Menu

مفردات الأسطورة الفلسطينية -إلى الشهيد عمر النايف

النايف

بقلم طارق عسراوي
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لمَعَ نصلٌ في أزقّة القدس القديمة، وفي مشهدٍ أسطوري مَشقَ يَدهُ وشقَّ في حجاب الظلام السميك فجوة يتسلل منها شعاع الشمس الآتية، قبل الانتفاضات عَرَفَ عمر أن القدس مهد الصبح الأكيد، لذا بدأ فيها قصّته المقدّسة، ونسج في أزقتها أحداث أيامه الآتية، لتبقى الحكاية مشعة تتوارثها الأجيال القادمة.
والقدس يومها، لم تكن شرقيّة فحسب بل كانت في قلبه عصيّة على الجهات لا يحدّها خط الهدنة المرتبك ولا يقيّدها جدار الزيف،  ولم تكن نقَصَت زيتونة واحده أو يبُسَت فيها كرمة نذرت قطوفها لشمس البلاد.
وربما لأن حكايات الأساطير لا بدّ لها أن تتكئ على حجارة التاريخ، ألبسته القدس العتيقة ثوبها وخبأته في زوايا العتبات وفيئة القباب الحذرة المتنبّهة.

كانوا صغاراً، لكن حلم البلاد الثقيل لم يُقعد همّتهم، بل بعزم أشجار الكينا العالية وتدفّق عين الماء القريبة،  سار الرفاقُ إلى حكايتهم الفريدة وأيّ مدينة غير القدس   تليقُ بالحكاية التي آن لها أن تكتمل!
عمر الذي اختار نصل السكين ليرسم به غده الحالم، واستكمل حريّته بـِ إضرابه عن الطعام ليفلت من حكم المؤبّد، وأخفته قبّعة الفدائي الساحر إلى خارج البلاد، ولفّ وشاح الصمت والمجهول إسمه الغامض، فمن خصائص الأسطوري أنه يأبى الرحيل المتوقع والمعتاد، ويظل له أثرٌ تحمله الألسن على غير وجه!

حينَ عاد اسم عمر للعلن في الأشهر الاخيرة بعدما لوحِقَ بغية تسليمه للاحتلال الذي أعجزه الصبيّ قبل ربع قرن، كتبتُ جزءا من حكايته المباحة للكلام، تحت عنوان "ربع قرن وعمر مطارداً" منها أقتبس اليوم سيرته الفريدة، في محاولةِ ليِّ السؤال، فهو الاسم الذي أسقطه الناس عمداً من تفاصيل الحكاية إسهاما في إخفائه عن أنياب الغول القاتل، ومسؤولية جماعيّة في حمايته من يد الاحتلال المتعطّش للدم، كما تتواطئ صخور الجبال بصمت لتُخفي شنارةً عن عين البندقية، وما زلتُ أذكر كيف صمتت المدينة كلها عن سرد الحكاية، وكيف صار اسم عمر يُلفَظُ همساً وكيف ظلّ السؤال معلّقاً ناقِصَ الجواب .. ففي الجواب  احتمالات الخطر وجنينُ تحبّ أبناءها بصمتٍ وتحميهم بادعائها النسيان!

هذا الصباح، أفاقت المدينة على ذكر اسمه محمولاً على غموض النبأ مرّة ثالثة، كما أفاقت قبل ربع قرن، وودعت البلاد ابنها المنفيّ، لكنّها لم تسقط أدواته في بلوغ الفجر، فما زال فيها مَنْ يسير على صراط النصل الذي خطاهُ، جيلٌ بعُمرِ حكايته يكمل مفردات الأسطورة التي خطّها بأحرف من برق في القدس القديمة، وما زال فيها من يعتلي صهوة الجوع الحرّ ليكسر قيد الاعتقال الآثم، لقد عاد اسمه يلمَعُ في وضح هذا النهار، لكنّه في هذه المرة كان جسداً مسجّى في حديقة المنفى الفلسطيني تحيطُ به يد الغُموض المبهمة!

يرحل عُمر وقد أكمل مفردات الفلسطينيّ كلها.. فهو الفدائي، والسجين المضرب عن الطعام، والحرّ رغم أنف القيد، والمنفي، والمطارد والشهيد..