لم يكن جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند وبطل استقلالها وأهم شخصية سياسية في تاريخها الحديث، مقتنعاً بمقاطعة إسرائيل وعزلها عن حركة العالم الثالث. بمبادرة فردية مفاجئة أرسل دعوة إلى إسرائيل للمشاركة في مؤتمر «باندونج» عام ١٩٥٥. بدا الأمر محرجاً أمام اعتراض الرئيس المصري جمال عبد الناصر. تساءل نهرو: «أليست إسرائيل دولة آسيوية؟». بدا معتقداً أن مصر باعتراضها تتمسّك بشكليات لا تقتضيها طبيعة الحقائق، ثم إنها تخلط بين مشكلة داخلية وقضية عالمية يمثلها مؤتمر، يستهدف مواجهة الاستعمار والقضاء عليه، وفتح الطريق أمام حركة التحرر الوطني.
وفق رواية الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي حاوره في القضية الشائكة كصحافي مقرّب من قائد «يوليو»: «لنقل إنها تحتل رقعة أرض في آسيا، لكنها ليست آسيوية بالقطع... إسرائيل ليست غير رأس جسر للاستعمار على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض ومشاركتها ضد الطبيعة، طبيعة باندونج وطبيعة إسرائيل». أثناء المباحثات الرسمية في القاهرة، حسم عبد الناصر كل سجال: إما مصر والعالم العربي وإما إسرائيل. بلا اقتناع حقيقي استجاب نهرو وسحب دعوته خشية تفكّك حركة عدم الانحياز قبل أن تولد.
بحكم السياسات العملية قبل الصداقات الشخصية، لم يكن ممكناً تجاهل الدور المحوري المصري في قيادة تلك الحركة ولا مغبة خروج العالم العربي منها. لم يكن عبد الناصر صاحب فكرة «عدم الانحياز» التي تعود في الأصل إلى الزعيم الهندي، غير أنه أعطاها «الديناميكية» التي نجحت بفضل صورته التحررية في ربط نضال شعوب العالم الثالث.
بقوة الحقائق استجاب نهرو لاعتراض عبد الناصر. في ما بعد، أبدت الهند ارتباطاً قوياً بقضية العرب المركزية في ظروف ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وقفت مع مصر في محنتها كأن المصير واحد والهزيمة مشتركة، ووصلت العلاقات بين البلدين إلى ما يشبه التوأمة الاستراتيجية. القصة تكاد تكون مجهولة، كأن الشرق الآسيوي كان يوافقنا في النظر إلى الموقف من إسرائيل من دون أن يكون لنا دور ومعنا أوراق توضع على المائدة. ذات مرة سأل نهرو عبد الناصر: «لماذا تصف مصر بأنها دولة نامية؟ مصر دولة كبرى يا سيادة الرئيس»، فأجابه: «دولة كبرى بعالمها العربي».
لخصت تلك الإجابة رؤيته لمصر ومكانتها في عالمها؛ فمصر داخل حدودها بلد منكشف في أمنه القومي، ومصر منفتحة على عالمها العربي بلد قوي ومُهاب. هذا المعنى هو صلب ما أهدرناه في إدارة العلاقات الدولية في سبعينيات القرن الماضي، وأخذ مداه بعد توقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» عام 1978.
كان من أخطر نتائج تلك الاتفاقية خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وتهميش أدوارها في محيطها وقارتها.
عندما تغيب حقائق التاريخ لا ندرك ما الذي جرى بالضبط، تهدر المعاني في السياسة وتبهت الدروس في الذاكرة.
الحقيقة التي يجب ألا ننساها أن أحداً لا يدافع بالنيابة عن قضايا الآخرين، إذا لم يدافعوا هم عنها. عندما تتنكر لقضاياك، فلن يحترمها أحد آخر.
هذا ما حدث في العلاقات المصرية ـــ الهندية في ما آلت إليه بعد تقويض إرث التاريخ وأدواره التي كانت. لم يكن ممكناً أن تطلب من الأصدقاء السابقين الالتزام بأي مصالح أو حقوق عربية إذا كنت قد تخليّت عنها، وأخذت تسفه بنفسك من عدالتها.
في أجواء التخلي جرى اندفاع هندي إلى مدّ الجسور مع إسرائيل، وارتفعت بنسب عالية مستويات التعاون الاقتصادي والتقني والعسكري، ولم تكن الهند وحدها. صداقات الدول تنشأ على قواعد المصالح الاستراتيجية، لا هي رحلات خلوية في أمسيات صيف، ولا مصافحات عابرة في عرض طريق. المصالح الاستراتيجية تفوق كلمتها أي كلمة أخرى ـــ كما هي العادة دائماً. تلك القاعدة سرت على طبيعة العلاقات مع الصين ودول أخرى. ما الذي جرى؟ وماذا فعلنا بأنفسنا؟
المأساة الحقيقية في سياسة مصر الآسيوية إهدار أي معنى للتراكم بإهدار فلسفة الحركة نفسها. بصياغة الدكتور محمد السيد سليم، وهو واحد من أفضل من أنجبت مصر إلماماً ومعرفة بالعالم الآسيوي: «اتسمت السياسة المصرية في عهد ثورة يوليو تجاه آسيا بطابعها السياسي، حيث إنها كانت تتم في إطار منظور الحرب الباردة. ركزت على قضايا دعم حركات التحرر في آسيا وتصفية الاستعمار. لم تبلور علاقات قوية مع الدول التي كانت قد دخلت الكتلة الغربية، أو اتسمت سياستها بالولاء لتلك الكتلة، ومنها اليابان، وباكستان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وإيران».
