثير من العائلات والحركات اليسارية والنقابات العمالية والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية
في المقابل، تتمحور القضية الفلسطينية حول وجود احتلال إسرائيلي تحت مظلة مشروع استعمار استيطاني لعموم فلسطين، يسعى إلى إحلال مجتمع جديد في رقعة الأرض ذاتها على حساب السكان الأصليين الذين يواجهون خطر الإلغاء الدائم، مما يجعل القمع أداة لترسيخ استيطان طويل الأمد، يهدف إلى خلق واقع هجين وتسويقه على أنه "فطري"، عن طريق تفكيك البنية الديموغرافية للسكان الأصلانيين، وتهجيرهم القسري وعزلهم في كانتونات منفصلة عن بعضهم البعض، والسيطرة عليهم وتدمير هويتهم الوطنية والاجتماعية والثقافية، واستخدام " ما تبقى منهم" كنماذج للتعبير عن "الأقليات"، بينما ينسب الاحتلال لنفسه الأحقية في ممارسة جميع ما ذكر، مصوّراً حُسن تفوّقه الأخلاقي بتبنّي استيعابهم (الأقليات) عن طريق إعطائهم فتات حقوق لترويج قيم الديمقراطية والتعددية التي يدّعي.
فلسطين تتفوّق على الأوروغواي!
قبل نحو أربعين عاماً، كان معدل السجناء السياسيين في الأوروغواي من أعلى المعدلات في العالم، حيث تشير التقديرات إلى أن واحداً من كل 50 شخصاً تعرّض للاعتقال أو الاستجواب، وأنّ واحداً من كل 500 شخص قد سُجن لأسباب سياسية وتعرّض للتعذيب، حيث كان هناك حوالي 6,000-7,000 سجين سياسي لفترة طويلة، وقد اعتُقل أكثر من 500 ألف شخص لفترات متفاوتة، علماً أن عدد سكان الأوروغواي في السبعينيات كان يقارب 3 ملايين نسمة. وفي مقارنة فظيعة مع ما يجري في فلسطين المحتلة، ومع عدد من أِطلق سراحهم في صفقة التبادل الأخيرة، إلا أن الحقيقة الصارخة، والتي لن تجدها تعتلي مواقع الـBBC أو الـCNN، أن (اسرائيل) لطالما كانت وما زالت تحتجز أطفالا ونساء وشيوخاً وشباباً بعمر الورد، يأتون من خلفيات متعددة، منهم الطبيب، والمهندس، والعامل والمزارع، والباحث، والصحافي، والمخرج، وغيرهم كثر، وصل عددهم لغاية اللحظة إلى 10,400 رهينة، بينهم أكثر من 3,500 رهن الاعتقال الإداري (السجن دون تهمة أو محاكمة)، على غرار الاعتقالات التعسفية في ظل الدكتاتورية الأوروغوانية.
وبحسب تقارير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، احتُجز أكثر من 600 ألف فلسطيني في السجون الإسرائيلية لمدة أسبوع أو أكثر بين عام 1967 والانتفاضة الأولى. كما صرّح مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض أن 800 ألف فلسطيني، أي حوالي 20% من إجمالي السكان و40% من الذكور، قد سُجنوا على يد الاحتلال بينهم حوالي 100 ألف حالة اعتقال إداري. وقدّر الصحافي روري مكارثي، مراسل الجارديان في القدس ، أن خُمس السكان الفلسطينيين قد سُجنوا منذ عام 1967 إلى 2009، مخمّناً الرقم بحسب التعداد السكاني المتزايد يومها، والمقدّر بـ(3.94 مليون شخص).
