Menu

إعادة تموضع للنظام الرأسمالي العالمي

حاتم استانبولي

منذ أن خرج كارل ماركس بنظريته حول فائض القيمة، ما زالت هي المغذي الدائم لتطور النظام الرأسمالي وتقلباته وتغيير مراكزه.

فائض القيمة هي قيمة حسابية رقمية مجّردة، ولكي تكتسب ملموسيتها وتفعل في الواقع، عليها أن تجد السوق الذي يتحكم بقيمة فائض القيمة، وفي هذا الصدد فإن عوامل وظروف عديدة تعمل لكي يكون هنالك فائض نقدي ملموس يراكم قيمة نقدية.

السوق هو العامل الحاسم في تحقيق فائض القيمة وتحويلها من قيمة مجردة إلى قيمة ملموسة.

في بدايات ظهور الرأسمالية حدثت صراعات وحروب على تحديد أطر قانونية وجيوسياسية لتحديد أطر للسوق. وخيضت الحروب بين مراكز رأس المال وتمخضت عنها اتفاقيات اقتصادية تحدد إنشاء مؤسسات اقتصادية ومالية تتم فيها حل تناقضاتها من جانب، والاتفاق على توزيع الأسواق لمنتجاتها ومناطق نفوذها للحصول على الموارد المادية لمتطلبات صناعاتها.ن

ومع تطور رأس المال وزيادة معدلات الإنتاج، أصبحت السلع تتطلب أسواقًا أوسع من إطارها القومي، وهذا تتطلب تطوير القوانين الداخلية الناظمة للعلاقات بين مراكز رأس المال وإعطاء آفاق للاندماج بين المؤسسات الصناعية والمالية الرأسمالية وتسهيل تنقلها وعملها لتصبح عابرة للحدود. وهذا تطلب عقد اتفاقيات لإنشاء مؤسسات تحكم العلاقات فيما بينها، وتطلب من جانب آخر عمليات جيوسياسية لتوحيد السوق لحرية تدفق السلع. وأُنشئت منظمة التجارة العالمية كإطار لحل التعارضات المحتملة بين اقتصادياتها.

ومع تطور العلاقات الرأسمالية أصبحت الأطر الوطنية عامل معيق لحركة رأس المال، وفي هذا السياق أصبحت هنالك ضرورة لسقوط الحدود القومية وغياب وطنية الدولة لصالح حرية عمل التجمعات الصناعية وتنقلها بين الأسواق الأقل كلفة لتحقيق فائض قيمة أعلى من ناحية والهروب من استحقاقات الضريبة في الدولة الرأسمالية.

هذه الإجراءات كانت لها انعكاسات إيجابية على المدى القريب، لكنها كانت لها آثار سلبية على المدى الطويل؛ تمثلت في ارتفاع معدلات البطالة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، وإيجابية على المدى الطويل في المجتمعات النامية كالصين والهند وجنوب افريقيا والبرازيل حيث استفادت من استثمارات رأس المال وطورت من صناعتها حتى وصلت لتنافس ووصلت لتكون جزءًا فاعلًا في نادي الدول الصناعية الكبرى.

ومع انهيار منظومة الدول الاشتراكية دخلت الرأسمالية في مرحلة جديدة من التعارض والصراع فيما بينها في حين حاولت الولايات المتحدة استثمار هذا الانهيار، ووضع يدها على أسواق وملكيات الاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو، مما حقق لها دخلًا ماديًا هائلًا في مرحلة التسعينييات؛ انعكس في تعزيز بعض النزعات المتطرفة التي كانت ترى أن العالم أصبح مواتيًا لإخضاعه لسلطة مركزية واحدة.

بدأت برسم السيناريوهات لتحقيق أهدافها الاقتصادية عبر وسائل متعددة حسب شروط كل حيز إقليمي، حيث كانت الظروف سهلة ومهيأة في دول نفوذ الاتحاد السوفييتي، وكان يتطلب فقط عدة شعارات مضللة مستفيدة من الإرث السلبي للنظم البيرقراطية السابقة معززة بضخ إعلامي بشعار سقوط الأديولوجيات لصالح المصالح وعززت النزعة الفردية لمواجهة الشرور.

