Menu

أزمة المشروع الوطني الفلسطيني أم أزمة حوامله التنظيمية؟!

د. وسام الفقعاوي

المشروع الوطني الفلسطيني

 

يجري الحديث كثيرًا عن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، والمقصود من هذا الحديث، أزمة مشروع التحرير والعودة والاستقلال، وكأن هذا المشروع معزولًا عن حوامله التنظيمية منظمة التحرير الفلسطينية بمجموع فصائلها، بالإضافة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، التي يفترض بها أنها رافعة هذا المشروع وصاحبة المصلحة في السير به نحو تحقيقه، لا الهبوط به، بل ما جرى هو تجاوزه بالمطلق، ولتبرير ذلك، جرى الحديث عن أزمة المشروع لا حوامله، من قبل الأخيرة، كنوع من التمويه والتزييف للحقيقة، وتبرير قبولها بما يسمونه "بالواقعية السياسية". أي واقعية تلك إن لم تكن حماية هذا المشروع وتوفير كل الأسس والمقدمات الكفيلة بتحقيقه.

على الرغم من وعيي لطبيعة الأزمة العامة التي تعيشها كل الأحزاب والتنظيمات والمؤسسات الفلسطينية، إلا أنني ليس بالمطلق مع عكس هذه الأزمة وكأنها أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، المحق والعادل والموضوعي، في وجه أكبر عملية سرقة لوطن وتطهير لشعبه جرت في القرن العشرين، إن لم تكن في التاريخ. والمصيبة الأكبر أن أصحاب الحق تنازلوا طواعية للسارق، واعترفوا له بأحقيته التاريخية في المسروق "أرض فلسطين"، في الرسائل المتبادلة بين الراحل ياسر عرفات ، ورئيس وزراء دولة العدو "إسحاق رابين"، وتوقيع اتفاق أوسلو، بكل ما مثله من إهدار للحقوق الوطنية الفلسطينية، مما فتح شهية السارق/العدو، لمزيد من السرقة للأرض والتاريخ مترافقة مع محاولاته الحثيثة لتصفية القضية الفلسطينية، والإقدام على عملية تطهير عرقي جديدة بحق الشعب الفلسطيني، على طريق ترسيم "دولته اليهودية".

إن المطلوب هو تقديم قراءة جديدة ومختلفة ومكثفة لما يجري، لذا حاولت جاهدًا أن أقدمها في هذا النص، مستشهدًا ومعتمدًا فيها على وثائق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، عبر ثلاثة محاور وهي:  

المحور الأول: محاولة فهم للصراع وتاريخيته:

توضح لنا القراءة المكثفة لممارسات المشروع الصهيوني، بعد مرور مائة وعشرون عامًا على المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، والذي تقرر فيه:

  1. تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
  2. تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية.
  3. اتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم للهدف الصهيوني (إعطاءه شرعية دولية).
  4. تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية بقيادة تيودور هرتزل.
  5. تشكيل الجهاز التنفيذي "الوكالة اليهودية" لتنفيذ قرارات المؤتمر؛ ومهمتها جمع الأموال في صندوق قومي لشراء الأراضي وإرسال مهاجرين يهود لإقامة مستعمرات في فلسطين.

أن هذا المشروع ورغم الانتصارات التي حققها، مستمر في إعادة صياغة وتكييف بناه وأدواته واستراتيجياته، بما يحفظ له منجزاته المحققة من ناحية، ومن ناحية أخرى تأمين شروط الاندفاع لتحقيق مزيد من الأهداف.

ما سبق، يفرض حفاظ المشروع الصهيوني المعادي على ركائزه الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. الخ وتطويرها باستمرار، لتشكل قوة دفع مستمرة ومتجددة، لحشد المزيد من الطاقات والإمكانات، من أجل مزيد من العدوان والحروب والتوسع.