إذا أردنا احتساب نسبة المعتقلين الفلسطينيين حتى يومنا هذا في ظل الاعتقالات التي لم تتوقف منذ 1967، آخذين بالحسبان نمو عدد السكان، وعلى غرار تقديرات مكارثي، وبيانات التقارير الأممية والمؤسسات ذات العلاقة، فقد أفادت تقارير الأمم المتحدة، وهيئة شؤون الأسرى والمحررين، أن عدد الاعتقالات بحلول 2023، تجاوز المليون فلسطيني منذ عام 1967. ومع التزايد غير المسبوق لعدد الأسرى بعد السابع من أكتوبر دون إحصاء الغزيين منهم، وأولئك الذين ظلت بياناتهم غير موثقة ما يجعل الرقم الإجمالي أعلى بكثير فأن حصيلة الأرقام المسجلة فقط تشير إلى 15,700 معتقل فلسطيني (يشمل هذا المعطى من اعتقل، وأبقى الاحتلال على اعتقاله، ومن أفرج عنه)، ومع الأخذ بعين الاعتبار التعداد السكاني الحالي، والمقدّر بـ(5.4 مليون شخص)، ونسبة الذين اعتقلوا مرة واحدة (19%-20%)، فهذا يعني أن 1 من كل 5 إلى 6 أشخاص تم احتُجز منذ 1967.
وعند مقارنة معدّل الاعتقال في فلسطين مع المعدل في الأوروغواي، الموسومة عالمياً بأنها صاحبة أعلى معدل سجن للفرد، والمسجلة ضمن موسوعة غينيس للأرقام القياسية؛ فإن معدل الاعتقال في فلسطين - وإن وجب إدراجها افتراضياً - أعلى بحوالي 91 مرة من معدل الأوروغواي! ومع ذلك.. يبقى العالم صامتاً إزاء رهائننا.
هاجس التحرّر.. متلازمة الأسير
تظل الحرية متلازمة الأسير المزمنة، وهاجساً ينخر ذهنه ووجدانه في كل حين، إيماناً منه بأن السجون ستتحول إلى متاحف، على غرار سجن ليبيرتا الذي سجن فيه بيبّيه، وسجن كيلمنهام غاول الذي سجن فيه الثوار الإيرلنديون وعذّبوا في فترة السبعينيات. ولأن التحرر يبقى هاجس الأسير، فقد هرب التوباماروسي الثائر من سجن بونتا كاريتاس في 1971، ومرة ثانية من سجن ليبيرتا في 1972، وبالرغم من أن المحاولتين باءتا بالفشل، إلا أن بيبّيه قد انتزع حريته أخيراً في 1985 بسقوط الديكتاتورية العسكرية. تأخذنا تجربتا هروب بيبّيه من السجن لاستحضار 6 من أيلول/ سيبتمبر 2021، وهو الزلزال الذي هزّ أمن الكيان، حيث انشقت على إثره أرض فلسطين، قاذفة من جوفها ستّ حمم بركانية إلى سهل مرج بن عامر، مشكّلة بذلك حدثاً مفصلياً سيظل علامة دامغة محفورة عميقاً في وجداننا، مؤكدةً على الممكن وأن السجن المنيع ادعاء لمن يريد تصديق ذلك، وأن كل حصانة إسرائيلية هي محض هراء. فالسجن محض هراء، والقضبان محض هراء، وادعاء القلاع الحصينة هراء بهراء، والأبراج وكشّافاتها محض هراء، والكلاب البوليسية ومقتفو الأثر محض هراء، ولكن أهم ما حدث بعد السادس من أيلول 2021، أن منسوب الإيمان لدى الشعب الفلسطيني قد ازداد أضعافاً، فكان فِعل محمد ومحمود العارضة ويعقوب قادري وزكريا الزبيدي وأيهم كممجي ومناضل نفيعات ومن ساندهم من رفاق ظلّوا مجهولين، حقيقية محضة فقط. وأيضا، بالرغم من فشل عملية الهروب السريالي للجنينيّين الستة، لكن محمد العارضة وزكريا زبيدي، وإياد جرادات وهو أحد الجنود المجهولين الذين حفروا نفق الحرية، ولم يستطع الهرب يومها لخلل فني، قد تحرروا ضمن عملية طوفان الأحرار الحالية.
الإجماع على شخص المناضل
بالرغم من كل هذه التقاطعات ما بين الحالتين الأورغوانية والفلسطينية، إلا أن الأولى قد انتهت بسقوط الدكتاتورية العسكرية فيها، ما أدى إلى العودة إلى الديمقراطية في عام 1985، على نحو مغاير لما هو حاصل في فلسطين التي ما زالت محتلة لأكثر من 76 عاماً.
