يوم انطلقت حماس كفصيل وطني تحرري في ديسمبر عام 1987؛ لتسهم إسهاماً جاداً في تخلق الحراك الشعبي الثوري بما سمته في بيانها الأول بانتفاضة الشعب الفلسطيني، حيث حركت الجماهير الغاضبة من المساجد التي عملت فيها (حماس) منذ تشكلت في مراحلها الأولى. فالمساجد بالنسبة لحماس هي الحاضنة التربوية وهي المنطلق الدعوي، وفيها حلقات التعليم، ومنها تنطلق نداءات المواجهة والخطابات الإعلامية وحملات الإغاثة والإعانات.
ومعنى أن ينزل أبناء المساجد في الميدان ليواجهوا المحتلين؛ يعني ذلك لجموع الشعب الفلسطيني أنها نقطة تحول تاريخي جاءت مفاجئة لكل المتابعين والمراقبين، وباغتت هذه الانطلاقة سلطات الاحتلال التي لم تكن تعلم حجم العداء الذي يعتمل في قلوب فتية المساجد من الممارسات العنصرية والسلوكيات السادية التي كانت تمارسها الإدارات العسكرية الحاكمة في الأراضي الفلسطينية عام 1967م. أما وقد استمر الحراك الثوري إبان الانتفاضة الأولى في تصاعدٍ نوعي، فقدمت حماس فيه نماذج معتبرة في كل ساحات العمل الثوري، فكان الشيخ الموجه أحمد ياسين، والقائد الفذ الطبيب عبد العزيز الرنتيسي، والجنرال الشهيد عماد عقل، والعقل المهندس يحيى عياش، والمفكر الثوري الطبيب إبراهيم المقادمة، والقائمة تطول لهذه النماذج الفذة في العمل الوطني المقاوم وما أحدثوه من تطور نوعي في المسير التحرري.
غير أنَّ أوسلو قطعت هذا المسير التحرري المبارك لسبع سنوات عجاف، احتملت فيه حماس كل ألوان الضيم والتضييق والملاحقة، وحرصت ألَّا تنزلق في الاحتراب الداخلي الذي انتظره الاحتلال على أحرِّ من الجمر. ولكن حماس قد عملت بموازاة صبرها على أذى القريب، الإعداد للجولة القادمة من تنشئة الجيل المقاتل من أجل الحرية، فرسخت في الأجيال عقيدة الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وأنَّ الضعف الطارئ للأمة لا يبرر الاعتراف بحق مُدَّعي بالباطل الذي مُدَّ بحبل من الناس.
وما إن كانت الجولة الثانية (انتفاضة الأقصى) فإذا بحماس أشد وطأة، وأقوم صلباً، وأكثر صدقاً، وأجدى فاعلية في المواجهة مع الاحتلال الذي انقلب على كل التزاماته بعدما أدت السلطة الذي عليها بالباطل وزيادة.
ومرة أخرى توقف المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، ولوحقت من قبل أجهزة السلطة هناك بداعي لا لعسكرة الانتفاضة، وقد أعاد المجرم أرئيل شارون رسم الحدود الميدانية في عملية السور الواقي التي اقتحم فيها عاصمة الاستشهاديين (جنين القسام) وجبل النار نابلس وخليل الرحمن، وحاصر الرئيس أبو عمار في المقاطعة، ولكن في غزة كانت الأحداث فيها يصنعها الميدان الذي تجذر فيه القسام وأذرع المقاومة الأخرى، وقد حاولت عصابات مجرمة أن تغرقه في دوَّاماتٍ من العنف والانفلات، ولكنها فشلت في النفاذ من أي طريقٍ إلى المقاومة المسلحة المنصرفة بكليتها يوم ذاك في صناعة المواجهة مع الاحتلال والتطوير والإعداد لما هو قادم، حتى كان الانسحاب الأحادي بعد أن عجزت الآلة الصهيونية في حماية القرى المحصنة من حمم قذائف الهاون والأنفاق الهجومية البركانية؛ فتم الانسحاب عام 2005 تاركة سلطة عاجزة أعياها صراع النفوذ بين أقطابها، وكانت المقاومة المسلحة وفي صلبها القسام فتيَّةً شابة في تطور مستمر.