وبهذا المعنى، فإن الصراع باعتباره صراع وجود لا يعني بالضرورة النفي المادي لهذا الوجود على نحو مطلق، وإنما تركيم القوة، لإلحاق الهزائم المرَّة والتاريخية بالطرف العربي، وإرضاخه بالعنف والضغط عليه سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وجعله في حالة خضوع واستكانة شبه كاملة، أمام المشروع الإمبريالي – الصهيوني.

هنا نضع الرأي الذي يقول بتاريخية الهزائم، وأن ما نعيشه الآن، يعود لمجمل النتائج التي تراكمت منذ سايكس –بيكو وما بعدها وحتى الآن، وهي نتائج من طبيعة تراكمية وتصبح ذات ثقل متضاعف مع تقدم الزمن.

 ولعل المدقق في الواقع العربي الممزق والغارق في حروب داخلية وأخرى بالوكالة وانقسامات طائفية ومذهبية، وإرهاب يضرب في كل زاوية وتطرف وعنف وضعف واضمحلال "الدولة الوطنية"، وانقسام وعجز وتواطؤ النظام الرسمي العربي، المستمر والفاضح في نموذجه الأخير في قمة عمان، عندما تم تناول قضيتي فلسطين و اليمن مثلًا، بحيث جرى الدعوة لتسوية الأولى دون المجيء حتى على ذكر الاحتلال، في حين جرى الدعوة إلى تحرير الثانية..!!

الأكثر من ذلك، فإن بعض مظاهر التخلف والانقسام والصراع، التي تعاني منها الشعوب العربية، تحولت مع الوقت إلى دينامية داخلية لها قوانينها الخاصة، التي إن لم يجر كسرها وتخطيها ستبقى تعيد إنتاجها على نحو أسوأ وأشد كارثية في نتائجها الآنية والمستقبلية، وهو الأمر الذي يؤسس بصورة طبيعية لمزيد من التجزئة والتفتيت والحروب، وبالتالي الهزائم.

إن وعي هذه الحقيقة بعمق، يفرض ضرورة وعي أن عملية الكسر والتخطي للواقع سالف الذكر هي عملية اجتماعية تاريخية واسعة ذات صيرورة مستمرة وليست مسألة سهلة المنال، يمكن أن تُحقق بالضربة القاضية.

ضمن عملية التقدم والتخلف، التقدم والتراجع المريع هذه، وما تحفل به من تشابكات، وصيرورات اجتماعية، يأخذ الصراع طابعه المحرك والتاريخي، الذي وإن شهد حالات ركود أو كمون فإنها تبقى عابرة ومؤقتة، نظرًا لأنها نتيجة حالة هزيمة وانكسار مؤقت أو انتصارات مؤقتة، أو لعدم توفر شروط النهوض على أكثر من مستوى، فما دامت أسباب الصراع قائمة ومنجزة ومتجددة، فإنها مرشحة للانفجار عند كل زاوية من زوايا الصراع وما أكثرها (الأرض- الاستيطان – اللاجئين – التراث – القدس –الثقافة – الهوية –المياه – الجدار- التعليم - الصحة.. الخ).

يفرض ما تقدم، ضرورة إعادة التدقيق بالمسائل عند قراءة واقع الحال الفلسطيني راهنا، وذلك في ضوء ما أفرزته الحياة من حقائق منذ ما قبل توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.

المحور الثاني: الحركة الوطنية الفلسطينية بين غياب الرؤية وتجذر الأزمة.

منذ فترة ليست وجيزة تعرضت الحركة الوطنية الفلسطينية بما في ذلك من تطلق على نفسها الإسلامية منها (رغم كل ما قدمته من تضحيات عزيزة وغزيرة)، للكثير من التغيرات والتبدلات السلبية وبالتالي للأخطاء والخطايا وصولًا إلى ما نسميه الآن بالأزمة وهناك من يقول "بالمأزق" التي تعيشها هذه الحركة.