فبعد تاريخ حافل بالنضال مع حركة التوباماروس، تخللته ممارسات للعنف الثوري عبر ما أسماه "بالمصادرات"، التي كان ينتهجها بيبّيه مع الأغنياء، نصرة للفقراء والمهمّشين، وعذاباته في السجون "التي صنعته" على حد تعبيره، وبزوغ نجمه كسناتور ومن ثم كوزير للزراعة والصيد؛ بايع المواطنون بيبّيه رئيساً للأروغواي، بزيادة تجاوزت نسبة الحسم برقم ليس ببسيط، فترأّس "كاره ربطات العنق" البلاد لمدة خمس سنوات (2010-2015)، ممتثلاً للقانون، ومكتفياً بدورة رئاسية واحدة. ومن أكثر ما برز في فترته، ارتفاع حصة الإنفاق الاجتماعي، وانخفاض معدل الفقر الوطني، كما جرى تعزيز دور النقابات العمالية. وبحسب الاتحاد الدولي لنقابات العمال، "أصبحت الأوروغواي الدولة الأكثر تقدمًا في الأمريكيتين من حيث احترام "حقوق العمل الأساسية، ولا سيما حرية تكوين الجمعيات، والحق في المفاوضة الجماعية والحق في الإضراب"[9].
الوفاء عند التوبامارسي الثائر
كان لخوسيه بصمات في قضايا التضامن العالمي مع الأسرى المعذبين في سجون الاستعمار، فقد وافق على استقبال ستة سجناء من جنسيات مختلفة (أربعة سوريين، وفلسطينيّ، وتونسيّ) من معتقل غوانتانامو سيئ الصيت في عام 2014، مع تأكيده على عمق إنسانية قضية الأسرى وأهمية التضامن الجمعي معها، وأن السجناء-الوافدين إلى الأوروغواي غير مدانين بأي تهم رسمية، ووجب أن تكون بلاده الحاضنة الشعبية لهم.
بعد انتهاء ولايته، إذ كان يتبرع بأكثر من 90% من راتبه لبناء المدارس ودور الإيواء للفقراء والمهمشين؛ آثر بيبّيه دوماً العيش بزهد في نمط حياة متواضع في مزرعته، جلّابة الورود، مع زوجته المناضلة لوسيا توبولانسكي، التي اختار معها عدم إنجاب الأطفال، وكلبته العرجاء (مانويلا) ذات الأرجل الثلاث، كما اعتمد زراعة الأزهار (الأقحوان)، وبيعها، كمصدر دخل أساسي لهما. يجلس بيبّيه على مقعده الخارجي ويشرب المتّة بين دجاجاته، يجلب مونَتَهُ بسيارته البيتل الزرقاء (الصرصور). وذكرت تقارير إعلامية مؤخراً أنه يعاني من مرض السرطان، كما أفصح بيبّيه مؤخراً - والذي يناهز من العمر 90 عاماً - أنه متصالح مع الموت، الذي لم ينل منه عدة مرّات بحكم الرصاصات الست التي تلقاها ولم يمت- وقد باتت طموحاته بسيطة كوصيّته المتواضعة: بأن يدفن في مزرعته بجانب كلبته العرجاء (مانويلا)، التي ظلّت وفية له للنهاية.
وحول صعوبة الإجماع الفلسطيني على شخصية، في ظل العيش تحت الاحتلال، وشيوع حالة اختطاف السلطة التنفيذية للسلطتين التشريعية والقضائية، وتَفَرُّد الحزب الواحد، ومصادرة حق الناس لأكثر من عشرين سنة في إجراءِ انتخاباتٍ عامة تفرز حقاً حكم الشعب؛ إلا أن مآلات الشعب الفلسطيني تجمع على أن ترأس البلاد شخصية ذاقت من عذابات الاحتلال، كالأصوات التي تنادي بانتخاب الأسير مروان البرغوثي، أو شخصيات أخرى ممن لم تُؤْثِر أي امتيازات في السلطة من حزم (VIP) أو تصاريح (BMC) وغيرها، إلى أن يفرز صندوق الاقتراع المعطّل حكمه، تماماً كما حصل مع بيبّيه. ما يحدث حقاً هو تفرّد الرئيس محمود عباس والذي يناهز أيضاً من العمر 90 عاما بالحكم، بالرغم من انتهاء ولايته الدستورية، خلافاً للدستور ووثيقة إعلان الاستقلال، اللذان ينصّان على نظام سياسي فلسطيني ديمقراطي برلماني، يرتكز على الإرادة الشعبية والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة.
