Menu

تحية إليه فى يوم مولده

محمد السعيد إدريس

علمنا جمال عبد الناصر فى حياته أن الثورة، أى ثورة، لا يمكن إلا أن تكون عملاً شعبياً وتقدمياً. شعبياً بمعنى أن تكون عملاً جماعياً وحلماً جماعياً وإرادة جماعية بغض النظر عمن تكون «الطليعة» التى ستتولى مسئولية المبادرة. لا يمكن أن تكون الثورة أبداً عمل قوة سياسية أو جماعة سياسية بعينها أو طبقة اجتماعية من الطبقات المكونة للمجتمع، بل هى ثورة الشعب، كل الشعب وإرادته الجمعية أو الكلية. وأن تكون الثورة تقدمية، أن تكون صاحبة مشروع للتغيير الجذرى نحو الأفضل، أن يكون هدفها هو إسقاط كل ما هو فاسد، وبناء كل ما يجسد الحلم الشعبى فى حياة أفضل، وأن تغير الركود والضعف والاستكانة والهوان إلى إباء وعزة وكرامة للوطن وللشعب، كل الشعب.

وعلمنا جمال عبد الناصر فى غيابه، أن الثورات تسقط عندما تسقط مشروعاتها، إما أن تتخلى الثورة عن مشروعها، وإما أن يعجز مشروعها فى أن يحافظ على ثوريته، أى على إرادته وقدرته على التغيير نحو الأفضل بما يجسد أحلام الشعب وطموحاته. إذا فقدت الثورات مشروعها الثورى وإرادتها الثورية تتهاوى وتنهار وتتحول إلى مجرد ذكرى تاريخية، ومرحلة من مراحل الشعوب.

والآن وبعد مضى ما يقرب من ثمانية وأربعين عاماً على رحيل جمال عبد الناصر فإن السؤال الذى ظل ومازال يفرض نفسه هو: هل مشروع جمال عبد الناصر فى التغيير الثورى مازال يمثل طموحاً شعبياً؟ وهل هذا المشروع مازال صالحاً ليكون مشروعاً مستقبلياً ل مصر وللأمة العربية فى ظل كل ما حدث من تغيرات وتحولات فى المشهد الوطنى المصرى وفى المشهدين العربى والعالمي؟.

ولأن السؤال مهم ويمثل بالفعل تحدياً كبيراً، اختار منظمو احتفالية مئوية ميلاد جمال عبد الناصر هذا الموضوع ليكون عنواناً للندوة الأساسية فى هذه الاحتفالية بمشاركة عدد كبير من المفكرين والخبراء والباحثين المصريين والعرب. فتحت عنوان: «مشروع جمال عبد الناصر.. رؤية مستقبلية»، سيتم البحث فى هذا المشروع من جوانبه المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقومية من منظور ورؤية مستقبلية. لقد شاء منظمو احتفالية مرور مائة عام على ميلاد الزعيم أن يتجاوزوا العواطف وأن يخوضوا فى التحديات فى محاولة لتبصر المستقبل، ولإدراكهم حقيقة أن هذا المشروع، رغم كل ما تعرض له من تحديات وتجاوزات، مازال يمثل سفينة الإنقاذ ليس لمصر وحدها بل للأمة العربية كلها انطلاقاً من إدراك مجموعة من الحقائق.

أولى هذه الحقائق أن الدولة الوطنية العربية، سواء كانت ليبرالية وديمقراطية أو كانت مستبدة وتسلطية، سواء كانت جمهورية أم كانت ملكية، أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمى كشريك فى الإنتاج وصنع المعرفة والعلم، ومن ثم تصبح شريكاً فى القرار الدولى، بل إنها، أى الدولة الوطنية العربية، وبكل أسف أضحت عاجزة عن حماية وجودها والتصدى لمحاولات إعادة تقسيمها على أسس طائفية أو دينية أو عرقية.

