Menu

أمريكا والإخوان وبداية التقسيم

 

تجدد الحديث مرة أخرى حول علاقة أمريكا بالاخوان بمناسبة الاعلان عن زيارة وفد من «الجماعة» إلى واشنطن, واعتراض الحكومة المصرية صراحة على مثل هذه الخطوة, مما دعى الأخيرة للتراجع عن استقباله ولكن مع احتفاظها - كما جاء على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية - بالابقاء على التواصل مع كل الأطياف السياسية كجزء من سياستها العامة وهو موقف مراوغ يحمل التراجع وعدم التراجع فى الوقت نفسه طالما ستظل الجسور مفتوحة سواء بشكل معلن أوغير معلن!

والسؤال المنطقىA هنا هو لماذا تُبقى أمريكا على علاقتها بالاخوان رغم ما تسببه لها من توتر فى علاقاتها بالنظام الحالى فى مصر؟ وهل هذه العلاقة تبدأ وتنتهى عند حدود الحالة المصرية أم أن المسألة أوسع من ذلك وترتبط بمجمل استراتيجيتها فى الشرق الأوسط, والتى قد تحتفظ فيها للاخوان بدور محدد ضمن أدوار أخرى توزعها على الأطراف المختلفة لتوجيههم فى النهاية الوجهة التى تريدها؟

ليس مهما للاجابة عن هذه الأسئلة الرجوع الى الوثائق التاريخية لاثبات حقيقة العلاقة القديمة التى تربط الاخوان بالولايات المتحدة أو تحديدا بجهاز مخابراتها فهذه أمور لا تحتاج الى بذل مزيد من الجهد لأن كثيرا من العلاقات التاريخية قد تتعرض للتدهور أو تفقد أهميتها بحيث تنتهى دون حاجة للتدخل فيها وإنما الأهم هو الوقوف عند أسبابها فى الوقت الحاضر.