الوفاء لتحرير الرهائن أم التخلّي عنهم
علاوة على كل هذه الممارسات النابعة من إيمان حقيقي لدى المناضل الأورغواني بقيم ومبادئ تقدّمية، الذي اعتنق فكراً اشتراكياً وآمن بأحقية حكم الشعب التزاماً بالديمقراطية الاجتماعية، متأثراً في الوقت ذاته بالعقيدة الماركسة وموقفها تجاه العدالة الاجتماعية، وجبت الإضاءة على عدم تنكّره ووفائه لقضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاستعمار، ما يجعلنا نفحص عن كثب قيمة الوفاء وعدم التخلّي عمّن ضحّى بعمره وحياته في الأسر فداءً لفلسطين.
فلسطينياً، نالت قضية "تحرير الأسرى" نصيباً ضمن القضايا ذات الأولوية لدى فصائل المقاومة (من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جش)، وحركة التحرير الوطني (فتح)، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فهناك بعض المفاصل التاريخية التي دمغت رزنامات الحركة الأسيرة، ابتداء من صفقات تبادل الأسرى في الأعوام 1968، و1971، و1979، و1983، و1985، و2009، و2011، و2023، وما يحدث حالياً ضمن صفقة طوفان الأحرار 2025.
تصفية قضية الأسرى وتقزيم نضالاتهم
عند سبر أغوار الوفاء؛ فوجئ الشعب الفلسطيني بقيام الرئيس محمود عباس بإصدار مرسوم، نشر على وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) بتاريخ 10-2-2025، يرد فيه "إلغاء المواد الواردة في القوانين والأنظمة المتعلقة بنظام دفع المخصصات المالية لعائلات الأسرى، والشهداء، والجرحى، في قانون الأسرى واللوائح الصادرة عن مجلس الوزراء ومنظمة التحرير الفلسطينية". كما ينص المرسوم أيضا على "نقل برنامج المساعدات النقدية المحوسب، وقاعدة بياناته، ومخصصاته المالية والمحلية والدولية من وزارة التنمية الاجتماعية إلى المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي" التي يديرها أقرباء الرئيس، بعد أن كفل قانون الأسرى والمحررين رقم (19) لسنة 2004 وأحكامه حياة كريمة لهم ولأسرهم، باعتبارهم: "شريحة مُناضلة وجزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع العربي الفلسطيني".
وقد أثار المرسوم غضباً شديداً في الأوساط الفلسطينية، لما فيه من تصفية لقضية الأسرى، وتنكر لحقهم المعنوي كشريحة تساهم في مسيرة النضال التحرري، وتخلًّ عنهم وتقزيم لتضحياتهم، وتحويلهم إلى فئات مهمشة وعائلات معوزة مدرجة ضمن صلاحيات برامج الحماية والرعاية الاجتماعية في مؤسسة التمكين الاقتصادي الفلسطيني.
فنّدت الرئاسة توجهها بأنها تحاول تجنب الاقتطاعات المالية الإسرائيلية الجائرة، والدعاوى القضائية أمام المحاكم الإسرائيلية والأميركية، لكن الشعب الفلسطيني تفاجأ مرة أخرى بأخبار واردة عن الصحافة الأميركية، تفيد بقطع الدعم الأمريكي عن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، دون تعقيب (تأكيد أو نفي) من الرئاسة الفلسطينية على الموضوع حتى اللحظة، ما يترك الشعب يتيماً، عاكساً حالة التخلّي عن المجموع.
