Menu

غسان كنفاني.. فكرةٌ كشفت قبح فكرتهم

حاتم استانبولي

غسان ما زال بيننا، غسان الفكرة التي تدحرجت وكبرت وخطفت وهربت وعادت بأشكال وألوان قوس قزح، فكرة امتزجت وتداخلت فيها القيم الإنسانية المقاوِمة الثورية. فكرةٌ حملها أطفال فلسطين وشبابها ونساؤها وشيوخها، فكرةٌ تعطي الأسير مبررات صموده، وتعطي الشهيد مبررات تضحيته، وتعطي الأم شجاعة تحمل فقدانها لأبنائها، وتعطي الفلسطينيّ أملاً بالعودة والنصر. فكرةٌ عمّقت أزمة نقيضها وكشفت عمق زيفها وكذبها. فكرة كانت نبعًا لعطاء شامل. فكرةٌ حولت الرصاصة لأداة حرية وحولت الكلمة لحجر يحمله الصغير والكبير.

فكرةٌ حاولوا تفتيتها وإلغاءها وإلحاقها، وأرغموها على السفر عبر البحار والجبال، وجمعوها حول عواصمهم ومدنهم لتكبر وتتوسع وتدخل بيوتهم وتجتمع وتعود وتحول الخوف والفقر والتشرد إلى ماردٍ يقُلِق مضاجعهم.

فعاودوا الكرّة من جديد لتفتيتها وإلغائها وتشريدها وإلحاقها، فظهرت لهم من جديد في القدس ونابلس وعكا وحيفا ورام الله ودمشق وعمان وتونس والجزائر وبغداد وبيروت وعواصم الشتات.

أما في غزة فهزأت بفكرتهم وحاربتها بألعاب أطفالها وأعادت الصراع لأصله، صراع بين فكرتين صراع لا يخضع لموازين قوى عسكرية أو اقتصادية أو مالية. فكرة أعادت الروح لمحيطها وأكدت أنها هي الفكرة الناظمة وأنها معيار الممارسة فكرة أينما حضرت فهي توحّد، بغضّ النظر عن اللغات أو الألوان.

فكرة أعادت الأمل في زمن هزائمهم، فكرة تسلّلت إلى خيام النكبة وحولت أعمدة خيامها لبنادق حرية. فكرة ترفض اعترافاتهم وتطلق الأطفال والشباب والشابات والرجال والنساء والشيوخ في نهرٍ بشريّ ليرفض فكرة صفقة عصرهم، لتتحول إلى صفعةً لهم ولعملائهم. فكرة حولت الأطفال إلى جنرالات في مواجهة جبروت طغيانهم.

فكرة أعادت التوازن للصراع ووضعته في سياقه الأصيل. بين فكرتين: فكرة تحمل جوهرًا إنسانيًا مقاومًا ثوريًا وبين فكرة ظالمة طاغية تحمل جوهرًا عنصريًا استعماريًا إحلاليًا.

غسان منذ أن خطّ الكلمة الأولى أراد أن يقول لنا أن الصراع بين فكرتين وهذا الصراع لا يمكن حله إلا عبر انتصار الفكرة الانسانية المقاومة الثورية. هذه الفكرة التي عبر عنها بأدبه ورسالاته ومقالاته وحصص تدريسه وحواراته. هذه الفكرة التي وضعها في صميم محرك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ينظر لها كل نقيضي الفكرة الفلسطينية الإنسانية الثورية المقاومة على أنها تنظيم لا يمكن تركيعه بغض النظر عن ظروفه القائمة ولكنه هو الناظم والحامي لفكرة غسان الإنسانية المقاومة الثورية.

بكل بساطة فكرة غسان هي فكرة فلسطين الجامعة، فكرة تقول إن فلسطين هي القضية. فلسطين هي كاشفة قبح فكرتهم. والعودة إلى حيفا ويافا واللد والرملة والجليل والقدس وكل المدن والقرى هي القضية وأصلها.

هذه العودة التي حملتها جماهير شعبنا في كل بقاع شتاته هذه الفكرة هي الموحدة والناظمة هذه الفكرة هي خشبة الخلاص لكل الشعوب. باغتيالهم لغسان كانوا يظنّون أنهم سيقتلون الفكرة في مهدها ولكنهم لم يدركوا أن الفكرة حملت غسان في أحشائها فأصبح جزءًا منها. غسان اللّاجئ المُدرّس الصحفي الكاتب السياسيّ المقاوم الثوري الإنسان العاشق القائد. هذه صفات اكتسبها غسان بالممارسة وعبر عنها ولا احد يعلم إذا ما كانت الفكرة هي التي اختارت غسان ليعبر عنها ويكون قربانًا لها لتحمله وتنشر خلاياه لكي تبعث الفكرة من جديد في غزة والقدس والناصرة وحيفا ودمشق وعمان وبيروت والقاهرة وبغداد والجزائر وتونس و اليمن لتكون ضابطًا إيقاعيًا لسمفونية العودة. غسان فكرة كشفت قبح فكرتهم.