فقد ظلت هذه العلاقة القديمة كامنة حتى بدأت تتخذ أبعادا أوسع وربما أخطر فى زمن «الربيع العربى». ففى البداية وجدت واشنطن فى الاخوان (الذين شكلوا أهم معارضة منظمة فى ذلك الوقت) بديلا جاهزا للأنظمة التى أسقطتها الثورات وتحديدا فى مصر وتونس, الا أن إرادة الشعبين سارت فى طريق مغاير فاندلعت ثورة 30 يونيو ضد حكم الاخوان فى مصر مثلما خسروا (ممثلّين فى حزب النهضة) الانتخابات الرئاسية التونسية ولكن لم يكن هذا هو الحال فى دول أخرى عديدة بدا الاخوان يشكلون فيها جزءا من معادلة القوى وسط صراعات أهلية على السلطة والحكم, وهو ما يعنى أن قابليتهم «للتوظيف» ضمن الاستراتيجية الأمريكية مازالت قائمة. والأسباب عديدة, أولا, أن هناك تفكيرا جديا فى دوائر صناعة القرار الأمريكى لاعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط أو بعبارة أدق رسم خريطة جديدة له غير تلك التى أسفرت عنها اتفاقيات سايكس - بيكو فى أعقاب الحرب العالمية الأولى, والتى بموجبها نشأت كثير من الدول الحالية بحدودها المعروفة من العراق وسوريا ولبنان الى السعودية. وأن هذه الخريطة الجديدة لن تعتمد فيها فقط على دول وإنما سيدخل فى تشكيلها جماعات وطوائف وأقليات وغيرها من تجمعات سياسية مشابهة أو تنظيمات, وهو مايُطلق عليه «الفاعلون الجدد» أى الأطراف الأقل من «الدولة». ثانيا أن أمريكا تصنف الاخوان كجزء من المعسكر «السنى» فى مواجهة التوسع «الشيعى» الذى تتزعمه ايران وتسعى من خلاله لتدعيم نفوذها فى العراق وسوريا ولبنان ناهيك عن منطقة الخليج (اليمن والبحرين) وكلها مناطق تشكل أهمية حيوية لمصالحها. صحيح أنها توصلت مؤخرا لاتفاق مع طهران بشأن برنامجها النووى وأن هذا الاتفاق قد يضمن للأخيرة الاحتفاظ ببعض مناطق للنفوذ أو السيطرة ولكن هذا لا يعنى أن هذه «الصفقة» مفتوحة أو مطلقة, فواشنطن ستظل حريصة على الابقاء على توازن معين للقوى بين الجانبين أى السنى والشيعى. ثالثا, وبنفس المنطق, فان توظيفها للاخوان قد يدخل ضمن استراتيجيتها لمواجهة التنظيمات السنية المسلحة مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة أو ما تسميها بـ «الحرب على الارهاب», ليس لأنها تعتبرهم بالفعل قوة «معتدلة» فكريا وأيديولوجيا - فهى تنظر فى النهاية الى جميع تلك الجماعات باعتبارها ذات مرجعية دينية ومذهبية واحدة- ولكن لأنها تملك التحاور معهم وبالتالى فسيكونون الأقدر من وجهة النظر هذه على احتواء الأكثر عنفا. رابعا, هو ما قد يتعلق ببداية وضع الخريطة الجديدة موضع التنفيذ أى اعادة التقسيم. قد يبدو هذا السيناريو بعيدا للبعض ولكن الواقع على الأرض يُنبىء بغير ذلك خاصة فى الدول التى تشهد صراعات حادة دون امكانية للتوصل الى تسويات سياسية تحافظ على وحدة الدولة ووجودها والأزمة السورية هنا ربما تكون نموذجا لما قد يأتى. فنظام بشار يمثل الأقلية العلوية الشيعية التى تحكم الأغلبية السنية والثورة عليه يقودها الاخوان هناك فضلا عن الأكراد الذين يطالبون بالانفصال والاتحاد مع أقرانهم فى تركيا والعراق. ولأن كلا من روسيا وايران تدعمان النظام فان أمريكا فى المقابل تدعم المعارضة ولأن سوريا باتت فعليا مقسمة طائفيا وميدانيا أى أنها تشهد حرب مناطق ومدن, فالأرجح أن تقسيمها جغرافيا وسياسيا بات مطروحا (دويلات علوية وسنية وكردية) فحتى اختفاء بشار من المشهد لن يعيد للدولة كيانها وفى مثل هذا السيناريو سيكون لكل طرف من الأطراف المحلية والاقليمية المرتبطة بها «حصة», ولن تحتاج أمريكا هنا للتدخل العسكرى المكلف مثلما حدث فى العراق ومن قبله أفغانستان ولا أيضا من خلال «الناتو» كما فى حالة ليبيا, إذ يكفى أن تمتنع عن التدخل المباشر وأن يطول أمد الحروب المذهبية والأهلية وأن يُنهك الجميع حتى يكون التقسيم هو الخيار المتبقى.

وفى هذه الحالة ستحتاج لتجميع القوى السنية دول ( السعودية وتركيا أساسا) وغير دول (الاخوان تحديدا كتنظيم سنى), وربما هذا ما يفسر التقارب الحالى بين هاتين الدولتين الاقليميتين اللتين تتفقان على الموقف من الأزمة السورية ورحيل بشار الأسد رغم اختلافهما فى قضايا أخرى وفى مقدمتها الموقف من مصر، وهى حالة قد تتكرر فى ليبيا لاحقا بحكم تشابه الأوضاع القائمة.

لهذه الأسباب ستستمر أمريكا فى الابقاء على تعاونها مع الاخوان لأنهم جزء من كل, ولأن السيناريوهات الموضوعة للمنطقة هى أكبر من جميع الأطراف وتستلزم - وفق رؤيتها - اللعب بجميع الأوراق حتى وإن ناقض بعضها البعض، ولهذه الأسباب أيضا يصعب تصديق أن أمريكا تراجعت عن موقفها بمجرد إلغاء اجتماع كان مزمعا عقده مع وفد إخوانى.


نقلا عن الأهرام