Menu

في السياسة الدولية: الهند.. القوة الصاعدة

د.علي الجرباوي

الهند قوة صاعدة في الساحة الدولية، وسيكون لها شأن مهم اقتصادياً وسياسياً على الصعيد الدولي خلال العقود القادمة، خاصةً وأن النظام الدولي أحادي القطبية (الولايات المتحدة) غير راسخ تماماً أو حتى مستقر حالياً. فهذا النظام يتعرض الآن لضغوط ويشهد تنافسات ويعاني من تصدعات قد تقود مستقبلاً إلى بزوغ عالم دولي مختلف، تكون التعددية فيه أكثر جلاءً وتأثيراً.

وفي مسيرة صعودها الحالية، تُشكّل الهند مثالاً كلاسيكياً لكيفية نجاح الدولة، أية دولة، في المزاوجة بين رغبتها الذاتية المستندة إلى حسّ قومي قوي يدفعها للتنافس على تبوّء مكانة متقدمة بين الدول، من جهة، مع الاستفادة القصوى من توظيف موقعها الجيو - استراتيجي لتحقيق هذا التقدم.

منذ فوزه بالانتخابات العامة واستلامه رئاسة الحكومة قبل عام، اتّبع ناريندا مودي، زعيم حزب بهارتا جاناتا ذي النزعة القومية القوية، سياسات مرتكزها تطوير قدرة الاقتصاد الهندي، وهدفها تحويل الطاقة الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية للهند على الصعيد الدولي.

الدافع القومي لرؤية مودي لا يستند إلى رغبة شوفينية فقط، بل يعتمد على ما تملكه الهند من مقومات وإمكانيات مهمة أيضاً، فالهند، أكبر الديمقراطيات في العالم، هي ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان، ما يعطيها قاعدة قوى عاملة عريضة، وتشكيلة شديدة التنوع من حيث التأهيل والقدرات.

وهي سابع دولة من حيث المساحة، ورابعها بالإنتاج الزراعي، وتمتلك ثالث أكبر جيش في العالم، ويأتي ترتيبها تاسعاً من حيث الإنفاق العسكري. والأهم أنها تمتلك ثالث أكبر اقتصاد آسيوي، وأحد أهم الاقتصادات في العالم، وأسرعها نمواً.

صحيح أن 42% من سكانها ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر، بمعنى أن ثلث فقراء العالم هم هنود، وأنها تعاني من اختلالات بنيوية في هياكلها المختلفة، ما يؤثر سلباً على قدراتها الإنتاجية، إلا أن هذا هو ما يحاول رئيس وزرائها تغييره.

التحول الاقتصادي الذي يرغب مودي في تحقيقه قائم على إخراج اقتصاد الهند التبادلي من تركيزه التقوقعي داخل مجالي تقديم الخدمات والبرمجيات في تكنولوجيا المعلومات، إلى مجال أرحب وأعمق قائم على قاعدة تنويع وتكثيف التصنيع في البلاد.

فبالإضافة إلى مجال تكنولوجيا المعلومات التي تبرع الهند في إعداد برمجياته، يريد رئيس وزراء الهند التركيز على صناعة الصلب والاسمنت والنسيج والسيارات والأدوية، وأن يدخل الهند في مجال الصناعات العسكرية والفضائية.

أما مسعاه فهو تحقيق زيادة حصة الهند في التبادل التجاري العالمي، ما يمنحها في المستقبل قوة اقتصادية أكبر، تفتح لها أبواب التقدم في المكانة السياسية دولياً، لذلك هي تطالب الآن بمقعد دائم في مجلس الأمن.

جاءت ظروف الصراع الدولي لتلعب في صالح سعي رئيس الوزراء الهندي، وتعطيه منفذاً واسعاً لاستقطاب التمويل الاستثماري من مصادر خارجية متعددة، ما يعطيه الفرصة لتحقيق رؤيته في تحديث وتطوير اقتصاد بلاده ليصبح أكثر قدرةً وتنافسية.

فالولايات المتحدة قلقة حالياً على مكانتها المتفردة دولياً من منافسة الصين لها، ليس فقط اقتصادياً حيث يحقق الصينيون تقدماً متسارعاً على أميركا، وإنما من إمكانية تحويل هذه القدرة الاقتصادية الصينية المتعاظمة إلى تصاعد في قدرتها العسكرية، فتصبح القوة الإقليمية المهيمنة في الشرق الأقصى أولاً، ومن ثم تنافس أميركا على مكانتها الدولية لاحقاً، لذلك تسعى الولايات المتحدة لتحجيم دور الصين إقليمياً ودولياً، واحتواء القوة الصينية الصاعدة.

من هذا المنطلق، وبعد أن قامت بكين بإعلان بحر الصين، الذي تتشارك فيه المصالح البحرية والتنقيبية مع اليابان وكوريا الجنوبية، منطقة أمن قومي لها، وبدأت في بسط هيمنتها العسكرية عليه، أعلن الرئيس أوباما مبدأه القاضي بتحويل الاهتمام والتركيز الأميركي إلى منطقة الباسفيك. وبالطبع، هذا أدى إلى تشكّل تحالف تقليدي تلقائي لمحاصرة الصين، يتألف إلى جانب أميركا من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين. ولإحكام هذا الحصار وخنق الصين بشكل كامل، تبقى هناك حاجة ماسة لاستقطاب الهند للانضمام إلى ذلك المسعى.

