Menu

ما هو الإرث الذي يريد أبو مازن أن يخلفه لشعبه؟

محمود عباس

بقلم / شادي الشرفا *

يسعى أغلب الرؤساء والملوك لترك إرثٍ لهم يتذكره الأجيال عبر التاريخ، إرثٌ يُسجل في حروف التاريخ العريق ليخلف بصمة تتخلد وتبرز كإنارة مشعة ساهمت في إحداث تطور ما أو كرست حدث ما من شأنه الرقي بالشعوب وأخذهم إلى بر الأمان.

لكن بعض الزعماء لا يرون من التاريخ سوى محدودية حكمهم وبمنظور ولايتهم، وربما يعتقدون أن التاريخ سيتوقف بعدهم أو أن الزمان محصور في عمرهم المديد، وينسون ويتناسون أن تاريخ الشعوب أكبر وأعرق من تاريخ الأفراد، وأن الحضارات الإنسانية تصيغها الإرادات الجمعية الحرة.

قيل وكتُب الكثير عن دور الفرد في التاريخ، ولدينا عدة حالات فردية أحدثت فرقاً بالإيجاب أو السلب، لكن يبقى السؤال أي من الزعماء يربد "أبو مازن" أن يكون؟، في تلك الفئة التي تُدوّن بالصفحات المشرفة؟ أم المظلمة في التاريخ؟ من تلك الفئة المتزعمة التي تسجد لشعراء البلاط وتنصاع للمحيطين بالعرش والذين يمتصون دماء شعوبهم وخيراتهم وثرواتهم؟ أم من تلك الفئة المستنيرة من الزعماء الذين يقدسون الحقوق ويؤمنون بنبض الشارع ويُعبّرون عن آمال الجماهير وطموحاتها وأحلامها؟.

إن التاريخ لا يرحم وصفحاته لا تنسى من أخطأ بحق الشعوب ومن لعب بمصيرها وأباح قوتها، ولا تنسى من أبدع وطوّر ووحّد ومن قسّم وتخلف وأضعف وشرذم؛ فالتاريخ عندما يكُتب بالدماء كتاريخنا العربي الفلسطيني المليء بالتضحيات غالباً يحمل في ثناياه مضامين واقعية وموضوعية تعكس الحقائق التي لا يمكن تغطيتها بغربال، والشعوب ذكية مهما تم استمالتها ومهما دخرت من أموال ووسائل إعلام وأجهزة الدولة لكي عقولها ولخلق وعي جديد لها يخلط الحقائق والوقائع ويعمي العيون ويكم الأفواه ويحد من الحريات. ولقد مر عبر التاريخ زعماء كثر لعنهم التاريخ وآخرون تمجدهم الشعوب والأجيال، كل ذلك يعتمد على تركة هؤلاء الزعماء والإرث الذي يتركونه بعد رحيلهم.

فما هي البصمة أو الإرث الذي سيخلفه لنا "أبو مازن"؟ كيف يريد أن تدونه صفحات التاريخ ولم يبقَ من العمر أكثر مما مضى؟

أستحضر ولاية الرئيس "أبو مازن" منذ رحيل الشهيد "عرفات" حتى اللحظة، وأستحضر "منجزاته" وإخفاقاته على مدار عقود، ولكنني للأسف أشعر بخيبة أمل كبيرة، فالإرث الذي سيتركه يبدو ثقيلاً جداً على كاهلنا وخطيراً جداً على مستقبل الشعب العربي الفلسطيني وعلى هويته وطموحه بالعودة والاستقلال.

لقد ترك لنا حتى الآن أبو مازن الإرث التالي:

أولاً: تركة "أوسلو" التي كان عرابها وتبعاتها الخطيرة على مستقبل شعبنا، فبعد أكثر من ربع قرن على توقيع "أوسلو" باتت الدولة أبعد من أي وقت مضى، وحقوقنا الفلسطينية تتبعثر وتتلاشى، والبعد التحرري ل فلسطين التاريخية تم التنازل عنها وتم الاعتراف بحق الوجود الإسرائيلي على حساب حقوقنا الوطنية وفي مقدمتها حق العودة، وها نحن اليوم ندفع فاتورة "أوسلو" يومياً.

ثانياً: تركة "الانقسام"، فقد فشل أبو مازن بمنع الانقسام من الحدوث وفشل في كل جهود المصالحة، رغم أن "الانقسام" كارثة تتحمّلها حركتي "فتح وحماس" على السواء، وإن ما طُبع في ذهننا من إصرار على كسر الطرف الآخر وانعدام عقيدة التوافق، وبالتالي نحن الآن أمام "انقسام" يهدد النسيج الوطني الفلسطيني برمته، والرئيس مسئول أول عن الشعب الفلسطيني لذا يتحمّل المسئولية الكبرى في ذلك.