ثانية هذه الحقائق، أن هذه الدولة الوطنية لم تستطع بتحالفاتها الدولية أو الإقليمية تحقيق أهداف الاستقرار والأمن والتماسك السياسى والتقدم الاقتصادى والاجتماعى والنهوض بالمكانة الوطنية إقليمياً دولياً، ولكنها باتت ليس فقط دولة تابعة، ومتهافتة على أن تكون تابعة، بكل ما يؤدى إليه هذا التهافت من هدر مخزٍ للثروات طلباً لحماية ومشاركة فى تحالف تترأسه القوة الدولية الحليفة أو القوة الإقليمية الشريكة، ولكنها فضلاً عن هذا كله انحرفت عن ثوابت الأمة وأخذت تتورط فى مسلسل التفريط فى الحقوق الوطنية والقومية والتحالف مع الكيان الصهيونى ومهادنته والترويج لمشروعه الاستعمارى الاستيطانى على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى فى حق تقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية وعاصمتها القدس .

ثالثة هذه الحقائق أن مشروع الإسلام السياسى، بشتى تلاوينه سواء كان إخوانياً، أو جهادياً سلفياً تورط فى خطيئة التكفير والتفريط، وممارسة الإرهاب، وتدمير الدول، بدلاً من أن يحفظ لها وحدتها ويحقق تقدمها وعزتها ونهضتها، وكان أخطر أسباب وأدوات إعادة التفتيت والتقسيم، وإسقاط الانتفاضات الثورية وانتكاستها، فضلاً عن أنه أخذ يهدد الهوية الحضارية العربية للدولة.

رابعة هذه الحقائق أن العروبة والمشروع القومى العربى، هما الضمان الأهم، وربما الوحيد، لبقاء وجود الدولة الوطنية العربية، لكن العروبة كهوية، والمشروع القومى العربى كمرتكز. لن يستطيعا تحقيق ذلك دون ربط شرط الوحدة، كأساس جوهرى للمشروع بشروط التقدم الحضارى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما أن امتلاك هذه الشروط لا يكفى أيضاً لتحقيق الأهداف دون مواجهة مصادر تغذية الدعوة التقسيمية لدولنا العربية.

إدراكنا لهذه الحقائق، ونحن نستعيد دراسة مشروع جمال عبد الناصر يضعنا على الطريق الصحيح لإعادة التقييم. فالمشروع الذى أرسى جمال عبد الناصر قواعده فى الاستقلال الوطنى والقومى، والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية كان جوهره هو «العزة والكرامة» بتأمين الحرية للوطن والمواطن، وتحقيق عدالة توزيع الثروات الوطنية عبر سياسات تهدف إلى تقليص الفجوات الهائلة بين دخول من يعيشون فى العشوائيات والمقابر والقرى النائية معدومة الخدمات وبين من يعيشون فى القصور ويهدرون الثروات، جنباً إلى جنب مع طموح تحقيق الوحدة العربية لأنها ضمان بقاء الأوطان والحفاظ على الهوية وتحقيق التقدم. كيف يمكن تحقيق ذلك فى ظل كل ما تواجهه الأمة الآن من تحديات وتعيشه من انتكاسات؟

لقد عاش جمال عبد الناصر ومات وهو يحلم بتأمين «الخبز مع الكرامة» لكل مواطنيه، وأن يتحقق للوطن «الأمن مع الكرامة» أى استقلال وطنى حقيقى متحرر من كل تبعية. عدالة اجتماعية ممزوجة بالحرية، واستقلال وطنى مبرأ من كل خضوع وانكسار. هذا هو جوهر مشروع جمال عبد الناصر وهذا هو التحدى، بمعنى كيف يمكن استعادة هذا المشروع، وعبر أى آليات وسياسات؟ وقبل هذا كله: هل هذا ممكن؟ أم المشروع أضحى محض طموحات؟ هل توجد أرضية وطنية وقومية لتجديد نضالات هذا المشروع الذى يستهدف استنهاض أمة بكاملها كى تستعيد دورها ومكانتها التاريخية فى صنع التقدم المرتكز على قواعد العدل؟

أسئلة مهمة فى حاجة إلى اجتهادات، لكن قبل هذا كله سيبقى الحكم على جدارة أو عجز أى مشروع وطنى بمدى نجاحه أو إخفاقه فى تحقيق هذه المعادلة الصعبة. هذا ما عاش ومات من أجله جمال عبد الناصر فتحية له فى يوم مولده.