لهذا السبب بدأت الولايات المتحدة في تغيير سياستها السابقة، والتي كانت ترتكز في شبه القارة الهندية، على الباكستان، وليس الهند، كحليف استراتيجي لها.

بالمقابل، كانت الهند حينذاك محسوبة بالضرورة على المعسكر المقابل، حيث كان الاتحاد السوفياتي، ثم روسيا، موردها الرئيس للأسلحة، وشريكها التجاري الأساسي.

توجّت واشنطن هذا التحول بزيارة للرئيس أوباما للهند، والتي أعلن خلالها رغبة واشنطن بعقد شراكات استراتيجية مع نيودلهي في مجالات متعددة، وزاد خلالها من حجم الاستثمار الأميركي في الهند، وأكد فيها زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي بلغ العام 2014 أكثر من 60 بليون دولار، ليصل خلال السنوات الست المقبلة إلى حوالي 150 بليون دولار.

فهم رئيس الوزراء الهندي أصول اللعبة، وبدأ بلعبها لمصلحة بلاده بإتقان. فقد بالغ في الحفاوة بأوباما، وردّ له الزيارة إلى واشنطن، وأسمع الأميركان ما يودّون سماعه، ليس فقط من قبيل التأكيد على الاستعداد الهندي لعقد شراكة استراتيجية مع أميركا، وإنما التوافق معها أيضاً في الموقف المناهض لتفرّد أي طرف إقليمي وهيمنته على منطقة الشرق الأقصى، قاصداً الصين دون تسميتها صراحةً.

وقد أدى هذا التقارب الأميركي – الهندي، والذي لم يُكلّف الهند كثيراً، إلى تعظيم الاستفادة من كل ما هو معروض عليها أميركياً.

بالمقابل، لم يؤدِ هذا التقارب إلى تعطيل مودي عن هدفه استقطاب الصين. بل على العكس تماماً، فقد استخدمه رئيس الوزراء الهندي طُعماً لإغراء، إن لم يكن ابتزاز الصين، وجعلها تسعى لاستمالة نيودلهي باتجاهها. فالصين على دراية وافية بأن انحياز الهند باتجاه أميركا سيكبدّها مخاسر جمّة. أما حضارة الهند للصين فكانت العضوية معها في مجموعة "البريكس"، وانضمامها عضواً مؤسساً في "بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية" التي اقترحته وتترأسه الصين.

في أعقاب زيارة الرئيس الأميركي لنيودلهي، هرع إليها الرئيس الصيني شي جين بينغ، طالباً القرب من الهند. لم يُثنه الخلاف الحدودي المزمن بين الدولتين، أو استضافة الهند للدلاي لاما، الزعيم الروحي للتبت المطالبة بالانفصال عن الصين، أو الاتفاق الهندي – الفيتنامي للتنقيب عن النفط في المحيط قبالة جزر متنازع عليها مع الصين، من أن يطلب، كما طلب أوباما من قبله، تحقيق شراكة استراتيجية مع بلدٍ أصبح ذا أهمية قصوى لبلاده. المهم أن لا تذهب الهند بالاتجاه الأميركي، لذلك، أغدق الرئيس الصيني على الهند بالاتفاقيات وأموال الاستثمار والشراكات، ووعد بزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي كان قد بلغ العام 2014 حدّاً قياسياً بمبلغ 71 مليار دولار.

لم يقف حدّ لعب مودي على وتر عامل موقع الهند الجيو - استراتيجي في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين، وإنما استغلّه أيضاً لتوطيد العلاقات التجارية والاقتصادية مع اليابان وكوريا الجنوبية.

ومن خلال لقاء حميم مع الرئيس بوتين في نيودلهي أواخر العام الماضي، وطّد رئيس الوزراء الهندي وشائج العلاقة التقليدية الوثيقة مع روسيا التي بقيت حتى الآن مزوّد الهند الرئيس للأسلحة.

وتم توقيع عدة اتفاقيات بين البلدين أهمها في مجال نقل التقنية العسكرية وتصنيع الأسلحة، لكن ذلك لم يمنع مودي من التوجه لاحقاً إلى باريس للقاء الرئيس أولاند وعقد صفقة مقدارها 20 مليار دولار لشراء 126 طائرة رافال الحربية المتطورة.

تحت الراية القومية لرئيس وزراء يؤمن باستحقاق بلاده الانضمام لنادي الاقطاب الدولية، وبتوظيف ذكي لأهمية موقعها الجيو - استراتيجي في الصراع الدولي الدائر حالياً بين أميركا والصين تحديداً، تستغل الهند كل القدرات المتاحة لها، والامكانيات المفتوحة أمامها، وتناور ببراعة، وتراكم لشق طريقها الصاعد إلى قمة الهرمية الدولية.

ولكن بصرف النظر عن تصميمها على تحقيق هدفها، فإن احتمالات نجاحها تبقى أيضاً تعتمد على العديد من العوامل الأخرى، ليس أقلها شأناً استمرار قدرتها على اللعب على حبال التوتر الأميركي – الصيني.

على أية حال، في اللقاء الذي تم قبل أيام بين رئيس الوزراء الهندي والرئيس الصيني في بكين، أعلن مودي أن "هذا القرن سيكون لآسيا". إعجاب الصينيين وتصفيقهم يجب ألا يُخفي دلالة ما كان يعنيه مودي بذلك. بالتأكيد لم يكن يقصد إطراء الصين.

 

نقلاً عن: الأيام