النشيد الوطني لا يستمد قوته وتأثيره من القيم الإنسانية الكبرى التي يحملها ولا من جمالية الكلمات والأشعار والألحان فحسب بل هناك عناصر أخرى لا تقل أهمية تمنح الأشياء والكلمات مضمونها الحقيقي تؤكدها التجربة الجماعية لشعب ورموز رسخت في الضمير-الحس الشعبي العام وفي الواقع المعاش. والتراث الوطني لا يعني الماضي. إنه الحاضر أيضاً. والمستقبل. التراث لا يموت إلا إذا تحّول إلى تراث بالمعنى التقليدي.
مثلاً: ما معنى أن تسمع نشيد " فدائي " أو " موطني " وأنت تقف إلى جانب من لم يعودوا مقتنعين بالفدائي ويساومون على الوطن ؟! هكذا يصبح الشئ - الكلمة - النشيد - عكس غايته . ويتحّول إلى مقبرة ذاتية بمعنى ما. إنه لا يفقد المعنى والمبنى بل ويفقد روحه أيضاً. ويغتصبه. وهكذا يغتصب الشكل المضمون.
العناصر التي تمنح الشكل مضمونه الحقيقي - وتكشف جوهره - كثيرة ومتعددة ومنها: المكان والزمان والهدف والجمهور والرسالة والرسول. هذا يعني أن الأغنية الوطنية في رياض الأطفال والمدارس والشوارع الفلسطينية ونشيد " موطني " والدلعونا والعتابا شئ، وهذا " النشاز " الوطني الصادر عن بعض اوساط السلطة - الطبقة المهيمنة - شئ آخر تماماً.
نعم، حتى لو كانت الكلمات ذاتها. لأن النشيد، كالعلم، لا قيمة له، إذا صادرته سلطة باسم الدولة ( الشكل) على حساب المضمون: الوطن. والسؤال الحقيقي هو: هل تريد دولة وسفارات لهوامير المال والبرجوازية ؟ أم تريد وطن محرر وشعب سعيد؟.
يمكنك القياس كثيراً على هذا المنوال، في السياسة اليومية والحياة. كاليساري الذي ينظّر علينا ويريد أن يقود الجماهير الشعبية من وزارة تحت بساطير الاحتلال؟ يسميها حكومة وحدة وطنية؟ دققوا في الكلمات ومعانيها؛ فالشكل والمضمون قانون ومفهوم بسيط لكن لماذا نكرر الخطأ كل يوم؟
ولأننا بسطاء، اعتقدنا أن القرآن الكريم، "كلام الله المقدس"، ولن يطاله القانون الطبقي وسؤال الشكل والمضمون هذا، ذلك لأن العلاقة خاصة وفردية بين الانسان ومعتقداته والدين عابر للطبقات والشعوب، وهذا صحيح، ولكن اكتشفنا أن حتى كلام الله -إذا حمله رسول كاذب -يمثل سلطة كاذبة -يتحول إلى مجزرة جماعية شيطانية ولا يستفيد منها إلا " بني اسرائيل " والأمير النفطي.
إذا عدت إلى التاريخ تجد أن المشكلة قديمة مذ عرفت الناس مجتمع الطبقات ولكن نحن العرب طمرنا كل شئ منذ ابن رشد تقريبا أمة متخلفة عن الركب الحضاري والعصر والتفكير المجرد البسيط...حكمتها تركيا 500 سنة ثم سلمتها إلى الاستعمار الحديث!
ويقول المصريون " اسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب " ! هذه حكمة شعبية مصرية تكشف لنا وعي قانون الشكل والمضمون والنظرية والتطبيق و الفكر والممارسة.