عبر السنتين الماضيتين، والتصريحات الرسمية في مختلف البلاد العربية تؤكد وتتفاخر بانتصارات قواها الأمنية على هذه الجماعة أو تلك من التكفيريين، وبعض هذه التصريحات بشَّر بالاجتثاث الكامل للوجود الإرهابي خلال فترة قصيرة قادمة.
لكن ما إن تمر أسابيع أو أشهر على تلك التصريحات المتفائلة المنتفخة بألاعيب السياسة، حتى نسمع عن ذلك التفجير الذي أودى بحياة العشرات من المواطنين في هذه المدينة أو تلك، أو نسمع عن هجوم عسكري معاكس جديد أدَّى إلى استعادة هذه القرية أو تلك، وتراجع واضح للوجود الحكومي الرسمي في تلك المناطق. وستمر على ما يظهر السنون وخلايا البربرية الجهادية العبثية المجنونة تنام وتستريح هنا لتستيقظ وتقتل وتدمِّر وتروِّع هناك.
السؤال الذي يطرح نفسه هو:
لماذا وإلى متى سنظل ندور في هذه الحلقة التي تدور حول نفسها، دون أن تكون هناك بوادر وصول إلى نهاية حاسمة لظاهرة تنهش في الجسد العربي وتضعفه لتوصله إلى حافة التمزق والانهيار؟
جواب السؤال هذا واضح لمن لديه ذرة معرفة بالتاريخ، وإلمام بالأسس التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية. إن تلك المعرفة وذلك الإلمام يؤكدان أن مواجهة ظاهرة دينية معقدة كظاهرة الجهاد التكفيري تحتاج إلى أكثر بكثير من الحلول العسكرية والأمنية التي مارستها وتمارسها السلطات العربية بنجاحات نسبية.
ذلك أن كل الدلائل تشير إلى فشل الأنظمة الرسمية العربية في دعم الحلول الأمنية التي تمارسها وتتغنَّى بنجاحاتها بتبنّي الحلول التالية:
أولاً، اتفاق الدول العربية على تنظيم جهد واحد مشترك لإجراء مراجعة نقدية موضوعية جذرية شجاعة للثقافة الدينية الإسلامية التي تلوثت عبر القرون من جرَّاء صراعات السياسة والحكم والاجتهادات المتزمتة المنغلقة المتخلفة، وممارسة انتهازية التقديس لما هو غير مقدَّس. إن ذلك سيتطلب تكوين مركز بحوث أو أكثر، مستقل عن نفوذ الحكومات أو مؤسسات الضغط المجتمعية المدنية، للقيام بمراجعة موضوع الفقه الإسلامي برمّته من جهة، وموضوع علوم الأحاديث النبوية من جهة أخرى.
الشباب المسلم الذي يلتحق بحركات الجهاد التكفيري ينهل من تلك الثقافة الدينية المملوءة بالدس والكذب والأساطير والخرافات التي تتعارض جذرياً مع القرآن الكريم ومقاصده الكبرى السمحة المسالمة.
وهو لا يجد ما يقابل تلك الثقافة ويبين نقاط ضعفها إلا في شكل محاولات وكتابات فردية متناثرة. إنه يحتاج إلى أن يحاط بثقافة دينية تجديدية إسلامية صحيحة في شكل جهد تجديدي شامل واسع الانتشار وعالي الصوت ومالك للسلطة المعنوية. ومثل هذا الجهد، مع الأسف، لا يوجد، بل ولا توجد دلائل على أنه سيحدث في القريب.
ثانياً، يسمع الإنسان بين الحين والآخر عن تعديلات وإصلاحات في تعليم مادة الدين في مدارس هذا البلد أو ذاك. وهي خطوات ناتجة في أغلبها عن ضغوط خارجية. ولذلك تبقى تلك الخطوات محدودة الأثر في المكان وفي الجانب المعرفي، وسطحية مظهرية في التفعيل.
لا يوجد شك بالأهمية القصوى للمدرسة والجامعة في تقديم جرعة دينية ثقافية مستنيرة ورافضة للخزعبلات التي ألحقت عبر القرون بتلك الثقافة. لكن ذلك الجهد، لكي يكون مؤثراً في شباب وشابات الوطن العربي كله، يحتاج لأن يكون جهداً عربياً مشتركاً.
هذا يتطلب أن تكلّف المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة للقيام بدراسات وبحوث ومناقشات؛ للاتفاق على منهج واحد لتدريس الثقافة الدينية في المدارس والجامعات.
هذا موضوع معقَّد، ولكنه ممكن التحقق بصورة تدريجية تراكمية ضمن بضع سنين، وليس ضمن عقود؛ ذلك أن الوضع المأساوي في أرض العرب لا يحتمل السير البطيء السّلحفاتي.
ثالثاً، لكنَّ موضوع القدرة الهائلة للجهاد التكفيري لاستقطاب الألوف من شباب وشابات الأمة العربية في صفوفه لا يعتمد فقط على الاستفادة من وجود ثقافة دينية متخلِّفة صالحة للاستغلال والتلاعب، ولا يعتمد على غياب تكوين مدرسي وجامعي يقاوم تلك الثقافة ويصِّحح أخطاءها ويطعمها بقدر كافٍ من العقلانية والتسامح والفهم المستنير، إنه يعتمد أيضاً على استغلال الغضب والتذمّر والثورة في عقول ونفوس الشباب والشابات، بسبب الأوضاع المعيشية السيئة التي يعيشونها، وبسبب غياب العدالة في مجتمعاتهم، وبسبب انتشار التسلّط والفساد في بلادهم، وبسبب هيمنة القوى الخارجية على مقدرات بلدانهم، وإشعارهم بالخجل والنقص والدونية.
فإذا كانت بعض الأنظمة السياسية العربية لا تقوم بخطوات تصحيح تلك الأوضاع، وكانت قوى المجتمعات المدنية تحت الحصار والبطش الأمني وغياب الحريات وسيادة القانون، فإن الشباب والشابات لن يروا في تجديد الثقافة الدينية وتغيير المناهج المدرسية إلا خطاباً منافقاً، يراد به تخديرهم والضّحك عليهم.
دون انتقال الحكومات والمجتمعات العربية، بجهود مشتركة، إلى مواجهة الجهاد التكفيري بمنظومة الحلول الأمنية، المدعومة بالخطوات الثلاث تلك، سنكون كمن يحرث في البحر، وسيبقى معنا هذا الجنون التكفيري عبر عقود قادمة، إن لم يكن عبر قرون.