Menu

القدس ستنتصر مرة أخرى

راسم عبيدات

اذا كان من قيمة حقيقية للقرار الأمريكي الاعتراف ب القدس عاصمة لدولة الإحتلال والقرار بنقل السفارة الأمريكية من تل ابيب الى القدس فهي أنه أعاد البوصلة العربية والإسلامية الشعبية نحو فلسطين، وكذلك فإنه يسقط بالضربة القاضية أوهام ما يسمى بالعملية السلمية في الشرق الأوسط، ويكشف عن عورات وحجم وقيمة المنظرين والملتصقين بأمريكا وسياساتها في المنطقة من عربان ومسلمين، ما يعكس السقوط المريع للنظام الرسمي العربي، وتغيره البنيوي دوراً ووظيفة، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وقول السادات بأن 99% من اوراق اللعبة بيد امريكا، ليرث هذا الدور قادة أنظمة عربية تبنت مشروع الفوضى الخلاقة الأمريكية لتدمير البلدان العربية، القائم على أساس التفكيك لجغرافيتها وإعادة تركيبها على تخوم المذهبية والطائفية والثروات، ولتصل الأمور حد المشاركة والتواطؤ مع الأمريكيين في طبخ وصياغة مشاريع لتصفية القضية تحت مسمى «صفقة القرن»، هذه الصفقة التي بدأت ملامحها بالتكشف قبل الإعلان عنها، من خلال القرار الأمريكي، الذي اجزم بأنه ما كان لترامب ان يتجرأ على اعلانه، لولا الضوء الأخضر من بعض البلدان العربية، التي ارتضت في قمة عربية – إسلامية – أمريكية في الرياض في العشرين من ايار الماضي، أن تصطف البلدان العربية والإسلامية خلف "إمامة" ترامب، وتجزل له ولابنته العطاء من مال الشعب السعودي والعربي، مئات المليارات من الدولارات، وتشرع علاقاتها التطبيعية مع الإحتلال الإسرائيلي بشكل علني، واعتبارها دولة "صديقة" في المنطقة، وبأن ما يهدد امن المنطقة واستقرارها، هي ايران و«ادواتها في المنطقة» حزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية وجماعة أنصار الله في اليمن.

لم يفاجئنا القرار الأميركي فهو يأتي في سياق متصل من الدعم الأميركي اللامتناهي للاحتلال الاسرائيلي منذ وجود إسرائيل ومدّه بكلّ أسباب القوة والاستمرار بفعل التأثير الحاسم لمجموعات ضغط اللوبي اليهودي سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في دول أوروبا والغرب عموماً، وطبعاً بفعل التقاء مصالح هذا الاحتلال مع المشاريع الاستعمارية التي استهدفت بلادنا ومنطقتنا، ولكن القيمة الكبرى لهذا القرار انه أعاد الصراع الى مربعه الأول، إلى صراع وجودي مع هذا المحتل الغاصب، الذي جاء الى أرضنا تحت شعارات خادعة ومضللة، ومشروع إستيطاني إقتلاعي إحلالي، يرفض الإعتراف بحق شعبنا بالوجود ويتنكر لكل حقوقه.

الأمريكان اعتقدوا واهمين، كما اعتقد حلفاؤهم الإسرائيلون، بأنه بمنطق فائض القوة والبلطجة يستطيعون ان يزوروا حقائق التاريخ والجغرافيا، وان يجعلوا من المسجد الأقصى "جبل الهيكل" ومن القدس عاصمة لدولة الاحتلال. والإسرائيليون خبروا الرد المقدسي جيداً على مشروعهم، الذي بدأوه بنصب البوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى، بعد اغلاقه لمدة ثلاثة أيام في الرابع عشر من تموز الماضي، حيث سجل المقدسيون ومعهم كل الخيرين من أبناء هذه الأمة بوحدتهم بكل مكوناتهم ومركباتهم الوطنية السياسية والدينية والمجتمعية والشعبية، وبصلواتهم المقاومة نصراً مستحقاً على أعتى آلة حرب صهيونية، وليتراجع المحتل عن مشروعه مهزوماً.

المشروع الأمريكي الذي أرادوا تمريره وحجب الأنظار عن قضية القدس، بتشريع إحتلالها وتقويض أسس الشرعية الدولية، ما ان صدر حتى أصبح الحدث المحوري على كل الساحات دولية وعربية وإسلامية، والمؤسسات الدولية والعربية والإسلامية، وحتى البرلمانات الأوروبية، وأصبحت القدس حديث العالم اجمع، منددة ومستنكرة هذا القرار الأمريكي، الذي يشعل فتيل اللهيب والحريق في المنطقة كلها، وكانت أمريكا في جلسة مجلس الأمن تقف عارية، حتى أصدقاؤها التاريخيون، كانت كلماتهم قريبة من كلمات رافضي القرار، في ان هذا القرار الأمريكي، يشكل تطاولاً سافراً على الشرعية الدولية، ويشرع الأبواب للتطاول على قراراتها، وجواز الإستيلاء على أرض الغير بالقوة.

