Menu

طفل يقاطع الكيان… عكاشة والحذاء… إمبراطوريات وأباطرة

د.فايز رشيد

قالت غولدا مائير جملة مشهورة عن نسيان الفلسطينيين لأرضهم: «الكبار يموتون والصغار ينسون». خابت توقعات رئيسة الوزراء الصهيوني من ناحيتين الأولى: أن الصغار من الفلسطينيين أكثر التصاقا بأرضهم من آبائهم وأجدادهم، بدليل أن غالبية مقاومي انتفاضة شعبنا الحالية الثالثة، هم من الشباب. 

الناحية الثانية لخطأ توقعات مائير، أنه ليس الأطفال الفلسطينيون وحدهم يلتصقون ب فلسطين فحسب، وإنما يشاركهم أشقاؤهم من الشباب العرب عشق فلسطين وترابها، بدليل مقاطعة الطفل التونسي محمد حميدة خصمه الإسرائيلي، في بطولة العالم للشطرنج في بوخارست، التي نُظّمت بين المدارس، فقد رفض اللعب مع نظيره الإسرائيلي انتصارا لفلسطين. لقد توالت ردود الأفعال على رفضه، حيث أعرب مكتب وزارة الرياضة والشباب الفلسطيني، عن بالغ امتنانه لشجاعة حميدة خلال البطولة، والنبل التونسي تجاه القضية الفلسطينية. وأبدى وزير الشباب والرياضة التونسي طارق ذياب، استياءه من موقف الطفل، مشيرا في بيان له، إلى أن ذلك من شأنه إفساد العلاقات مع اسرائيل والمساعدات التي تبعث بها إلى تونس. إلا أن المعارضة التونسية أعربت عن رفضها لتصريحات ذياب، واصفة بيانه بالاستفزازي والخائن، فيما طالب بعض أعضاء البرلمان منه تقديم اعتذار رسمي. نحيي الطفل محمد ونشد على يديه، وبالتأكيد يعود الفضل لتربية والديه، العاشقين لفلسطين وأهلها. 

بالمقابل قام كمال أحمد (أقدم برلماني في مجلس النواب المصري) بضرب المهرج توفيق عكاشة بالحذاء، بعد استقباله لسفير الكيان في فيلته، ووصف الإعلام الصهيوني اللقاء، بأنه كان ممتازا. عكاشة حاول تبرير استضافته لسفير الكيان، بأنه طلب من الصهيوني حاييم كوهين لجم إثيوبيا لمنع بناء سد النهضة، الذي سيقلل من حصة مصر في المياه، التي تتدفق في نهر النيل، ناسيا أو متناسيا أن المشرفين على تصميم السد وبنائه، هم مختصون إسرائيليون، أرسلهم الكيان بالاتفاق مع إثيوبيا بعد إقناعها ببنائه.

يتناسى عكاشة أن الكيان هو دولة تضطهد الفلسطينيين وتذبحهم في مجازر جماعية يومية، تسرق أرضهم، تدمر بيوتهم، تعتقلهم وتغتالهم وتتنكر لأبسط حقوقهم، تسن القوانين للمزيد من اضطهادهم، وتحلم بتسفير وترحيل الباقين منهم من أراضيهم. تهودّ القدس ومنطقتها وتسمي العرب بالأفاعي والصراصير والحشرات السامة. تجيز قتلهم حتى الأطفال الرُضّع منهم، في سبيل أمن إسرائيل يقولون «إن العربي الجيد هو العربي الميت». عكاشه يستضيف سفير الدولة التي قام جيشها بدفن الجنود المصريين الأسرى من إخوته، احياء بعد أن أجبرتهم على حفر قبورهم بأيديهم. اسرائيل جندت العملاء للتجسس على مصر. هددت بقصف السد العالي. صدّرت العاهرات لمصر من أجل تدمير نسيج المجتمع المصري، غزت الإنتاج المصري من القطن، ولوثته بآفة دمرته على مدى أعوام ألا يذكر عكاشة مجزرة مدرسة بحر البقر، التي أُحرق وقُتل فيها العشرات من الأطفال المصريين الرضع؟ هذا غيض من فيض ما اقترفه الكيان بحق مصر. لا نريد عكاشة أن يتذكر مجزرة دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة، والحرم الإبراهيمي والعشرات غيرها، إضافة إلى مجازر قانا الأولى والثانية وصبرا وشاتيلا بمساعدة الكتائب وأخرى غيرها. لقد وافق مجلس النواب المصري على إحالة عكاشة إلى التحقيق، ومنعه من حضور جلسات البرلمان. طيلة ما يقارب الأربعة عقود فشل الكيان في التطبيع مع الشعب المصري، رغم العلاقات الحارة بين بعض رؤسائه والكيان الصهيوني. تأتي خطوة عكاشة الخيانية في الوقت الذي تمتد فيه مقاطعة الكيان إلى مترو لندن، وإلصاق شعارات المقاطعة على زجاج نوافذه، وتمتد إلى المزيد من الكفاءات والأكاديميين في بريطانيا. نعم تتعاظم حركة المقاطعة في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك امريكا وأوروبا. 

من ناحية ثانية: ظاهرة عكاشة ليست حالة فريدة في مصر والعالم العربي، لا في الإعلام فحسب، وإنما في السياسة والاقتصاد والفن. شعاره: كن «غرائبيا ومخالفا للسائد» على الشاشة أو في البرلمان أو في الوسيلة الإعلامية، تكن نجما. 

