Menu

هبة الأقصى: تجلي الإرادة الشعبية وغياب الإرادة السياسية

هبة الأقصى: تجلي الإرادة الشعبية وغياب الإرادة السياسية

نضال عبد العال

لا يستطيع أحدأن ينكر على الفلسطينيين إنجازًا حققوه بدمائهم وتضحيات أبنائهم، واستطاعوا منع الاحتلال من الاستفادة من العملية البطولية للجبارين في باحات الأقصى، وتوظيفها في الإقدام على خطوة ذات طابع أمني، بهدف تحقيق مكسب سياسي كبير، على شاكلة الهجمات المتكررة على المسجد الإبراهيمي، وكان آخرها في عام 1994 حيث تم التقسيم الزماني والمكاني للحرم الإبراهيمي.

وبناء على ما تقدم فإنه من الضروري قراءة ما جرى في باحات الأقصى وأمام بواباته، بهدف استخلاص الدروس والعبر. فأي إنجاز يتحقق، مهما كانت قيمته المعنوية أو حتى المادية كبيرة لن يحقق مردودًا سياسيًا في الواقع إن لم يتم التقاطه ومراكمته والبناء عليه،وسوف يتحول الإنجاز إلىفورة انفعالية عاطفية تذهب أدراج الريح، فيما الاحتلال يدرس ما جرى، وكيف جرى، وينتظر فرصة أخرى للانقضاض من جديد.

على الرغم مما يخططه الاحتلال في القضم والسيطرة لأماكن العبادة المقدسة والتاريخية، ممنهجة وقديمة،  ويبدو بما أقدم عليهمنوضع البوابات، لم يكن مدروسًابشكل كاف، حيث سيطرت المزاودات بين أقطاب الحكومة اليمينية المتطرفة، في الوقت الذي نبهت فيه الأجهزة الأمنية حكومةالاحتلال،إلىأن الأمر قد يتسبب بانفلات الوضع، لكن ضجيج المزايدات كان أعلى،وسيطر على الجميع تقدير بني على الحالة العامة للطرف الآخر، الفلسطيني والعربي والإسلامي، الذي يفيد بأن هناك تفككًا وانهيارات وانشغالا عن القضايا الأساسية، ومنها قضية الأقصى.

لا شك أن هذا التقدير بالمجمل، صحيح، فثمة انقسام فلسطيني لم تزحزحه كل المصائب التي توالت على الشعب الفلسطيني منذ وقوعه في 2007، وانقسام داخلي في دولعربية رئيسة، شكلت جيوشها تهديدا بشكل أو بآخر طيلة السنوات الماضية،وقد أرخى بظلاله على الشارع العربي الذي يعيش بدوره تفككًا وانقسامًا لم يشهد له مثيل، فيما الجامعة العربية باتت كركوبة فارغة من أي محتوى، راكمت انهيارًا على انهيارات،منذ عام 1990 حرب الخليج الأولى ثم الثانية، وصولًا إلى ما سمي بالربيع العربي الذي تمخض عنه ما يسمى الدول السنية التي تعمل على إقامة تحالفات خارج دائرة التحالفات التقليدية التي كان محورها القضية الفلسطينية، لتصيرإسرائيل حليفًالهذا المحور، في مواجهة عدو جديد، تدّعي أنه الخطر الأساسي الذي يهددها، والمقصود بذلك إيران، فيما العالم الإسلامي يتخبط في الفتن المذهبية وفي المقدمة منها والطاغي عليها السني الشيعي.

إن حصر ما جرى في الأقصى في 14 تموز 2017، أو في الحرم الإبراهيمي سابقا، وما قد يجري لاحقا في الأقصى وغيره من الأماكن المقدسة والتاريخية، باعتباره مسألة دينية بحتة، دفعت البعض  للقول: إن الاحتلال يحول الصراعإلى حرب دينية، هو كلام غير دقيق، وهو يأتي من منظار سطحي للأمور. إن توظيف الصهيونية كحركة استعمارية علمانية بالأصل للدين، ليس غريبًا أو طارئًا، بل هو يعتبر جوهر الفكرة الصهيونية الاستعمارية، التي قامت بالأساس على مقولات وادعاءات دينية تضليلية معروفة ولا داعي لتكرارها.