والرد الفلسطيني على مثل هذه القرار لم يتأخر، حيث الجماهير الشعبية خرجت بسواعدها وزنودها وحجارتها في مسيرات ومظاهرات شعبية حاشدة من القدس محور الصراع وجوهره وأساسه وفي مختلف المحافظات ولتقول بصوت واحد، كما أسقطنا مشروع البوابات الالكترونية، سيسقط مشروع تشريع إحتلال القدس، فكل جبروت قوتكم وعنجهيتكم، ستسقط امام الحق الفلسطيني، ودمنا مقابل حبركم الزائف، والقدس لأنها تضرب جذورها عميقة في الفكر والذاكرة الفلسطينية والعربية والإسلامية،ولما لها من رمزية سياسية ودينية وتاريخية وحضارية وتراثية وثقافية وإنسانية، لبت نداءها الجماهير العربية والإسلامية، في كل الساحات والميادين، حتى الدول التي تحارب قوى الإرهاب والتطرف والعدوان عليها، ك سوريا والعراق واليمن، كانت سباقة في تلبية النداء، حيث عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الجماهير خرجت في مظاهرات غاضبة لتصدح حناجرها بالوفاء للقدس والمقاومة، ولتقرع تلك المظاهرات جدران بيت صناع القرار في واشنطن، ولتخرج الأصوات المنددة والرافضة لهذا القرار من قلب عاصمتهم.

وهذه العاصفة لن تهدأ، وسيتصاعد لهيب النار التي أشعلها المتصهينون الجدد في البيت الأبيض والذين يريدون ان يثبتوا لجماعات الضغط واللوبيات الصهيونية، انهم الأكثر إخلاصا لما يسمى بالآباء المؤسسين للحركة الصهيونية وربيتها إسرائيل.

نحن دائماً واثقون بأن القدس رغم حالة العمى السياسي عند البعض العربي، والذي فقد اتجاه البوصلة، وحرف اتجاه الصراع من صراع عربي- " إسرائيلي " جوهره القضية الفلسطينية الى صراع إسلامي- إسلامي مذهبي (سني – شيعي)،نظن بأن اللطمة القاضية التي وجهته له أمريكا ربما تعمل على إستفاقته وإستعادة توازنه، بأن أمريكا في المنطقة ليس لها صداقات دائمة، بل مصالح دائمة، والحلفاء والأصدقاء، عندما ينتهي دورهم ومهامهم في خدمة مصالحها وأهدافها،سرعان ما تتخلى عنهم.

نحن واثقون بأن القدس ستنتصر كما انتصرت في معركة البوابات الالكترونية بهمة وسواعد رجالها وشبانها وفتياتها ونسائها وشيوخها واطفالها وسجاجيد صلواتها المقاومة. وبدعم شامل فلسطيني عربي اسلامي عالمي، ستنتصر في معركة عروبتها وإسلاميتها، وستثبت أنها قلب العروبة النابض، وبكلمات الرجل القومي العروبي اللبناني جبران باسيل، شلبنان الصغير مساحة، الكبير عزة وكرامة وشرفاً وانتماء " لا عرب ولا عروبة بدون القدس".

والقدس يا عرب ليست بحاجة الى إنشاء مكرر ولغو فارغ من بيانات شجب واستنكار، والحديث عن تمسك بسلام ممجوج، كلما قدمتم تنازلاً، كلما امعنت إسرائيل في عنجهيتها وصلفها، وإذا كانت قضية بحجم القدس، في اجتماع وزراء الخارجية، تقولون بأنها ستدفعكم الى إعادة النظر بعملية السلام، وبأنها تقوض ثقتكم بامريكا، ولم تتخذوا أي خطوة عملية، نحو قطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا واغلاق سفاراتها في بلدانكم وسحب استثماراتكم وودائعكم من بنوكها ومصارفها، وأصررتم على التمسك "بصنمكم" ما يسمى بمبادرة السلام العربية، المقرة في قمة بيروت آب/2002، والتي استمريتم بترحيلها من قمة الى أخرى، والهبوط بسقفها، لعل إسرائيل توافق عليها، وتستر عوراتكم وتحفظ ماء وجوهكم، ولكن إسرائيل وامريكا والعالم، لا يحترم الضعفاء ولا الجبناء ولا المرتجفين والمرتعشين بل يحترم من يحترم ذاته ويفعل ويستخدم عناصر قوته، فسياسة الإستجداء وتشكيل اللجان واللف والدوران، لن تنقذ لا قدسا ولا مقدسيين ولا فلسطينيين ولا عربا، وما تحتاجه القدس هو ما عبر عنه فقط وزير الخارجية اللبناني المقاوم، قمة حقيقية عربية عنوانها القدس،من اجل استعادتها الى حضنها العربي، فلا عرب ولا عروبة بدون القدس.