في الوقت الذي تستمر فيه الحرب على غزة، يواجه الجيش الإسرائيلي تحديًا غير مسبوق في صفوف قواته الاحتياطية، حيث تتزايد حالات "الرفض الصامت" من قبل الجنود للاحتشاد في صفوف الجيش. هذه الأزمة التي تتفاقم في ضوء تصاعد العمليات العسكرية تهدد بتقويض قدرة إسرائيل على الاستمرار في الحرب وتعكس توترات داخلية عميقة في المجتمع الإسرائيلي، خاصة بعد سلسلة من القرارات الحكومية المثيرة للجدل.
بدأت الأزمة تتشكل مع رفض جنود الاحتياط الاستجابة للاستدعاءات العسكرية، وهي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الجيش الإسرائيلي، الذي طالما اعتمد على دعم قوات الاحتياط كعنصر أساسي في قوته القتالية. السبب الرئيسي في هذا الرفض يعود إلى عدة عوامل سياسية، اجتماعية وأخلاقية تتعلق بالقرارات الأخيرة للحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، بدءًا من "الانقلاب القضائي" وتعديلاته المثيرة للجدل إلى إقالة بعض الشخصيات الأمنية مثل رئيس جهاز الشاباك، وصولًا إلى خرق اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس . جميع هذه القرارات أفضت إلى تراجع في معنويات الجنود الذين كانوا يمثلون العمود الفقري للجيش، ما أدى إلى بروز حالة من "الرفض الصامت" تتصاعد بشكل مستمر.
وفقًا لتقرير صحيفة "هآرتس"، فإن الرفض الذي أعلنه الجنود للاحتشاد هو أكثر من مجرد اعتراضات فردية، بل هو مؤشر على أزمة كبيرة في الروح المعنوية داخل الجيش. ففي الأسابيع الأخيرة، رفض عشرات الجنود الخدمة، حيث أبلغوا قادتهم أنهم لن يلبوا أوامر الاستدعاء. بعضهم عبر عن رفضه العلني بسبب ما وصفه بـ "تجاهل الحكومة للعدالة"، وآخرون أشاروا إلى قلقهم بشأن الاستمرار في خدمة جيش يخضع للسيطرة السياسية الحزبية على حساب استقلال القضاء وحقوق الإنسان.
القلق الأكبر يكمن في أن هذه الظاهرة قد تؤثر بشكل ملموس على فعالية الجيش في التصدي لأي تصعيد مستقبلي في غزة، خصوصًا إذا توسعت هذه الظاهرة لتشمل مزيدًا من الجنود الذين قد يمتنعون عن المشاركة في القتال. وقد لوحظ أن بعض الوحدات القتالية قد سجلت تراجعًا في نسب الحضور، ما قد يؤدي إلى نقص في القوات المدربة والمعدات اللازمة لمواصلة العمليات العسكرية.
الرفض المتزايد في صفوف الجيش ليس فقط أزمة عسكرية، بل هو أيضًا تحدي سياسي خطير لحكومة نتنياهو. إذ أن الجيش الإسرائيلي يعتبر "جيش الشعب" وفق عقيدة بن غوريون، حيث كانت خدمة الاحتياط تعبيرًا عن الالتزام الوطني تجاه الدولة. ولكن في ظل القرارات التي اتخذتها الحكومة مؤخرًا، بدأ العديد من الجنود في التساؤل عن مدى التزامهم بحكومة تضع المصالح السياسية فوق القيم الوطنية، وهو ما يهدد وحدة الجيش والشعب.
تسهم هذه التوترات في تعميق الشرخ بين الحكومة والمجتمع الإسرائيلي. فبينما تدفع الحكومة بقوة نحو استكمال الهجوم على غزة، يجد الجيش نفسه في مواجهة أزمة ثقة داخلية قد تؤثر على قدرته في تحقيق الأهداف العسكرية. ولعل أخطر ما في هذا الوضع هو تأثيره على مفهوم "الجيش الوطني" الذي لطالما كان حجر الزاوية في قوة إسرائيل العسكرية، حيث بدأ جنود الاحتياط يتساءلون: هل لا يزال الجيش يمثل "جيش الشعب" أم أنه أصبح أداة بيد حكومة تسعى لتصفية حسابات سياسية؟
القرارات الحكومية الأخيرة، خاصة المتعلقة بتعديل النظام القضائي وإقالة شخصيات أمنية بارزة، تزعزع الأسس التي قام عليها الجيش الإسرائيلي. ففي الوقت الذي يعبر فيه الجيش عن قلقه من تراجع حضور الجنود، فإن الرفض الصريح من بعض الجنود يهدد فكرة "جيش الشعب" التي بنى عليها بن غوريون مشروع دولة إسرائيل. هذه الفكرة، التي كانت بمثابة ضمان للاستجابة الوطنية، باتت مهددة اليوم بسبب الانقسامات السياسية والاجتماعية التي تشهدها إسرائيل.
إذا استمر هذا الاتجاه، فقد يؤدي إلى تحول الجيش الإسرائيلي من "جيش الشعب" إلى جيش يقوده الحزب الحاكم، ما يعمق من الفجوة بين الجيش والشعب الإسرائيلي. وبذلك، يمكن أن تتحول أزمة الجنود إلى أزمة وجودية في العلاقة بين الجيش والمجتمع.
تداعيات قرار جنود الاحتياط برفض الاستدعاء هي أكثر من مجرد أزمة داخل الجيش. إنها تعبير عن أزمة أوسع في "إسرائيل" تتعلق بمستقبل الدولة وأساساتها العسكرية والسياسية. هذه الظاهرة تهدد بخلق فجوة عميقة بين الحكومة والجيش، وقد تؤدي إلى تراجع كبير في قدرة إسرائيل على خوض حرب ممتدة في غزة. كما أنها تضع الحكومة في موقف حرج داخليًا ودوليًا، في ظل التحولات السياسية الكبرى التي تشهدها البلاد.
إذا استمرت هذه الظاهرة في الانتشار، قد يواجه الاحتلال أزمة وجودية في مفاهيمها العسكرية، مما سيزيد من تعقيد الوضع في غزة ويعزز من إمكانية تراجع الجيش الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه العسكرية.