ثالثاً: تركة الأجهزة الأمنية البوليسية التي تلاحق المقاومة: فتحت شعار " لا لعسكرة الانتفاضة" تم ملاحقة وتفتيت كافة مفاصل المقاومة بالضفة وتدمير البنى التحتية لها، بادعاء الانقسام تارةً والمقاومة السلمية تارةً أخرى، مما أضعف إحدى أهم مصادر القوى لدى شعبنا، وفاقم من انتهاكات الاحتلال في الضفة؛ فسياسة فرض نهج مقاومة دون غيرها على شعبنا أتاح المجال لعربدة المستوطنين على سكان شعبنا الأعزل وممتلكاته وحقوقه إلى جانب عربدة الأجهزة الأمنية وانتهاكاتها وسجونها سيئة الصيت والسمعة.

رابعاً: تركة الاستحواذ الكلي على (م.ت.ف) وإضعافها والتعامل معها كملكية خاصة وتجييرها للاستخدام المنفعي فقط وتعطيل إعادة بنائها على أسس وطنية وديمقراطية، وإعلان السلطة المتشكّلة من رحمها مكانها مما يقوي تمثيلها الشرعي للكل الفلسطيني بدلاً من المنظمة، مما يهدد حق العودة باعتبار أن (م.ت.ف) تمثل الفلسطينيين في الداخل والشتات أما السلطة فلا.

خامساً: تركة نظام قضائي ضعيف وملاحق وترهيب بعض القضاة والضغط على آخرين ناهيك عن تركة مؤسسات تعليمية وصحية وصناعية ضعيفة ولا تنسجم مع حاجات الشعب الفلسطيني ومتطلباته ومقاومته، ومؤسسات ووزارات وسفارات وقنصليات يتفشى فيها الفساد والمحسوبيات والملكيات الخاصة والعائلية.

سادساً: تركة المحسوبيات والفساد والهيمنة الاقتصادية للنخبة المنفصلة كلياً عن واقع شعبنا، فبعد أن تأملنا خيراً من السيد أبومازن ببناء النظام السياسي الفلسطيني والقضاء على الفساد والمحسوبيات، تفاجئناً أن إجراءاته شكلية؛ فالقطط السمان بالسلطة لم يمسهم أحد على العكس فإن نفوذهم وسطوتهم ازداد أكثر.

سابعاً: تركة العلاقات المتردية مع البلدان العربية والدولية، فبعد أن حدد أبومازن معسكر تحالفه غير المفهوم مع الأمريكان وما يُسمى بدول الاعتدال العربية، وراهن أخيراً على ما كنا نحذر منه على الدوام بأن أمريكا ودول الاعتدال تريد الإجهاض على المقاومة وتدمير مستقبل الشعب الفلسطيني وحلمه بالعودة والاستقلال، وتصادم الرئيس بسياساته مع الجميع رغم كل ما قدمه إرضاءً لهؤلاء، وتصادم حتى مع عدة دول وقوى مهمة منها إيران وسوريا و مصر والعراق وحزب الله وتونس وغيرهم، ناهيك عن صدامه مع قوى فلسطينية مهمة في الشارع.

ثامناً: تركة غيتو غزة من حصار وتجويع ممنهج في القطاع وقطع الكهرباء والرواتب والمعاناة وإفقار لكافة شرائح القطاع دون وجه حق، والإصرار على المصالحة ضمن شروطه ومحدداته الخاصة والتي تعني استمرار معاناة وعقاب أهلنا في القطاع وتأبيد الانقسام.

تاسعاً: تركة تدمير النظام الديمقراطي في فلسطين؛ يبدو أن أبومازن كان يبحث عن الشرعية المفتقدة حين سعى لعقد الانتخابات عام 2006، وبعد انتهاء ولايته وتعطيل إجراء الانتخابات ضمن توافق وطني فإن مستقبل الشعب الفلسطيني يبقى غامضاً ويسير في طريق الاستبداد المطلق لفئة معينة تعتبر نفسها الوصية والراعية للمصالح الوطنية دون غيرها.

عاشراً: تركة إهمال القدس والمقدسيين وعدم صوغ استراتيجية وطنية لوقف سياسة التهويد، فخير رد على إعلان "ترامب" كان من الأجدى والأجدر توفير دعم ومتطلبات المقدسيين، ودعم المؤسسات المقدسية والعوائل المحرومة هناك.