إن توظيف الصهيونية للدين يأتي بهدف اكتساب شرعية الوجود التاريخي، وعليه هي مستمرة في معركتها على هذا الصعيد. القاعدة الذهبية الصهيونية المعمول بها مستمرة، الاحتلال العسكري يمهد ويحمي، ثم الاستيطان في محاولة لخلق وقائع بيّنة يصعب القفز عنها أو ردها إلى الخلف " ما يسمىمعضلة تفكيك الاستيطان" ثم السعيالمستمر عن شرعية الوجود التاريخي، من خلال الادعاء بوجود أماكن مقدسة ورمزيات تاريخية، آثار وغيرها. هذا لا يشكل فقط تأكيد شرعية الاستيطان، بل أيضًا دحض شرعيّة الآخر الفلسطيني العربي. وفي هذا السياق، فإن يهودية الدولة المطروحة الآن من الكيان الصهيوني، ليست أيضا مسألة دينية، بل هي حل في مواجهة الخطر الديمغرافي الفلسطيني، الذي يقوض شرعية "إسرائيل" وادعاءها التاريخي بعدم وجود الشعب الفلسطيني، وهذا ما يقض مضاجع سياسييها ومفكريها ومراكز الأبحاث فيها منذ سنوات، لذلك:إن الحرب الدائرة ليست دينية بالمطلق، بل هي صراع وجودي. إن شرعية البقاء في الحاضر تفرض التمسك بالأرض،ولضمان المستقبل، يستدعي احتلال الماضي.

لا نستطيع أن ننكر أن المحرك الأول والمباشر لدى الشعب الفلسطيني، ونقصد هنا دوافع المحتشدين في باحات الأقصى وحوله وعند بواباته، قد يكون استفزازًا دينيًا، ولكن من الخطورة بمكان أن يبقى هذا الدافع محصورا بهذا البعد، لأن قدسية المكان تفقد قيمتها حين يجري حصرها بحدود المكان. اي قيمة قدسية للأقصى فيما الاحتلال يدنس كامل الأرض الفلسطينية؟

فلسطين بكاملها تستمد قدسيتها من قداسة الحق التاريخي للشعب الفلسطيني بها، وكل الحقوق الفلسطينية مقدسة، قضية اللاجئين وحق العودة، والدم الفلسطيني السخي المدرار على مدى قرن وأكثر مقدسا،ويزداد قدسية بوجود الأمكنة التي تستمد قداستها من السماء.

لقد كشفت هبة الأقصى جهوزية عالية في الإرادة الشعبية الفلسطينية، التي كانت دائمًا مستعدة للمواجهة وتقديم التضحيات، بل قادرة على تحقيق المنجزات، ولكنها أيضًا كشفت غياب الإرادة السياسية، التي من مهامها تذليل العقبات وتجاوز الانقسامات، وتوفر كل ما هو ضروري، لكي تتطور المواجهة من الدوافع والمحفزات المباشرة، إلى مستوى الأهداف الوطنية، وهنا لا نبدأ من الدعوة إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة، لأنها تفصيل ينتج عن إجماع وطني على أهداف وطنية جامعة، وهذا للأسف مفقود، ثم تأتي الاستراتيجية الوطنية التي تحدد أشكال المواجهة مع الاحتلال. في هذا السياق تكون القيادة الوطنية الموحدة إحدى الآلياتلضمان استمرار المواجهة بأحد أشكالها، وتحديدًا في شقها الميداني.

 الطريقة التي تم فيها وقف التنسيق الأمني وعودته سيئة للغاية، بغض النظر إن كان قد قطع فعلًا أم لا، حيث إنه جاء بصيغة تربط وقفه بوجود أزمة! وينتهي بانتهائها، فالأزمة القائمة مع الاحتلال بحدود ما يجري في الأقصىهذا من شأنه تشكيل انطباع أن التنسيق الأمني أمر طبيعيّ مع الاحتلال، فيما وقفه هو استثناء، عند وقوع الازمات فقط. هذا شأن التنسيق بين الدول التي تقيم علاقات طبيعية فيما بينها،ولا يصح أن يكون هذا الحال مع الاحتلال.

 بتنا اليوم أمام استنتاج مر، لقد قوض أوسلو الإرادة السياسية للجميع لتجاوز هذا الضياع، إما بسبب الشراكة في مغانم أوسلو، وهذا حال السلطة، أو بسبب العجز وهذا حال معارضيه، وما تبقى من إرادة فلسطينية، فهي إما في الشارع، ولدى شرائح شبابية تجاوزت الجميع بالدم، أو في الأسر.