على صعيد آخر. فإن شعور الإخوة من العرب الجزائريين تجاه المنتخب الأولمبي الفلسطيني كان عربيا أصيلا بامتياز. فقد لقي الفريق الفلسطيني حفاوة بالغة لدى نزوله بمطار هواري بومدين، بعدما تجمع آلاف المحبين والمناصرين لاستقبال البعثة الفلسطينية، التي تزور الجزائر في إطار مباراة ودية تحضيرية بين المنتخبين الأولمبيين، ووجدت الشرطة صعوبات جمة لتسهيل خروج بعثة «الفدائي» من المطار، نظرا للكم الهائل من المواطنين الذين حملوا رايتي البلدين، وهتفوا طويلا لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مرددين عبارتهم الشهيرة «جزائر الشهداء.. فلسطين الشهداء». الجزائريون في المباراة كانوا يشجعون الفريق الفلسطيني وليس فريق بلدهم، اللاعب الفلسطيني أهدى هدف الفوز للشعب الجزائري، فضجّ الملعب بالهتاف. أؤمن تماما، لو ان الفريق الفلسطيني لعب أمام أي منتخب لبلد عربي آخر، لتصرف معه التصرف الجزائري نفسه، أرجوكم أنا لا أحلم فقط أردد حقيقة واضحة: أن الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، ما زالت تحتضن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية لها، لا فرق بين عراقي و قطر ي ومصري ومغربي وفلسطيني وسوداني. أذكر في مدرستي الابتدائية، وكان ذلك في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات كيف كنا نردد نشيدنا الصباحي عن الجزائر، وفيه «وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا». كنا نتبرع بمصروف يوم من كل أسبوع (قرش واحد) لنصرة الجزائر. من يؤمن بالعروبة، يبدو في نظر كثيرين وكأنه في العصر الخشبي وأنه خارج إطار التاريخ والزمن، وأنه بعيد عن الواقعية والموضوعية. بالتأكيد فإن هؤلاء المتهِمين، يعتقدون باستحالة إعادة إحياء الشعور القومي العربي. 

لكن هذا لا يعني خلوّ مجتمعاتنا من الأمراض الكثيرة، التي إن لم تجر مقاومتها وعلاجها الجدي، ستنخر الجسد العربي برمته تماما كالسرطان كما العدو، الذي تتوجب مواجهته بكل ما لدينا من قوة، عدو بلغ من الصلف والعنجهية والوقاحة والقبح، درجة كبيرة وصولا إلى الاستهتار بكل العرب. لدى الكثيرين منا للأسف مرض «نقص التواضع» و«الشعور بالعظمة» وهو عارض لمرض عقلي صرف كمرض الاضطراب الوجداني، الذي يكون المريض فيه مرتفع المزاج، كثير الحركة والضحك والفكاهة بصرف النظر عن ظروفه التي يمر بها، حتى لو كانت ظروف موت قريب عزيز له. كما يعتبر جنون العظمة عارضا وعلامة من علامات مرض فصام الشخصية (شيزوفرينيا)، أو قد يكون مرضا مستقلا بحد ذاته وليس عارضا لمرض. المريض عادة يعتقد بشكل قاطع بامتلاكه صفات غير واقعية وعظمة وهمية، ولا يقتنع أو يتصور بمخالفة الآخرين له. نقول هذا بسبب الهجوم على الأستاذ الموسوعي المرحوم محمد حسنين هيكل، بعد وفاته، وردّ الكاتب القطري أحمد علي على ما قيل (موضوع نشره الأستاذ سليمان حاج ابراهيم، «القدس العربي» الثلاثاء الأول من مارس الحالي) . ينبغي احترام الشخص المتوفى، مهما اتفقنا أو اختلفنا معه في مواقفه السياسية وآرائه. أذكر في التسعينيات أن هيكل كتب نقدا عن بلد عربي ما. فما كان من كاتب محلي مغمور في ذلك البلد، وكرد فعل على الأستاذ، إلا وأن كتب بما معناه: «أنا أكتب مقالاتي تحت عنوان «بصراحة» تيمنا بهيكل، من الآن فصاعدا سأقوم بتغيير عنوان مقالتي» قلت في سري حينها «على بال مين، يا اللي بترقص في العتمة». قيل: في البدء كانت الكلمة، ولأن الفكرة «تبدأ من المخيلة» كما يقول ياتس، لأنها ثيمة بعيدة عن الجمود، وقابلة للتفاعل مع الحدث «ولا تموت- مثلما يرى ديكارت – لحظة تجسيدها في كلمات»، لذا تأخذ معنى الاستمرارية بشكلها التجريدي، خاصة في محاكمة الوقائع العظيمة، حين لا يقتضي الضحك ولا البكاء، وإنما الإمعان في جدلها ذاته، وفقا لسبينوزا. 

يعتقد بعض الإعلاميين العرب أن وسائلهم هي إمبراطوريات إعلامية لا تُضاهى، ويتصرفون باعتبارهم أباطرة، بعيدا عن التواضع، الذي هو صفة للكبار فقط كما مثّل هيكل في حياته، فتراهم يتيهون تكبرا وخيلاء، رؤوسهم وأجسادهم تطير في السماء، يحلّقون عاليا في تصورات ذواتهم، وهم محليون على نطاق البلد المعني، حتى إن بدا لهم أن شخصياتهم أصبحت خارج إطار النسيان لها من العالم، ناسين أو متناسين كلمات ومعاني فلسفية، نطقها الخيام منذ دهور: فامش الهوينا إن هذا الثرى من اعين ساحرة الاحورار لقد تساوى في الثرى راحل غدا وماض من ألوف السنين.. وإلى لقاء.