Menu

حول مصر والحرب العالمية الأولى

أحمد الجمال

تؤدى التقديرات الاحتمالية إلى اختلاف الرؤي، ومن ثم الاختلاف حول حقيقة حدث من الأحداث، وفى هذا السياق جرى حوار بين الأستاذ الدكتور على بركات، أستاذ تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وبيني، وهو من أبرز المؤرخين العلماء، خاصة فى التاريخ الاجتماعى والاقتصادى لمصر ، إن لم يكن أكثرهم جدية ودأبًا وعكوفًا على البحث، حتى إن بعض كتبه استغرق نحو عقدين فى جمع المادة وصياغتها، حول ما كتبه عالم جليل آخر هو الأستاذ الدكتور على الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية المرموق.


كان الدكتور هلال قد كتب عن دور الجيش المصرى فى الحرب العالمية الأولي، فى مقاله المنشور بالأهرام الأحد 11 نوفمبر 2018 تحت عنوان: مصر شريك مهم فى انتصار الحرب العالمية الأولي، واستند إلى توثيق هيئة البحوث العسكرية للتاريخ العسكرى المصري، وأشار إلى دور أحد الباحثين فى التاريخ العسكري، هو أشرف صبري، ومما كتبه الدكتور هلال فى مقاله أن عدد القوات المصرية التى شاركت على جبهات الحرب العالمية الأولى بلغ مليونًا ومائتى ألف ضابط وجندي.


وبحكم التخصص، وأيضا بحكم ما يرى أنه أمانة علمية ووطنية، قال الدكتور بركات فى حوارنا: إن ذلك الرقم الذى ذكره الدكتور هلال مبالغ فيه، لأن عدد سكان مصر حتى فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لا يمكن أن يسمح بوجود مليون ومائتى ألف ضابط وجندى فى الخدمة العاملة بالجيش! ثم إن المصادر التاريخية المتصلة بتلك المرحلة, أى الحرب العالمية الأولي, تفيد بأن الذين استخدمتهم بريطانيا كدولة احتلال فى تلك الحرب من المصريين لم يكونوا ضباطًا وجنودًا بقدر ما كان معظمهم مواطنين من الفلاحين وفئات أخري، وبالقهر والإجبار.


وأشار الدكتور بركات إلى مقال كتبه المؤرخ الراحل، الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق، فى الأهرام بتاريخ 28 يوليو 1973 وفيه معلومات موثقة عن المصريين الذين أجبرتهم بريطانيا والسلطات المحلية آنذاك على خدمة المجهود الحربى فى أوروبا، كما أشار إلى ما ورد فى دراسته, أى الدكتور بركات, التى صدرت فى كتاب بعنوان القرية والسلطة فى مصر، فى سلسلة تاريخ المصريين التى تصدرها الهيئة العامة للكتاب، الصفحات من 262 إلى 266، وفى تلك الصفحات معلومات موثقة عن فداحة الأعباء التى تحملها المصريون جراء دخول بريطانيا الحرب ودخول مصر الحرب إلى جانب الحلفاء، وهى أعباء امتدت من الاستيلاء على الدواب من خيل وجمال وحمير، وعلى المحاصيل خاصة القمح، ثم إجبار البشر وبالسخرة على خدمة بريطانيا والحلفاء، ويضرب مثلًا بإبراهيم باشا حليم الذى كان مديرًا لجرحا خلال عام 1916 والنصف الأول من عام 1917، ورجال الحكومة الذين يدخلون القرية وينتظرون رجوع الفلاحين إلى منازلهم فى الغروب، فيحدقون بهم وينتقون أقدرهم على الخدمة، فإذا رفض أحدهم جُلد حتى الإقرار بالقبول، وعلى هذا النحو ساقوا أطفالًا فى سن الرابعة عشرة وشيوخًا فى سن السبعين.. ولفت الدكتور بركات إلى أن الوثائق البريطانية تشير إلى أن عدد العمال المصريين, الذين كانوا يعملون لدى الجيش البريطاني, ازداد تدريجيًا باتساع ميادين القتال، حتى وصل فى عام 1917 إلى 247 ألف عامل، ثم ارتفع هذا العدد فى عام 1918 حتى وصل إلى 320799 عاملًا.