لكن وأنا أقول بذلك، أُحذر من محاولة عكس أزمة أو مأزق الحركة الوطنية الفلسطينية، او إسقاطها على جوهر المشروع الوطني الفلسطيني، كمشروع كفاحي تحرري عادل، يعكس مدى احتدام الصراع التاريخي الاجتماعي السياسي والاقتصادي والثقافي والنفسي ضد المشروع الصهيوني الاستعماري التوسعي الاستيطاني.

فأزمة الحوامل التنظيمية (الأحزاب والتنظيمات على اختلافها) لا تعني عدم منطقية وعلمية وأحقية وعدالة جوهر مشروعنا الوطني، مهما كانت اللحظة الراهنة قاسية وصعبة. فهذه اللحظة أكثر ما تفرض علينا أن نبقى دائما متلحفين بالأمل، وممسكين بشراعه، ويحضرني هنا قول الفيلسوف والمفكر الإيطالي: انطونيو غرامشي حين يقول: في الوقت الذي يتشاءم فيه العقل، لا بد أن تبقى الإرادة متفائلة، لكن السؤال: هل يمكن أن تكون الإرادة متفائلة دون علمٍ ووعي؟! الإجابة على هذا السؤال سيكون في المحور الثالث والأخير.

بالاستناد إلى ما سبق فإن طبيعة الأزمة المهيمنة على الحركة الوطنية الفلسطينية، تتجلى في ستة مظاهر أساسية:

المظهر الأول: أستطيع القول أنه منذ مطلع القرن العشرين، لم يتفق الفلسطينيون على رؤية موحدة للصراع في جبهاته المتعددة سواء ضد الاستعمار البريطاني أو الحركة الصهيونية، والاحتلال الإسرائيلي فيما بعد 1948، بحيث كنا أمام رؤى متعددة ومتناقضة، وكذلك استراتيجيات مختلفة ومتضاربة، فكانت النتيجة على ما نحن عليه اليوم، فتذكروا دائما بأن: "من يفقد الرؤية يضل الطريق".

المظهر الثاني: عدم قدرة هذه الحركة على إنجاز التحرر الوطني كما هو معلن وموثق في برامج منظمة التحرير الفلسطينية وميثاقها الوطني، التي عبرت عن ضعف وقصور العامل الذاتي الفلسطيني، دون إغفال العوامل الموضوعية، ومنها الواقع العربي والدولي، والاختلال العميق في ميزان القوى لصالح العدو، لكن اعلموا بأن: (القلاع لا تقتحم إلا من الداخل).

المظهر الثالث: عدم القدرة على إنجاز برنامج التحرر الوطني، ترافق مع تمكّن المشروع الصهيوني – الإمبريالي من تحقيق انتصارات وإنجازات حاسمة. فالحياة تقول: "بأنك كلما تراجعت تقدم خصمك أو عدوك، نحن لم نتراجع فقط، بل انكفينا، فأصبح الخصم/العدو في غرف نومنا".

المظهر الرابع: قبول قيادة منظمة التحرير الفلسطينية للاشتراطات والحلول الأمريكية – الصهيونية، التي أقل ما يقال عنها بأنها ضد مصالح وطموحات وأهداف وحقوق شعبنا، بل وتجاوز المشروع التحرري لحساب مشروع التسوية، بحيث أصبحنا نلهث خلف الدولة ونسينا الوطن، فتيقنوا: "أن من يزرع الوهم لن يجني سوى السراب".

المظهر الخامس: ضعف الأساس الديمقراطي قيما وممارسة، ما بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني والجماهير، بحيث ساد منطق القطيع لا الشعب، مما أدي إلى تراكم حالة الاغتراب والانفصال عن الواقع واهتزاز الثقة والإحباط واليأس والميل إلى الاستسلام. يبقى لي أن أقول: "من يرى في شعبه قطيعا باعتبار أنه راع قوي، فسيراه الذئب/العدو حملا سهل الافتراس، وفي واقعنا من الشواهد ما يكفي ليؤكد ذلك".

