Menu

في فلك الشهادة… لا مكان للنجاة الفردية

ثائر أبو عياش

الهدف الإخبارية

في زمن الشهادة، لا تعود اللغة كما كانت. تُمسك بالكلمات فتذوب بين يديك، كأنها خجلة من خوائها، كأنها تسأل: هل بقي للكلمة معنى أمام صمت الجسد حين يختار الرحيل؟

هل بقي للكلمة وزنٌ أمام جثة طفلٍ بعينين نصف مفتوحتين، كأنه كان يحاول أن يرى آخر ما تبقى من هذا العالم القذر؟

يسقط عليك الفلاسفة من كل حدب وصوب. يتهامسون عن الروح، عن علاقتها بالجسد، عن محاورتها للموت. يسردون تأملات سقراط وهو يرتشف السم، يتحدثون عن هيغل حين رأى التاريخ كصراع للوعي بالذات، وعن نيتشه حين دعا لتجاوز الإنسان.

لكنهم لا يعرفون. لا أحد يعرف. في غزة لم يعد الموت موضوعًا للتأمل، بل صار خبزًا يوميًا، واقعًا متكرّرًا، لا يحتاج لمَن يُفسّره. موت مباشر، فجّ، بلا غطاء نظري، ولا حاجة لفلسفة. الموت في غزة واضح. واضحٌ لدرجة أن إنكاره صار خيانة.

لم يكن الوقت وقت فلسفة، كان وقت بكاء. وقت أن تصير الدموع هي اللغة، والحداد هو الزمن. لقد كان شهيدًا واحدًا، واحدًا فقط، كافيًا ليفتح فجوة في السماء، كأن الله قال: "أنظروا كيف يكون الإنسان حين يصير حقًا إنسانًا."

شهيد واحد قلب موازين العالم. فكيف إذا صاروا بالمئات، بالألوف؟

أين نحن الآن؟ من نكون، إن لم نكن معهم؟ من نكون، إن كنا هنا نعدّ أيامنا على وقع "ما الجديد في الأخبار؟" بدل "كم بقي من القلب في غزة لم يُقصف بعد؟"

الزمن تبدّل. هذا زمن آخر. زمن لا تُحسب فيه الأيام بالتقويم، بل تُقاس بالدم، بالصراخ، بصوت الانفجار في لحظة الإفطار، بجثة طفل يحمل حقيبته إلى الجنة.

تسأل نفسك: ماذا حدث للوعي؟ متى تحوّلنا من شهود إلى متفرجين؟ من ناقلين للصرخة إلى مكتفين بالصمت؟ من بشر إلى أرقام؟

كأن الزمن لم يتحول فقط، بل نحن من تهنا في تحوّله. ليس هذا "كيًّا" للذاكرة، بل محو كامل للهوية.

هوية تترنح تحت ضغط اللحظة، تحت هوس النجاة الفردية، وتحت الخوف من قول "لا".

نعم، قول "لا" صار مخاطرة. الصمت مريح أكثر، أليس كذلك؟!

الكل يهرول. الكل مشغول باليوم التالي. بنجاة شخصية وسط المجزرة العامة. فتيات يذهبن إلى الجامعة، شباب يشربون القهوة، وسائق تاكسي يضحك بخجل من خبر القصف...

لكن لا أحد يسأل: "كيف مات هذا الطفل؟"

لا أحد يتوقف ليسأل: "هل شاهدتم وجهه؟ هل سمعتم صوته؟"

في غزة، الزمن يدور إلى الأبد في فلك الشهادة. لا بداية ولا نهاية. كل لحظة فيها احتمال للموت، وكل موت فيها فرصة للحياة، تلك الحياة التي لا يعرفها إلا من ذاق حدودها.

كيف يمكن قول ذلك؟ كيف تصف مشهد أم تحتضن أشلاء ابنها؟ أي لغة تكفي؟

أي صورة تصل إلى قلبك دون أن تكسره؟

إن لم يهزّنا مشهد الطفل الشهيد، فمتى ستقوم الثورة؟

وإن لم تحمل صورته في قلبك، لا على جدارك فقط، فهل أنت حي فعلًا؟ أم مجرد ظل يمشي على قدمين؟

نغني؟ نعم. نغني، لأن الغناء في الميدان كان دومًا احتجاجًا، وكان في جنازة الشهيد صرخة.

لكن، حين تُصبح الجنازات أكثر من الأغاني، وحين تُقال "شهيد جديد" بنفس الطريقة التي نقول بها "خبر جديد"، نعرف أننا اقتربنا من حافة العدم.

لن يتحرر هذا النص من النزيف، ما لم نحرر ذواتنا من الاحتلال الأخطر: الاحتلال الداخلي.

ذاك الذي يجعلنا نرضى بالقليل، نصمت عن الكثير، ونتقبّل أن تتسخ أرواحنا بماء المرحلة، تحت ذريعة "الواقعية".

لكن ما هي هذه الواقعية؟

واقعية تعني أن تسحب علم فلسطين من بروفايلك كي لا تُزعج مديرك؟

واقعية أن تقول "أنا ضد الحرب على الطرفين" بينما الطرف الآخر يملك جيشًا ونوويًا وطائرات، والطفل الآخر لا يملك سوى دفء حضن أمه؟

الصراع الحقيقي لم يعد هناك فقط، في غزة، بل صار هنا، في داخلنا.

هل نملك شجاعة المقاومة؟ لا بالسلاح فقط، بل بالوضوح. بالحق. بالانحياز. بالصدق.

أن تقول "أنا مع الشهداء"، دون "لكن". أن تبكي دون أن تبرر. أن تغضب دون خوف من اتهام.

الفلاسفة الذين يتكلمون عن الموت، لم يروا جثة طفل في كيس بلاستيكي.

لم يسمعوا أمًا تقول "يا حبيبي ارجع".

لم يروا الحيّ الذي احترق كاملًا في دقيقة.

فلسفتهم ناقصة.

فلسفة لا تكتمل إلا حين تمر عبر عيون الشهداء.

هذا النص لا يريد أن ينتهي. لأنه يعرف أن النزيف مستمر.

كل كلمة تُكتب، هي محاولة وفاء. كل جملة، مقاومة.

الكتابة ليست ترفًا. الكتابة فعلُ نجاة. الكتابة إعلان انحياز.

لذلك، لن ينتهي هذا النص...

حتى نتحرر.

حتى نعود بشرًا.

حتى لا يخجل الطفل الشهيد منّا حين ينظر إلينا من السماء.