ثم يعتمد الدكتور بركات على مرجع كتبه المؤرخ عبد الرحمن الرافعى الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي، لنجد أن العمال الذين جندوا فى السلطة يعملون فى ظروف بالغة القسوة فى فلسطين وشبه جزيرة غاليبولي، وفى الجبهة الفرنسية، وهناك مصدر آخر يتمثل فى مذكرات الدكتور عصمت سيف الدولة، الصادرة عن دار الهلال عام 1966, مشايخ جيل البداري، وفيها أنه: حسب رواية شاهد عيان من الفلاحين الذين عملوا فى الجبهة الفرنسية، حكى يونس عبد الله من قرية الهمامية مركز البدارى أسيوط أنهم عملوا فى حفر الخنادق فى ظروف تساقط المطر والثلج، وأنه سافر إلى فرنسا مع مجموعة يزيد عددها على خمسمائة فرد، جرى تقسيمهم إلى فرق، وعلى كل فرقة رئيس عمال، وضمت الفرقة التى كان فيها يونس أفرادًا من قرى مركز البداري، وعهد بها إلى ضابط مغربى يتكلم العربية، وكان معسكر العمال الذى ضم هذه الفرقة يبعد ثلاث ساعات عن ميناء كاليه الفرنسي، وأعطى كل فرد ثلاثة ألواح من الخشب لينام عليها وثلاث بطاطين وحذاء برقبة... إلى أن تصل رواية الشاهد المشارك إلى أن أحدهم مات متجمدًا من البرد ثم حملته عربة يجرها بغل إلى مكان مجهول، وأنهم أضربوا عن العمل، وأخبروا الضابط المغربى بأنهم يريدون العودة لبلادهم، وبعدها حضرت قوة فرنسية يقودها ضابط فرنسى برتبة جنرال، فقال لهم: نحن نحارب وأولادنا تموت وأنتم ترفضون العمل.. نحن نعرف حالتكم قبل أن تحضروا إلى هنا.. حقيقة أنكم متعبون لكنكم تعيشون عيشة الآدميين بدلًا من عيشة الكلاب التى كنتم تعيشونها.. وعندئذ ثار رئيس المجموعة وضرب ذلك القائد الفرنسى بالكوريك فشق صدره وفى لحظة فتحت القوة المصاحبة له النار على المجموعة فماتوا جميعًا، ووجد الراوي- أى يونس- نفسه بينهم ملقى على الأرض، فنصحه الضابط ذو الأصل المغربى بألا يتحرك، ثم حضرت عربتان خشبيتان، وبعد التأكد من موت الشخص كان يلقى فى العربة، فلما وصل الجند إلى الراوى أخبرهم الضابط المغربى بأنه جريح، ثم أمره أن يتحرك حتى لا يظنوه ميتًا، ثم تركوه فى الخيمة لمدة أسبوع، وبعدها أعادته السلطات الفرنسية إلى ميناء كاليه، حيث أعادته باخرة إلى بورسعيد.


من تلك المراجع والمصادر يؤكد الدكتور بركات أن الأمر لم يكن أمر جيش مصرى اقترب من المليون وربع المليون شارك مشاركة الند فى الحرب مع الحلفاء، ولكنها جموع من المصريين وُضعوا بالقهر فى خدمة جيوش الحلفاء!. وعلى الجانب الآخر فإننا نجد فيما كتبه الدكتور على الدين هلال أن الأمر لم يقتصر على الجبهة الأوروبية، ولكن كان الجيش المصرى آنذاك يؤدى دوره فى جبهة فلسطين وجبهة قناة السويس، إضافة لأوروبا، وأن الأوجب هو تحية هذا الجيش والبحث عن نقاط مضيئة فى تاريخنا الوطني.