المظهر السادس: الانقسام السياسي والجغرافي في السلطة وعليها وبين الضفة وغزة، وكل ما ترتب ويترتب عليه من نتائج كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، بل وتعميقه وتكريسه نحو الانفصال، في ظل اشتداد الهجمة التي تستهدف تصفية القضية الوطنية الفلسطينية. فما هو مطروح من مشاريع خطيرة يؤكد أن الانقسام، لا تقل مخاطره عن نكبة عام 1948 إن لم تكن أشد، كونوا على ثقة بأن: "النكبات التي نصنعها بأيدينا تؤذينا أكثر من تلك التي يصنعها عدونا".

المحور الثالث: المعرفة .. العلم.. الثقافة.. الثورة أو استمرار الهزيمة:

يحضرني هنا، ما قاله حاييم وايزمن أحد قادة الحركة الصهيونية عند وضعه حجر الأساس للجامعة العبرية عام 1918، التي أقيمت فوق جبل صهيون في القدس، قال: "الآن أقيمت دولة إسرائيل" وافتتحت الجامعة عام 1925 بحضور كبير كان على رأسه وزير خارجية بريطانيا وصاحب الوعد المشؤوم: آرثر جيمس بلفور. دققوا وتمعنوا في ما قاله وايزمن ودلالاته؟!

دققوا في مدى تقدم دولة العدو الصهيوني على صعيد: المعرفة والبحث العلمي وتقنيات التكنولوجيا والاتصالات والمعدات الحربية وبراءات الاختراع ومعدلات القراءة...الخ. لنصل إلى سؤال مفاده: هل بالأساس كان الصراع بيننا وبين العدو صراع عضلات أم عقول؟! فإذا كان صراع عضلات لماذا لم نهزمهم ونحن أكثر منهم عددا وعدة وشجاعة "كما ندعي" وفوق هذا نحن أصحاب حق وقضية عادلة؟! وإذا كان صراع عقول: فهل العقول حاضرة أم غائبة؟! فمن السهل أن يشير أي منا بأصبعه على جمجمته ليقول: تحت هذه يرقد العقل، لكن السؤال: هل يرقد متيقظًا أم نائمًا؟! حاضرًا أم مغيبًا؟! فاعلًا أم كسولًا؟!

 وصولًا إلى سؤال: هل هناك انفصال بين المعرفة والعلم والثقافة والثورة؟! وبالتالي: هل الثورة عدوة المعرفة والعلم والثقافة؟! ويترتب على السؤالين السابقين سؤال: هل الثورة إلا علم اسمه "علم الثورة"؟  !وفي هذه الحالة لن تكون الثورة سوى معرفة وثقافة ووعي للواقع المعاش بكل تفاصيله لأن هدفها التغيير الجذري والشامل لا الإصلاح والتصالح مع الواقع المزري بل الكارثي؟
بوضوح تام وتكثيف شديد، لا انفصال بين المعرفة والعلم والثقافة والثورة، فكما أن الكهرباء.. (أي النور) لا يصنعها أو يصنعه الظلاميون، فالثورة لا يمكن أن تكون دون معرفة وعلم وثقافة وإلا استحالت إلى فوضى ومزيد من الهزائم المتلاحقة.   

فواقع العلاقة بينهما علاقة  جدلية/تلازمية، بل مصيرية، وأي دعوة أو نزوع للفصل بينهما، يطرح سؤال مهم: لماذا يتقدم العدو ومشروعه؟ّ ولماذا نحن في تراجع مخيف؟ّ     
 باختصار مفيد: الثورة هي الإبداع الأرقى.. فطريق النصر لا يمهد له المتخلفون، والعلم لا يبني أشرعته مغيبوا العقول، والثقافة لا يحملها إلا ثوريون، فالمثقف إما "أن يكون ثوريا أو لا يكون" والثورة لا يقودها الأغبياء.

أخيرا كي لا تستمر الهزيمة.. أوصيكم ونفسي بالمعرفة والعلم والثقافة والثورة.. وهادينا قول الشهيد المفكر/الأديب/الثائر: غسان كنفاني "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا القضية"