لا يساورني شك أن القضية الفلسطينية هي من أهم القضايا التي استحوذت على اهتمام اﻷوساط العالمية وكانت القضية اﻷبرز على مدار ما يقارب قرن من الزمان وهذا ما حذا بالدول العظمي وهيئة اﻷمم المتحدة والكثير من المحاور الاقليمية إلى أن تسعى لطرح المبادرات السياسية و أن تكون الرائدة في منابر اﻹعلام للحديث في القضية الفلسطينية، واقتراح المخططات واﻹستراتيجيات لحلها. ولعل جزءاً من تلك المبادرات كانت بهدف بسط النفوذه أو دعم حقوق الشعب الفلسطيني أو على النقيض دعم مخططات الاحتلال الإسرائيلي وترسيخه، فكل له مصالحه وأطماعه التي يسعي جاهداً لتحقيقها.
إن الصراع بين المحاور والتيارات الإقليمية والدولية عبر الهيئات الدولية والمنظمات اﻹقليمية لا زال يفرز صراعات وتجاذبات مختلفة ومتناقضة أحياناً؛ إلا أنه بات واضحاً أن الاهتمام اﻷكبر ظهر من هيمنة ثلاثة محاور، أولها كان المحور الشيعي المتمثل بالجمهورية اﻹيرانية وحلفائها نظام بشار اﻷسد في سوريا وحسن نصرالله في الجنوب اللبناني، وثانيهما المحور الإخواني المتأرجح بين السياسات الدولية وعلى رأسه تركيا وقطر، أما المحور الثالث فهو المحور السني والمتمثل في المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية.
ولعل في ظل غياب المحور السني وانشغال السعودية في اليمن و انشغال مصر في أزماتها الداخلية ومحاربتها لموجة اﻹرهاب التي تعم البلاد مؤخراً، وانشغال المحور الإيراني بمفاوضات الملف النووي ومحاربة داعش في العراق وسوريا ومؤازرة الحوثيين في اليمن، تفردّ المحور الإخواني بقيادة تركيا وقطر مدعوماً ببعض القوى اﻹسلامية الفلسطينية بالتسرب وجس النبض إلى أن وصل ذروة نشاطه مؤخراً وقام هذا المحور بطرح المبادرات ليترجم مساعيه ويعمل على فك شيفرة الصراع بين طرفي الانقسام الفلسطيني وليهيمن على الملف الفلسطيني من دون باقي المحاور التي كانت تديره من قبل، ويعمل بدبلوماسية هادئة وسياسة ناعمة ليتمكن من تمرير مخططاته وإملاءته على المحورين الآخرين.
هذا المحور الذي يقف على أرض صلبة مستنداً على علاقاته المتينة مع الدولة اليهودية لاسيما تحالفاته ومعاهداته العسكرية وروابطه التجارية معها لا ينفك يعمل جاهداً لتحقيق مصالحه والتغلغل في الملف الفلسطيني عبر أكثر الملفات الفلسطينية حرجاً وتأزماً في الفترة الراهنة ألا وهي ملف المصالحة الفلسطينية وملف إعادة إعمار قطاع غزة؛ فيقوم هذا المحور بجولات واتصالات مكوكية ومكثفة بين كل من حركة حماس في قطاع غزة وبين الرئيس محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لوقف التصعيد والتراشق الإعلامي والتصعيد الأمني بين الطرفين في محاولة منه لتمهيد البساط لعملية مصالحة وطنية وتمكين حكومة غزة بقيادة حماس من البدء عملياً بإعادة إعمار قطاع غزة.
وعل المراقب يرى كيف أن قطر دولة تعيش دور المراهقة السياسية حيث ترتكز على الولايات المتحدة الأمريكية وقواعدها العسكرية وتعمل على تنفيذ مشاريع سياسية لحماية حليفتها إسرائيل وتوطيد علاقاتهما التجارية؛ أما تركيا فهي الداعم الرئيسي للإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي حيث توظف اﻹسلام كوسيلة وليس إيمان وعقيدة، فالإسلام السياسي غطاء للسياسة التركية التي أتقنت العمل بمقولات الفلاسفة وعلى رأسها الفيلسوف الألماني كارل ماركس ( الدين أفيون الشعوب ).
هدفت الدولة التركية إلى تفكيك اﻷنظمة والقوى العربية وهللت للربيع العربي المزعوم لتجعلها تدور في فلك السياسة التركية وأعانتها على تحقيق ما تصبو إليه لتجسيد دورها اﻹقليمي في المنطقة واقتسام مصالح النفوذ مع إسرائيل اللاعب اﻷقوى في منطقة الشرق الأوسط.
تركيا أتقنت فنون اللعبة السياسية فكانت تركيا أتاتورك أول دولة في العالم تعترف بدولة اسرائيل منذ أن أعلنت قيامها عام 1948، وهي اليوم تؤدي دورها من أجل تحقيق أهدافها للسيطرة على الملف الفلسطيني والعمل على تحييد وتهميش باقي المحاور وااستحواذ على مفاتيح الملف الفلسطيني للوصول إلى غايتها الهادفة لإنشاء كيان ونظام إخواني في منطقة الشرق اﻷوسط وإرغام الفلسطينيين بالموافقة على مطالب إسرائيل بيهودية الدولة.