يدلل الإجراء المستجد على قانون الأسرى والأسرى المحررين على التلاعب بالحقوق الوطنية للأسرى والشهداء والجرحى واستخدامهم كورقة ضغط سياسية، علاوة على الرضوخ للإرادة الأمريكية والإسرائيلية، ما يعتبر تفكيكاً ممنهجاً لمفهوم النضال الوطني الفلسطيني، وإعادة تعريفه ضمن معايير البنك الدولي للفئات المعوزة، إضافة إلى فرصة لإعادة ضبط موازين القوى داخل السلطة بين الموالين والمعارضين، بحيث تقترن الحقوق بشرط الولاءات السياسية للسلطة الحاكمة، إذ يتحول حجبها عقوبة بحتة، ومنحها امتيازاً أو استرضاء بحتاً.
المدّ الأفقي للحاضنة الشعبية
بوضوح تام، ودون إضفاء طابع رومانسي على قضية الأسرى: لن يتم تبييض السجون طالما هناك احتلال صهيوني، استعماري، استيطاني قائم، يستمد دعماً من أحد أكبر أقطاب النظام الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، كما ستظل هناك أشكال متنوعة من ساديات متعددة الأطياف، يمارسها السجّان على الدوام، وسيظل ملف التعذيب مفتوحاً على مصراعيه، يستجلب أدواته من حلفائه الاستعماريين، ويستحدث طفرات هجينة من عصابات هاغاناه تزيد بطشاً ووحشية، دون رفع سقف التوقعات عن وجود مساءلة أو محاسبة. بعيداً عن حالة الجزر والتخلّي العمودي من مفاصل الدولة عن قضية الأسرى؛ يبقى التعويل على الحاضنة الشعبية، وعلى الوفاء الأفقيّ الممتد بين الناس، وهنا بالضبط يتجلّى الوفاء والتمسّك بالنضال الفلسطيني.
فمثلما حصل مع المناضلين الأوروغوانيين بُعيد تحررهم من السجون العسكرية في 1985، لاقى الأسرى المحررون دعما شعبياً ومجتمعياً وتوجيهاً لمسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، حيث احتضنتهم الكثير من العائلات والحركات اليسارية والنقابات العمالية والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، كما أعيد تأهيلهم ودمجهم للعمل في المجال السياسي والاقتصادي والحقوقي على حد سواء، حتى أصبحت الحاضنة الشعبية جزءاً أصيلاً من المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. وما يتوجب فعله هو توفير مدّ شعبي حاضنٍ للأسرى وقضيتهم، ريثما يتم النهوض من جديد؛ حاضنة أصيلة تحافظ على الهوية الوطنية الجمْعية، وتمضي قدماً في مواصلة النضال الوطني الفلسطيني، والنهج المقاوم الهادف للتحرر.
هوامش:
[1]: Pepe، الاسم المحبب لخوسيه، وفضّله الأرغوانيون على خوسيه لشعورهم بشعبية وتواضع وقرب بيبّيه منهم ومن همومهم، حيث رفض بيبيّه الأبّهة الرئاسية، وآثر العيش في مزرعته البسيطة، كما تبرع بمعظم راتبه لبناء المدارس والمساكن لمن هم أقل حظوة منه.
[2]: El Pepe, una vida suprema 2019.
[3]: الاعتقال الإداري: إن الاعتقال الإداري هو اعتقال بدون تهمه أو محاكمة، يعتمد على ملف سري وأدلة سرية لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليها، ويمكن حسب الأوامر العسكرية الإسرائيلية تجديد أمر الاعتقال الإداري مرات غير محدودة، حيث يتم استصدار أمر اعتقال إداري لفترة أقصاها ستة شهور قابلة للتجديد.
[4]: من هيئة شؤون الأسرى والمحررين حتى تاريخ 24-3-2025.
[5]: وفقاً لآخر الإحصائيات لدى هيئة شؤون الأسرى والأسرى المحررين.
[6]: تحوّل السجن المذكور إلى متحفٍ بعد انتهاء الديكتاتورية العسكرية في الأوروغواي.
[7]: تعود إلى الصحفية والكاتبة الكندية نعومي كلاين.
[8]: المناضل الراحل نادر العفوري: عملت المخابرات الإسرائيلية على إدلاء عفوري من طائرة في محاولةٍ لبث الرعب في قلبه، وليكون عبرةً لغيره، إلا أن هذه المحاولة أيضًا فشلت في إجباره على الاعتراف.
[9]: Una pieza clave de la vida política uruguaya.. En el país de las conquistas sindicales.