بحسب روايته، فإن «لي كوان يو»، أول رئيس وزراء لسنغافورة، طلب من عبد الناصر عندما التقاه عام ١٩٦٤ مساعدة مصر في بناء ميناء سنغافورة. لم يستجب عبد الناصر لذلك الطلب، نظراً إلى ما كان معروفاً عن «لي كوان يو» من الولاء للغرب. «رغم أن باكستان وماليزيا و إيران دول إسلامية، إلا أن منظور ثورة يوليو كان هو منظور موقف تلك الدول من الهيمنة الغربية وليس منظور الدين فقط». لماذا لم تكن القضايا الاقتصادية هي نقطة التركيز المصرية في إدارة سياساتها الآسيوية؟ لأن المستوى الاقتصادي لمصر كان يفوق مثيله في معظم الدول الآسيوية.
«في عام ١٩٦٠ كان متوسط الدخل الفردي في مصر حوالى ٢٠٠ دولار سنوياً، بينما كان في كوريا الجنوبية ٧٠ دولاراً، كذلك كان الميزان التجاري بين مصر والصين الشعبية يميل بشدة لصالح مصر، ولم يبدأ هذا الميزان في التحول بشدة إلى صالح الصين إلا منذ سنة ١٩٨١، نتيجة سياسة الانفتاح الاستهلاكي التي اتبعتها مصر منذ منتصف السبعينيات، وعدم التركيز على التنمية المستقلة». كان ذلك هو السبب الجوهري في انقلاب الموازين الاقتصادية مع الشرق الآسيوي.
هكذا أهدرنا، ضمن ما أهدرناه في «كامب ديفيد»، أيّ قاعدة استراتيجية واقتصادية لبناء علاقات ندية مع اللاعبين الدوليين الآخرين. الآن نحن نتحدث عن صين ناهضة وقوية تتطلع في مدى سنوات إلى تصدر التصنيف الدولي كأقوى اقتصاد في العالم، لا عن بلد محاصر يعاني عزلة دبلوماسية، وصداماته الأيديولوجية مع الاتحاد السوفياتي تنهك حركته.
ونحن نتحدث عن هند جديدة تنازع بقوة التنين الصيني على معدلات التفوق والقوة، لا عن بلد يعاني بقسوة من الفقر والحرمان وتبعات الاستعمار البريطاني الطويل.
في مستجدات الشرق الآسيوي أن الصين عيونها مفتوحة على الهند أكثر من أي بلد آخر في آسيا، بما في ذلك اليابان ومن يسمون النمور، والهند تتابع بالتفاصيل ما يجرى في جارتها القوية وتنظر في ما يمكن أن تتبنّاه من سياسات تسمح بملاحقتها إلى القمة. وفي مستجدات اللعبة الدولية، فإن الولايات المتحدة الأميركية ـــ القوة الأولى حتى الآن ـــ تسعى إلى نقل مركز ثقل استراتيجيتها إلى الشرق الآسيوي، حيث المصالح الكبرى والتحديات الهائلة في القرن الحادي والعشرين.
هذه حقائق اليوم، فإذا لم ندركها فاتنا قطار القرن الجديد. عند إعلان الرئيس أنور السادات أن «٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة»، بدت مصر أمام انحدار استراتيجي.
عكس ذلك الإعلان نوع الاستراتيجيات والسياسات المصرية الجديدة، كأنه دعوة مفتوحة إلى الأصدقاء السابقين في الشرق الآسيوي لتنحية مصر من على أولويات تحالفاتها الدولية، والانفتاح على إسرائيل بصورة لم تكن متصوّرة.
الإعلان نفسه بمنطقه وتداعياته أفضى إلى ابتعاد أفريقي عن الدولة التي لعبت أكبر الأدوار في تحريرها والانفتاح على إسرائيل بدرجة تجاوزت ما كان يطلق عليه الاختراق إلى تعاون عسكري واقتصادي واستخباري فاق كل توقّع.
عندما لا تنظر إلى بلدك باعتبار فلن يضعها أحد في أي اعتبار.
هذا هو درس التاريخ القاسي الذي يتعيّن تذكير أنفسنا به والإلمام بتبعاته في أربعينية كامب ديفيد.