إنّ ما تناقلته وكالات اﻷنباء وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين وقياديين من حركة حماس أن هناك لقاءات وحوارات ورسائل متبادلة بين الطرفين عبر تركيا وقطر، وأن هناك مبادرة تنص على ترسيخ هدنة طويلة اﻷمد على مدار عشر سنوات بين حركة حماس والجانب اﻹسرائيلي يتم بموجبها كسر الحصار بإنشاء ميناء بحري لقطاع غزة وبالطبع تكون خاضعة لإشراف حلف الأطلسي وتركيا ويتم فحص البضائع من قبل أمن الموانئ اﻹسرائيلي قبل وصولها لغزة، إلى جانب موافقة إسرائيل على إعادة إعمار قطاع غزة بعد سلسلة الحروب التي خاضتها إسرائيل ضده.
دون شك نجاح هذا المشروع السياسي سيؤدي بتركيا لأن تتفرد بالحلول والهيمنة على القرار الفلسطيني وتحقيق أهدافها وأهداف شركائها في المنطقة وبهذا تعمل على تعويض خسارتها واستعادة جزء من علاقاتها مع دول الجوار بعد أن أصبحت علاقاتها في قمة السوء مع محيطها الجغرافي.
اللافت إن تركيا تسير على نهج قائد الإخوان التركي البروفسور نجم الدين أربكان وهو الذي أضاف إلى القومية التركية مصطلح الإخوانية التركية وليس أسلمة المجتمع وهو الهدف التي تسعى له تركيا وتنجر وراؤها دولة قطر التي تأثر قادتها بالفكر الإخواني بعد أن لجأوا إليها هرباً من مصر في ستينيات القرن الماضي فتركيا دولة طموحة تعمل لصناعة تركيا الحديثة واستعادة مجد الخلافة العثمانية التي هيمنت على منطقة الشرق الأوسط قرابة أربع قرون والتنصب على رأس الهرم السني امتلاكها لمقومات التصدي ومنافسة المحور الإيراني وهذا يدغدع مشاعر أهل السنة في الوطن العربي.
فتركيا الليبرالية والمتأثرة بثقافة الغرب وحضارته والتي تظهر كقوة اقتصادية في الشرق الأوسط وترتدي الثوب الإسلامي وتنتهج الطابع الديني المتشدد المحافظ على قواعد الإسلام هي التي تبذل قصارى جهدها لإتمام انضمامها للاتحاد الأوروبي!!
إن الفهم التركي للإسلام يختلف كلياً عن مفهوم الفهم الإخواني في الوطن العربي هم متمسكون بقوميتهم ولغتهم وعلمهم ووطنهم ووحدة أراضيهم والتي ترعي حقوق الأقليات في العراق وقبرص؛ أما الإسلاميون العرب فلا يعترفون بالقومية ويعملون على تغييبها وتمزيق وحدة الوطن العربي.
ولعل ما جرى في مصر أصاب المشروع التركي في الصميم ووضع ما يشبه النهاية لأحلام أردوغان ودور تركيا الإقليمي تجاه المنطقة العربية من جهة، ومن جهة ثانية فرض على أردوغان إعادة النظر في حسابات تركيا وقطر في كيفية انتهاج سياسة إقليمية لا تقوم على التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية بل بمحاولة إيصال قوى محددة إلى السلطة. فالثابت أن تركيا أردوغان هي الخاسر الأكبر من سقوط حكم مرسي في مصر وخسارة حزب النهضة في تونس وتشتت البوصلة في سوريا، وما يعني هذا السقوط من انعكاسات محتملة على تركيا وعلى وضع العلاقات الإقليمية والتجارية في المنطقة.إن تركيا تسعى إلى تعويض خسارتها التجارية بعد فشل الربيع العربي حيث كانت المبادلات التجارية بين تركيا و ليبيا 16 مليار دولاراً سنوياً وهذا يدفعها للمحاولة مرة أخرى للعمل على محاولة فرض سيطرتها التجارية على المنطقة واستغلال السوق العربية والاستفادة من إيرادات الثروة النفطية العربية لتعويض خسائر الشركات التركية والاقتصاد التركي الذي كان ينمو بتسارع شديد نحو الاستقرار، لذا صبت تركيا كل قنواتها الدبلوماسية نحو المنطقة وخصوصاً القضية الفلسطينية على أمل تغير الوجه الإقليمي للمنطقة لصالح التطلعات التركية التي تتلخص بالعثمانية الجديدة.
إذن بدون أدنى شك أن الهدف التركي هو هدف استراتيجي يعمل جنباً إلى جنب مع قطر وإسرائيل لإنهاء القضية الفلسطينية مقابل إقامة دولة في غزة، وهنا لن يتبقى للشعب الفلسطيني أي خيار إلا أن يقبل بكل شروط إسرائيل التي ستفرضها عليه بمساع عربية ودولية والعمل على إيجاد حلول لقضايا القدس والاستيطان في الضفة الغربية وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين من زاوية المنظور الإسرائيلي ؛ وهو ما سيزيد من تدهور وضياع القضية الفلسطينية التي تسير أصلاً ضمن منحدر خطير منظم ومدروس من قبل المخططين له والراعين لهذا الانحدار حتى وصلت إلى واقع مزري بكل ما تحمل الكلمة من معني.