إن هذه النقاط ليست سوى تكريس لأزمة حقيقية واجهها الشعب الفلسطيني بما يحمله ذلك من مضامين تهدد النظام السياسي الفلسطيني، ولا نبالغ عندما نقول أن الهوية الفلسطينية باتت في خطر؛ فعندما يشعر المواطن أن هذه السلطة سواء في القطاع أم في الضفة لا تُعبّر عنه، وعندما تتكاتف الجهود الإسرائيلية والأمريكية والعربية لإلغاء الحقوق والثوابت الوطنية تصبح الهوية الفلسطينية في خبر كان، ونعود إلى المربع الأول لتشكيل الكينونة الفلسطينية وبما يعني شطب وإلغاء عقود من النضال والتضحيات.

وحقيقة الأمر، فإن عدم إجراء انتخابات وترك البيت الفلسطيني في الداخل والشتات مفتت، وتعطيل المصالحة وملاحقة البنى التحتية للمقاومة في الضفة، والاستئثار بالقرار الفلسطيني فإن هذا يقود إلى استحداث شرعية خطيرة؛ فغياب الشرعية الديمقراطية وتغييب الشرعية الثورية جعل من الشرعية المستمدة من الأجهزة الأمنية هي المنطق السائد.

ولو اعتبرنا أن التوقيع على الاتفاقيات الدولية والأممية وحمل الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة إنجازاً للإنصاف رغم تأخره فإننا لا نستطيع أن نخفي التلكؤ والمماطلة والتسويف في التوجه إلى المحاكم الدولية وتحديداً في ملف الأسرى الفلسطينيين باعتبارهم أسرى حرب.

أعتقد أن الزمن يلاحق أبومازن وهذه هي فرصته الأخيرة لما تبقى من أمر لإصلاح ما أفسده الدهر، إنها فرصته قبل الوداع ليترك بصمة وأثر إيجابي لمستقبل الشعب الفلسطيني عبر اتخاذ خطوات جريئة منها:

1) عدم عقد اجتماع المجلس الوطني في رام الله، لأن عقده هناك يشكّل إهانة للقوى الوطنية ويضرب بعرض الحائط قرارات الإجماع الوطني، ومحاولات إحداث فتنة داخلية، فلا حل سوى عقد مجلس وطني توحيدي حسب اتفاق القاهرة آذار 2005 وقرارات مخرجات بيروت بناير 2017، لتكون الخطوة الأولى نحو إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني وترتيب البيت الفلسطيني وبناء (م.ت.ف) على أسس وطنية وديمقراطية لتصبح فعلاً البيت الجامع الممثل للكل الفلسطيني.

2) وقف العقوبات ضد قطاع غزة بشكل كامل وتشكيل حكومة إنقاذ وطني توافقية تقوم بمهماتها في تحمّل مسئولياتها في تعزيز صمود شعبنا، وتهيئة المناخات الإيجابية لانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.

3) انسجاماً مع الحالة الشعبية والحدث الكبير الذي رأيناه بمسيرات العودة، نؤكد على ضرورة العمل من أجل صياغة استراتيجية مقاومة وطنية تضمن الحفاظ على كافة أشكال النضال المكفولة دولياً. وإن إعادة مطلب السيطرة على الأمن في قطاع غزة يجب أن يكون مفهوم لحماية المقاومة بغزة ضمن الاستراتيجية الكفاحية التوافقية.

4) إنهاء كافة ملفات الاعتقال السياسي والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ووقف كافة أشكال التعذيب التي تُمارس في سجون السلطة ومحاسبة مرتكبيها.

5) البحث الجدي في إنهاء كافة الاتفاقيات المسيئة بحق شعبنا ولا سيما أوسلو والتي أطلقت دولة الاحتلال رصاصة الرحمة عليه، والبحث في خيارات جديدة كتفكيك السلطة أو إعادة بنائها على أسس وحدوية ومقاومة ووطنية.

هذه بعض النقاط الأولية حول مستقبل مشرق لشعبنا؛ فالطريق أمامنا مظلم خاصة وأن هناك فئة حتى اللحظة تعطّل بناء مؤسساتنا الوطنية كاستجابة للتحديات الحالية، والمرحلة الحالية تحتاج إلى إيجاد بديل لأبي مازن المنتهية ولايته وذلك عبر انتخابات وطنية شاملة، وليس على أساس توزيع التركة على نخبة معينة كما يتم تداوله في الإعلام، فترك شعبنا إلى المصير المجهول ما بعد أبومازن يثير لدينا الكثير من الشكوك حول مصداقية وصحة الرواية والإرث الذي يريد أبومازن تركه لشعبنا.

• من أبرز قيادات الحركة الوطنية الأسيرة

نقلا عن مركز حنظلة