لقد كانت حماس في انطلاقتها إبَّان الانتفاضة الأولى نقلة نوعية للعمل الشعبي المقاوم، فقد أسهمت اسهامات مشكورة في الفعل الثوري وتعزيز الانتماء الوطني الفلسطيني، وعملت على إحياء ما اندرس من قيم نبيلة، وأعادت الاعتبار للهوية الوطنية الإسلامية في مواجهتها للثقافات الوافدة والأفكار الداعية إلى الإلحاد والقيم الهابطة.. وغير ذلك الكثير. فما كان لحماس أن تتصدر المشهد الفلسطيني المقاوم وتتسيَّد في ميادين المواجهة مع الاحتلال، لولا أنها أعدت لهذا الأمر إعداداً مشكوراً، فكان له أثره المباشر في رفعت مكانة القسام بين الأذرع المقاومة، وهذا ما يوجب على حماس أن تعمل جاهدة؛ لتستكمل بناء ذاتها في مضمار العمل السياسي من خلال حزب سياسي وطني جامع، يعمل وفق برنامج وطني يتسع للكل الفلسطيني، ويأخذ على عاتقه قيادة الدفة السياسية نحو التحرير لكل فلسطين، وإن تطلب الأمر مرحلية التحرير فهذا ما يسعه فقه السياسة الشرعية، ما لم تقر لباطل بحق لا يستحقه.
كما أن الواجب على حماس بناء استراتيجية مجتمعية، تأخذ في عين الاعتبار التنوع الثقافي، والتعددية السياسية والدينية، وإن كان الشعب الفلسطيني في أغلبه الأعم مسلم الديانة سني المذهب، إلا أن الجميع يجب أن يكونوا شركاء في المصير وشركاء في القرار. والواجب كذلك على حماس وهي في نحوها لريادة المشروع الوطني الفلسطيني أن تعيد خطابها الإعلامي بما يتوافق مع الارتقاء النوعي لحالتها التنظيمية، وقرأتها للمشهد السياسي، وإيمانها بالتنوع الثقافي للمجتمع الفلسطيني، وأن تبتعد كل البعد عن الأنا الحزبية في خطابها وممارساتها فهي المهلكة. وكما أن الواجب في تصدر المشروع الوطني كفاية حاجات الناس الأساسية من خلال بناء اقتصادي وطني حقيقي يوفر حياة كريمة، يحافظ على الطبقة الوسطى ويردم الفجوات الاجتماعية المتفحشة. والواجب كذلك لتصدر المشروع الوطني أن توظف حماس كافة الشرائح المجتمعية في مشروع التحرير، وتحسن توجيه الكل الفلسطيني في كل مناطق تواجده في الداخل الفلسطيني أو في الشتات نحو خيار التحرير، بعد تحديد الواجب على كل منطقة يتواجد فيها الفلسطينيون.. فالواجب الوطني في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة غيره في حق الشعب في الضفة الغربية وغير ذلك يكون في حق الشعب الفلسطيني في الداخل 48.
وهكذا حتى ينتظم الشعب الفلسطيني في إطار منظومة وطنية كبرى تأخذ على عاتقها جميعاً كلفة التحرير، ولا يترك جزء من الوطن – كما هو الحال في غزة- ليسدد فواتير التحرير وحده، فإذا ما انتظم الكل الفلسطيني في مشروع وطني تحترم فيه التنوعية الثقافية والسياسية ينعكس هذا الاحترام على لغة الخطاب الإعلامي والممارسات الإجرائية، عندئذ يمكن العمل الجاد في توظيف العمق العربي والإسلامي والإنساني في خدمة قضايانا الوطنية المصيرية، والتصدي بكل الأدوات الممكنة في مواجهة الاحتلال العنصري الغاشم.
فإن حماس اليوم وكل القوى الوطنية الحية على عاتقها حمل ثقيل وأمانة وطنية كبرى، فلا ينبغي بحال أن تتلكأ في القيام بهذا الواجب إن كانت تريد أن تنجز مهمة التحرير مع الشعب الفلسطيني نيابة عن الأمة، وإلا فإن سنة الله الكونية ماضية “وأن تتولوا يستبدل قوما غيركم”!