منذ أمس بدأ حوار الفصائل في القاهرة، كإحدى الخطوات المتفق عليها لإتمام المصالحة. بدأ الحوار وبدأ معه سقف التوقعات والتكهنات تنطلق بين من يقول بأنهم سيتفقون، فلا مجال للرجوع دون ذلك، وبين من يقول بأن حجم "الأشواك" الذي يعترض طريق الاتفاق كبير. ما يزيد من ضبابية الرؤية، واستمرار التوقعات والتكهنات المذكورة، أن الحوار بين الفصائل كان دومًا حبيس جدران مكان انعقاده، بما يعني أن الناس المعنية بنتائج ما سيتمخض عن الحوار شبه غائبة إن لم تكن غائبة تمامًا. على أية حال، نحن نريد للحوار أن ينجح، ويتفق المتحاورون، لكن يبقى الأهم على ماذا يتفقون؟!
إن تحقيق المصالحة بما يفتح الباب واسعًا أمام إنجاز الوحدة الوطنية التعددية الشاملة، يستدعي بدون أدنى شك حوارًا وطنيًا، لكي يتم الوصول إلى الأسس والنواظم السياسية التي ستقوم عليها تلك الوحدة. وعليه فالحوار ليس مسألة اعتباطية أو ترفية، بل شرط لازم وضروري يجب أن يحكم أداء وممارسة قوى سياسية تواجه في ذات الوقت الاحتلال ومخططاته ومشاريعه، وحِملٍ ثقيل من المسائل الاجتماعية والسياسية والفكرية، التي بقدر ما تثير الخلاف والاجتهاد، فإنها تفتح الطريق أيضًا أمام الوحدة لمواجهة القضايا المشتركة.
لعل ما يحدد جدوى الحوار هو فهمه كضرورة موضوعية ترقى لأن تكون مصيرية في ظل الحديث الذي يكثر عن ما يسمى "بصفقة القرن" أو الحل الإقليمي، الذي يعني استمرار استهداف القضية الفلسطينية على طريق تصفيتها. صحيح أن الحوار الذي يجري في القاهرة محدد الهدف والعناوين وجدول الأعمال، كجزء من اجراءات إتمام المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وتناول ما أُطلق عليها القضايا الكبرى: منظمة التحرير، والانتخابات، والحكومة، والمصالحة المجتمعية، والحريات العامة، لكن هذا لا يجب أن يقطع الطريق أمام الحوار الوطني الشامل الذي يهدف إلى النظر في مجمل السياسات والخيارات التي جرى تبنيها لما يزيد عن ثلاثين عامًا. أي حوار يفتح لمراجعة وطنية شاملة، يؤسس للاتفاق على رؤية وطنية موحدة، وبناء استراتيجية واضحة ومحددة، يلتف حولها الكل الوطني، ويُعمل على تطبيقها، وحشد قدرات وإمكانات وطاقات المجتمع الفلسطيني والاستفادة من كل ذلك في بناء وتقوية العامل الذاتي، في مواجهة الاحتلال، على طريق تحقيق الأهداف الوطنية في الحرية والعودة والاستقلال.
بوضوح وصراحة، لم يعد أمامنا كثيرًا من الوقت لنضيعه، فأي وقت سيضيع مجددًا، سيُدفع ثمنه من لحم وعظم ودم شعبنا وقضيتنا، فإما أن نفتح للأمل بابًا، ونزيح يأسًا استشرى، ونرفع ظلمًا استطال أمده، ونعيد للشعب دورًا فُقد، وللقضية مكانة تهالكت، أو يستمر العبث وتزداد ضبابية الرؤية إلى أن نفقد الإبصار تمامًا، حينها لن نجد لخطانا مكانًا على الأرض، وسنكون جميعنا شركاء في استمرار المأساة أو الهزيمة.. فلا فرق.