أمّا في الشرق الأوسط فإن ظروفه كانت تختلف ومعدلات العداء السياسي للإمبريالية كانت أعلى لأسباب تخص الصراع الوطني والقومي الذي كان يطغى على الصراع الاجتماعي. فكان يتطلب أدوات أكثر خبثًا حيث بدأ بتحجيم وتفريغ أدوات الصراع وآلياته معززًا بضخ إعلامي يهدف لتحويل بوصلة الصراع من وطني تحرري إلى صراعات دينية مذهبية تؤسس الى إعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية بناء على قاعدة الدين والمذهب والطائفة مستفدين من أدواتهم الدينية السياسية التي أسسها الاستعمار المباشر ورعاها وغير من أشكالها وتعبيراتها على مدى عقود واستخدمها ضد التوجهات السياسية المعادية للاستعمار المباشر وغير المباشر.

وإلهاء المنطقة بهذه الصراعات والاستفادة منها لتدمير ذاتها من جهة وإبقاء هيمنته من جهة أخرى. وإبقائه سوقًا للاستهلاك وموردًا رخيصًا للطاقة وبلا أية تنمية حقيقية لشعوبها.

من الواضح ان التعارضات بين مراكز رأس المال القديم وادواته من صندوق النقد والبنك الدولي وبين الدول الراسمالية الناشئة كالصين والهند وروسيا بدأت تتصاعد حدتها لكون الأخيرة ترفض الانصياع الكامل لشروط المؤسسات الدولية التي تتحكم بها الولايات المتحدة وحليفاتها. التي بدأت تتعامل مع هذه الدول كدول مارقة تفرض عقوبات اقتصادية ومالية اعتباطية الذي كان أساسا لرد فعل جمعي من هذه الدول الذي نتج عنه تشكيل دول البريكس الاقتصادي الذي اصبح يشكل ملاذا للدول التي تريد أن تخرج من الهيمنة الأمريكية .

إن أهم تحدٍ لهذه الدول يتمثل في الخروج من العمليات المالية للقطع النقدي بين عملاتها المعتمدة على السياسسة النقدية التي حددها صندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات المالية القائم عى اساس القيمة السوقية للدولار المستند الى حجم الأقتصاد الأمريكي . ان الخطأ الكبر الذي ارتكب هو تغيير القيمة الذهبية للعملات واستبدالها بالقيمة السوقية للدولار بالطبع تم هذا بعد الحرب العالمية الثانية عندما استفادت الولايات المتحدة من نتائجها ووظفتها اقتصاديا وسياسيا مستندة الى تعبئة اعلامية وسياسة من ان الخطر على الرأسمالية ياتي من الشيوعية وظروف اوروبا التي خرجت منهكة من الحرب العالمية وطلبت المساعدة الامريكية لتحقيق اعادة البناء من خلال مشروع مارشال . فقد انشات في حينها مؤسستين ماليتين هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واعطتهما مشروعية دولية كادوات للسيطرة الاقتصادية والمالية على دول وشعوب العالم .

إن التململات من العقوبات المالية والتصنيفات الاتمانية من قبل دول هامة وتلعب دورًا هامًا في حركة رأس المال العالمي تضعها امام تحديات اللجوء الى انشاء مؤسسات وتجمعات اقتصادية جديدة اذا ما كتب لها النجاح فانها قد تعيد خارطة تموضع راس المال وحركته وتاثيره في السياسة الدولية وتعيد بناء المؤسسات الدولية المالية والأقتصادية والسياسية الدولية .

إن طرح التعاملات المالية بالعملات الوطنية وإعادة الاعتبار للرصيد الذهبي للعملات الوطنية يفتح الباب امام سحب البساط من تحت العملة الأمريكية ويتطلب اعادة تقييمها بناء على اسس جديدة سيحددها مدى نجاح التشكيلات الجديدة في اعتماد معيار آخر لتقييم عملاتها وتبادلها قد يعيد للذهب دوره .

عندما تم تحويل تقييم القيمة التبادلية للعملة الأمريكية باعتماد قيمة الدولار على أساس قيمة سعر الأونصة الذهبية 32 دولارا من 1944حتى 1971 .

بعدها أسقطت الولايات المتحدة هذا المبدأ وحولت الدولار أساسا لتقييم كافة العملات العالمية اي ان قيمة سلة العملات في جهة والدولار في جهة اخرى هذا اتاح ان تلعب الولايات المتحدة دورا رئيسيا في السيطرة على النظام المالي العالمي واصبح البنك المركزي الامريكي FID هو اللاعب الريئسي المتحكم بحركة راس المال .

في نظرة سريعة لقيمة الدولار وحجمه ودوره يتطلب الأمر التدقيق بالفرق بين سعر أونصة الذهب حتى عام 1971 التي كانت قيمتها 32 دولارًا وبين قيمتها اليوم 1200 دولار للأونصة هذا يعطي مؤشر لمدى الغبن الذي وقع على اقتصاديات الدول في حين أن الشركات الرأسمالية تسرق الذهب من دول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية بقيمة استخراجه مضافًا ربحًا ضيقًا لبعض الحكومات المعينة من قبلها.

فإننا نرى أن عملات هذه الدول التي تملك احتياطيات هائلة من مواد الخام إذا قيمت على أساس حجمها السكاني والجغرافي فإنها عمليًا تعتبر أغنى من الدول الكبرى، إن الخداع الذي يمارس على هذه الشعوب بتحديد قيمة عملتها بناء على قرارات سياسية، وليس بناء على إنتاجها من المواد الخام وثرواتها المنهوبة، يعتبر استمرارًا لإذلالها واستعمارها.

إن الموقف الشجاع لحكومة فنزويلا إذا ما كتب له النجاح سيشكل مثالًا للدول الأخرى لإعادة تقييم عملاتها بناء على ما تملكه من موارد طبيعية حيث حددت فنزويلا سعر البوليفار الفنزويلي الجديد بناء على قيمة الـ 36 دولار لبرميل النفط، هذه سابقة تاريخية وضربة استباقية للدولار ودوره، وهي تعزز النزعة الانفصالية للدول الأخرى التي سعت لبيع الأصول الحكومية الأمريكية (السندات الحكومية) للهروب من احتمالية تجميد عوائدها المالية التي هي على شكل سندات حكومية .

إن المعركة التي بدأها ترامب ومستشاروه ضد الدول التي تحاول بناء اقتصاديات وطنية بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية سيكون لها نتائج على كافة المستويات، خاصة أن معظم هذه الدول تملك اقتصاديات ناشئة وموارد طبيعية وثروات نفطية ومعدنية ضرورية للسوق العالمية. إن ما تقوم به إدارة ترامب يعاكس قوانين تطور الرأسمالية التي تسعى إلى تحويل الكرة الأرضية إلى سوق واحدة لمنتجاتها وموردًا للمواد الخام. ترامب يرى العالم من خلال كازينو، يريد أن يطوع النظام المالي والاتفاقيات الدولية بما يعزز لعبهم المستمر في كازينو ترامب المخصصة صالته بما يتوافق مع حجم رأس المال الذي يحمله كل لاعب أما عن بقية الشعوب فعليها أن تفتح بلدانها وعمق أرضها لاستخراج كل ما في باطنه لمتطلبات استمرار عمل الكازينو .

بنهاية الأمر فإن قوانين السوق وحاجياته وقيمة المنتج وقيمة المواد الخام الإستراتيجية ستلعب دورًا هامًا في إعادة تموضع تمركز رأس المال ومعياره وناظمه.